#حكايات_من_سِفْرِ_الإغتراب (2) (د. عطور، أم عفراء)
إسمها ملفت جداً كما أسماء كثيرة ألِفَتَها الأذن وأطربتها رغم جِدَتها واستثنائيتها وبعض غرابتها، وقد اشتهرت هذه البلاد الجميلة بها وبأسماء تخصها وحدها…
بعد أن اصبحت د. عطور طبيبة أولادي صارت صديقة وقريبة من القلب، كنت كلما داعبتْ عيني دمعة شوق لأهلي، أحمل طفلتي الصغيرة وأدّعي مرضها لتكشف عليها، فتلاحظ حالتي وتقول يبدو أن لدينا طفل آخر مريض وأضحك وتضحك وأعود لحالتي الأولى ونمضي بعض الوقت معاً وأتركها لعيادتها ومرضاها من الملائكة الطيبين.
ذات نهار وقد دوى في البيت قرار مفاجيء واستعد زوجي للعودة للوطن على أن نلحق به إن تيسَّرَتْ رحلته ومرت بسلام،فقررت أن أودع بعض أحبابي وجيراني في المدينةالتي تغفو على صوت الصواريخ وتصحو لتعد قتلاها، وكانت الحرب في عز شررها وشرّها…
ضمن من زرتهم هي، أخبرتها فارتَعَبَتْ وتغيّرت قسمات وجهها وسألتني هل لديكم من يضمنكم هناك؟! فضحكتُ بعلو صوتي فردت بحزم: ”لا عيوني أم غسان* ما يصير! لازم تاخذون تعهد مكتوب بسلامتكم من أي أذى قد يحدث لكم لا سمح الله“. فهززتُ رأسي بنعم حتى لا أزيد إنشغالها وودعتها متمنية السلامة لبغداد ولأعزاء علينا يسكنونها.
(بعد مرور أربع سنوات)…
كان الضجيج حولنا شديداً حدّ أن آذاننا لم تعد تسمع شيئاً مع تصاعد الغبار والأتربة الذي تثيره المروحية التي تحمل شخصية أردنية كبيرة لحضور المهرجان الأشهر عربياً وكان بجواري طفلي الصغير فتملَّكه الرعب فقفز لحضني يحتمي بي. بعد أن حطت الطائرة وتهادت السيدة الجميلة إنتشر عَبَقُ الحسن وعم الهدوء إلا من همهمة سرَت بين الجالسين عن قرب ظهور المطربة مادامت رئيسة المهرجان قد حلّت بالمكان…
كنت أجلس منتظرة طلّة المطربة الجميلة التي أحبها العرب لاختياراتها القريبة من قلوبهم، دقائق وظهرت على المسرح بكامل أناقتها وحيّت السيدة المهمة الجالسة في الصفّ الأول وبدأت الموسيقى وتهادى الصوت الحريري فساد صمت وخشوع إعجاباً بهذه الهبة الإستثنائية التي تملكها مطربتنا…
تابعتُ الصوت الناعم والأداء الكلاسيكي العالي المستوى وسرحتُ في المكان والناس وكنت موزعة القلب بين حاضرٍ في المكان وبين غائبٍ يرقب حالةً من الستاتيك لا تتغير في حياتي وحياة من يقبع خلف القضبان ينتظر فرجاً لم تحن لحظته.
كنت أصوب نظري لجهة معينة،اتمعّن في جهة محددة واستعيده ثانية فيجبرني على العودة لنفس الاتجاه، فوجه سيدة تجلس بين مايبدو أنه زوجها وبجوارها شابة صغيرة السن، أعرفه رغم الإضاءة الخافتة، نعم هي!! تأكدت عندما حانتْ منها هي الأخرى التفاتة في اتجاهي. ولا أعرف لهذه الحالة تفسيراً فالمكان مكتظٌ بالبشر وبيني وبينها خمس او ست صفوف.
عندما التقت أعيننا كان لابد من التقدم نحوها فوقفتُ غير أن أحد الحراس جاء مسرعاً وأخبرني بأن ما أفعله ممنوع بحكم تواجد السيدة رفيعة المكانة ورئيسة المهرجان، غير أن شجاعة لا أعرف لها تفسير سوى الرغبة في رؤية من تيسرت لي رؤيتها ولن أفرط في هذه الفرصة مهما كان الثمن.. فشرحتُ للرجل قصتنا وأنني وهي صديقتان.. ووو…. فَلانَ قلب الرجل -وقلوب البشر في الغالب تلين وترأف في هكذا حالة-.. تقدمت الصفوف المتراصّة بصعوبة -وانا التي أخشى الأماكن المرتفعة- ووصلتُ لها وتعانقنا ومشاعر الفرح مختلطاً بذهول لهذه الصدفة النادرة هنا وفي (عمّان)، وبعد كل هذه السنين، التقي د. عطور وأسرتها -زوجها طبيب الجملة العصبية الشهير في بغداد والصبية الجميلة عفراء- وقد جاءت هذه الأسرة من بلدها لاجئةً تحتمي بسلام هذه المدينة وأمانها.
سألتني عن أبا غسان واخبرتها بما جرى فتأثرت بشدة وقالت ”كنت أعرف أنها كانت مخاطرة كبيرة“، وتمنّت له السلامة.. ثم أردفت ”نحن الآن نعايش نفس التجربة ونقتات على ذاكرةً نحاول ألا تهرب منّا“…
محبوبة خليفة Mahbuba Khalifa
* أم غسان: كنيتي في العراق
- راجع: #حكايات_من_سِفْرِ_الإغتراب (1) ”أم تكليف“
https://www.facebook.com/Assaqeefa/posts/683404478954499
نشرت على موقع السقيفة الليبية
إسمها ملفت جداً كما أسماء كثيرة ألِفَتَها الأذن وأطربتها رغم جِدَتها واستثنائيتها وبعض غرابتها، وقد اشتهرت هذه البلاد الجميلة بها وبأسماء تخصها وحدها…
بعد أن اصبحت د. عطور طبيبة أولادي صارت صديقة وقريبة من القلب، كنت كلما داعبتْ عيني دمعة شوق لأهلي، أحمل طفلتي الصغيرة وأدّعي مرضها لتكشف عليها، فتلاحظ حالتي وتقول يبدو أن لدينا طفل آخر مريض وأضحك وتضحك وأعود لحالتي الأولى ونمضي بعض الوقت معاً وأتركها لعيادتها ومرضاها من الملائكة الطيبين.
ذات نهار وقد دوى في البيت قرار مفاجيء واستعد زوجي للعودة للوطن على أن نلحق به إن تيسَّرَتْ رحلته ومرت بسلام،فقررت أن أودع بعض أحبابي وجيراني في المدينةالتي تغفو على صوت الصواريخ وتصحو لتعد قتلاها، وكانت الحرب في عز شررها وشرّها…
ضمن من زرتهم هي، أخبرتها فارتَعَبَتْ وتغيّرت قسمات وجهها وسألتني هل لديكم من يضمنكم هناك؟! فضحكتُ بعلو صوتي فردت بحزم: ”لا عيوني أم غسان* ما يصير! لازم تاخذون تعهد مكتوب بسلامتكم من أي أذى قد يحدث لكم لا سمح الله“. فهززتُ رأسي بنعم حتى لا أزيد إنشغالها وودعتها متمنية السلامة لبغداد ولأعزاء علينا يسكنونها.
(بعد مرور أربع سنوات)…
كان الضجيج حولنا شديداً حدّ أن آذاننا لم تعد تسمع شيئاً مع تصاعد الغبار والأتربة الذي تثيره المروحية التي تحمل شخصية أردنية كبيرة لحضور المهرجان الأشهر عربياً وكان بجواري طفلي الصغير فتملَّكه الرعب فقفز لحضني يحتمي بي. بعد أن حطت الطائرة وتهادت السيدة الجميلة إنتشر عَبَقُ الحسن وعم الهدوء إلا من همهمة سرَت بين الجالسين عن قرب ظهور المطربة مادامت رئيسة المهرجان قد حلّت بالمكان…
كنت أجلس منتظرة طلّة المطربة الجميلة التي أحبها العرب لاختياراتها القريبة من قلوبهم، دقائق وظهرت على المسرح بكامل أناقتها وحيّت السيدة المهمة الجالسة في الصفّ الأول وبدأت الموسيقى وتهادى الصوت الحريري فساد صمت وخشوع إعجاباً بهذه الهبة الإستثنائية التي تملكها مطربتنا…
تابعتُ الصوت الناعم والأداء الكلاسيكي العالي المستوى وسرحتُ في المكان والناس وكنت موزعة القلب بين حاضرٍ في المكان وبين غائبٍ يرقب حالةً من الستاتيك لا تتغير في حياتي وحياة من يقبع خلف القضبان ينتظر فرجاً لم تحن لحظته.
كنت أصوب نظري لجهة معينة،اتمعّن في جهة محددة واستعيده ثانية فيجبرني على العودة لنفس الاتجاه، فوجه سيدة تجلس بين مايبدو أنه زوجها وبجوارها شابة صغيرة السن، أعرفه رغم الإضاءة الخافتة، نعم هي!! تأكدت عندما حانتْ منها هي الأخرى التفاتة في اتجاهي. ولا أعرف لهذه الحالة تفسيراً فالمكان مكتظٌ بالبشر وبيني وبينها خمس او ست صفوف.
عندما التقت أعيننا كان لابد من التقدم نحوها فوقفتُ غير أن أحد الحراس جاء مسرعاً وأخبرني بأن ما أفعله ممنوع بحكم تواجد السيدة رفيعة المكانة ورئيسة المهرجان، غير أن شجاعة لا أعرف لها تفسير سوى الرغبة في رؤية من تيسرت لي رؤيتها ولن أفرط في هذه الفرصة مهما كان الثمن.. فشرحتُ للرجل قصتنا وأنني وهي صديقتان.. ووو…. فَلانَ قلب الرجل -وقلوب البشر في الغالب تلين وترأف في هكذا حالة-.. تقدمت الصفوف المتراصّة بصعوبة -وانا التي أخشى الأماكن المرتفعة- ووصلتُ لها وتعانقنا ومشاعر الفرح مختلطاً بذهول لهذه الصدفة النادرة هنا وفي (عمّان)، وبعد كل هذه السنين، التقي د. عطور وأسرتها -زوجها طبيب الجملة العصبية الشهير في بغداد والصبية الجميلة عفراء- وقد جاءت هذه الأسرة من بلدها لاجئةً تحتمي بسلام هذه المدينة وأمانها.
سألتني عن أبا غسان واخبرتها بما جرى فتأثرت بشدة وقالت ”كنت أعرف أنها كانت مخاطرة كبيرة“، وتمنّت له السلامة.. ثم أردفت ”نحن الآن نعايش نفس التجربة ونقتات على ذاكرةً نحاول ألا تهرب منّا“…
محبوبة خليفة Mahbuba Khalifa
* أم غسان: كنيتي في العراق
- راجع: #حكايات_من_سِفْرِ_الإغتراب (1) ”أم تكليف“
https://www.facebook.com/Assaqeefa/posts/683404478954499
نشرت على موقع السقيفة الليبية