د. رسول محمَّد رسول - الأنوثة العراقية في أزمنة فوضى التابع والمتبوع

عاش العالم الثالث، ومنه الوطن العربي، في القرن العشرين موجات استعمارية كبيرة غيّرت وجه الأرض والإنسان والمصير فيه. وفي العراق كان الغزو البريطاني، مطلع القرن العشرين، التالي للاحتلال العثماني طويل الأمد قد أتى تداعياته الكارثية رغم أن العراق تحوّل إلى "دولة" دخلت ثقافة العصر الحديث من جهة التعليم والصحة والزراعة والصناعة، إلّا أن الاستعمار البريطاني جعل العراق دويلة تابعة (Subaltern)، وهذا شأنه لتمسي هذه الدويلة على الدوام رهن سياساته ومصالحة بوصف أرض الرافدين مستعمَرة بريطانية، فكانت التقلّبات السياسية التي تنعكس على كل أوضاع العراق قد أدّت ومنذ ثورة تموز 1958 إلى ظهور دويلة العسكر والانقلابات السياسية العسكرية المتتالية، وكان آخرها ثورة تموز 1968 التي قادت العراق إلى ويلات الحروب الفائضة عن الحاجة والديكتاتورية والمذابح والحصار التجاري، وكانت النتيجة تسليم العراق إلى احتلال أمريكي إيراني سافر أكل الأخضر واليابس وذلك عندما حوّل المحتلون الوطن العراقي إلى كيان بلا دولة تدمّره جماعات إرهابية مسلحة، وتقوده مجموعات من اللصوص والعملاء الفاسدين والتابعين للمحتل وهم محسوبون على أبنائه تحت عنوان "العراق الديمقراطي".
الرمضاء والنار
وفي خلال عقود القرن العشرين كانت الأنوثة العراقية قد شهدت كل التحوّلات التي جرت في بلادها، وكان آخرها، وهو الأسوأ، ما مرّت به المرأة العراقية تحت سطوة الاحتلال الأمريكي - الإيراني من حروب وحصار وإرهاب وقمع جهوي سافر للحريّات، وبالتالي التراجع، تحت ضغوط الإسلام السياسي الذي حكم البلاد بعسف كريه، نحو عادات وتقاليد ما قبل التحديث والحداثة، فكانت الأنثى العراقية تجد نفسها بين أحد الخيارات؛ إما أن تعيش الوضع في الداخل وتتقبّله على مضض وإما الرحيل عن العراق إلى مكانيّة أخرى مهزومة الذات قلقة الوجود أو حتمية الموت بشتى السبل القميئة.
في كلاهما، صارت الأنوثة العراقية كمّن تستبدل الرمضاء بالنار؛ فالمشروع الاستعماري الأمريكي الإيراني الجديد في العراق (ابتداء من سنة 2003) جاء ليمارس نزعته التدميرية في وطن عراقي يشهد تأريخه على نمائه وخلقه الإبداعي المُستدام رغم عثرات النكوص التي مرَّ بها.
وكانت ولا تزال هذه النزعة التدميرية تستهدف الإنسان العراقي؛ حروب، تجويع، احتلال متجدِّد، إرهاب دموي، تابعية لأطراف دولية وإقليمية - انظر: مصطلح التابع (Subaltern) وتعد غاياتري سبيفاك أحد أبرز وجوه دراسات التابع - تفكيك الدولة، إضعاف الجيش، إفساد اقتصادي، إشاعة اللصوصية في عقر بنية الدولة عبر فساد أخلاقي في كل مرافق الدولة، تدنّي التعليم بكُل مراحله ومستوياته، وهزيمة الجامعات العراقية عندما خرجت من تصنيف مؤسسات التعليم العالي في العالم لسنة 2018.
وكل حراك النزعة التدميرية يتم وفق رؤية اقتصادية رأسمالية استعمارية عِدّتها اقتصاد السوق، واستعماريّة صندوق النقد الدولي، وارتباط العراق بمنظمات اقتصادية استعمارية دولية همّها سرقة رأسمال الدول واستعمارها على نحو اقتصادي، وهو انحراف شاذ غير مألوف شهده تأريخ العراق في النصف الثاني من القرن العشرين ويشهده في مطالع الألفية الثالثة (القرن 21).
وفي الوقت الذي أشار فيه رئيس الجمهورية "برهم صالح" في شهر شباط/ فبراير 2019 إلى أن عدد شهداء انتفاضة معركة الإصلاح 2019/ 2020 بلغ 600 شهيد، تشير وزارة التخطيط العراقية إلى أن عدد الأرامل وصل إلى مليون أرملة، وعدد الأيتام وصل إلى مليونين يتيم، وعدد المطلّقات وصل إلى مليون مطلقة، وكان هذا جرى منذ سنة 2004 حتى سنة 2020. بينما أشارت منظمة اليونيسيف الدولية المعنية بالأسرة والطفل إلى وجود ثلاثة مليون أرملة، وحوالي ستة مليون يتيم، وواحد مليون مطلّقة. والملفت للنظر أن ما نسبته 80 % من المطلّقات والأرامل تتراوح أعمارهن من 16 سنة الى 22 سنة، أما الأيتام فهم دون 18 سنة. (معلومات نشرها حسام الحسني منشورة في موقع النخبة: واتسآب).
أنثوية لا نسويّة!
لقد انصبَّت ويلات كل هذا التدمير والخراب على الإنسان العراقي، وكانت الأنوثة العراقية متضرّرة أكثر قبل الذكورة، لأن المرأة كأنثى هي عمق ومظهر وواجهة المجتمع في العراق، ولذلك أميل إلى مصطلح (الأنثوية) وليس إلى مصطلح النسوية (Feminism)، فالأنثوية هي ماهيّة المرأة العميقة والفاعلة في حياتها، ولمَ لا نذهب إلى عُمق الكينونة الإنسانية؟ وتراني أعتقد أن النسوية هي أحد مظاهر الأنثوية لدى المرأة، وعندما تنخرط المرأة في حشديّة معينة لتطالب بحقوقها أو حقوق حزبها أو تطالب بإحلال حقوق مساواتها مع الرجل على سبيل المثال فهي ينطبق عليها مصطلح "النسويّة" وهو مصطلح رافق حركات المطالبة بالمساواة في كل أنحاء العالم، أما وعندما يتعلّق الأمر بهمِّ ذاتها الوجودي فيما لو سحقته سياسات التقويض للذات فهي إنما تطرح ذاتها كأنثى وقد زاحمها مصير الضياع والتيه في مسارات المجهول ليس الذكوري إنما الاستعماري وإن لبست رداء الاستعماريّة بوصفها ذكورة جندريّة كما هو حال المرأة العراقية في زمن الاحتلال الأمريكي الإيراني الذي كان من نتائجه ضياع الذات الأنثوية العراقية في دروب التعذيب الأمريكي الإيراني والاغتصاب الداعشي متعدّد الصور (انظر كتابنا: هيّا إلى الإنسان، سبايا معابد البغاء المقدس، ص 85 وما بعدها، أبوظبي، 2018) أو هيمنة أيديولوجيات أحزاب الإسلام السياسي أو الرحيل عن مكانيّة الوطن إلى "الداخل العراقي" عبر أساليب التهجير الطائفي والعرقي والمناطقي أو الهجرة إلى خارج العراق "الخارج العراقي" صوب بلدان عدّة بحثاًَ عن ملجئ آمن أو انسراح صوب الدعارة المنظَّمة في الداخل أو التطليق أو التجوال بالشوارع بحثاً عن لقمة العيش لها ولأطفالها وهي تتوسَّل درهماً أو رغيف خبز أو ثوب سمل في صناديق القمامة أو سقف شبه متهاو لتنام؛ فمنذ عام 2003 حتى 2019 زاد عدد المطلّقات في كل محافظات العراق، وباتت الطفولة مهدَّدة على نحو سافر بأكثر من تحدِّ؛ فكم هي أعداد الأرامل والمطلّقات والأيتام؟؟ قد تكون الأرقام مهولة!!
إنها أعداد مخيفة مُنيت بها الأنوثة العراقية ابتداء من حرب الخليج الأولى، فالثانية، وفترة الحصار الاقتصادي الجائر، وبالتالي مرحلة الاحتلال الأمريكي الإيراني البغيض وضمنه الإرهاب القاعدي والداعشي السيء، وإرهاب الدولة العميقة دولة الاغتيالات والخطف والتعذيب والقتل التي طالت الأنوثة العراقية؛ فكم من أنثى راحت ضحيّة في صور ذلك على أيام "ثورة تشرين 2019" أو "انتفاضة معركة الإصلاح 2019" التي ابتدأ ظهورها يوم 25 أيلول/ سبتمبر 2019 وما زات جارية؟
منذ سنة 1980 وحتى الآن (2020)، ورغم كل الذي مرَّ على الأنوثة العراقية من محن ومصاعب وآلام، لا تكاد الدولة العراقية الجديدة (دولة الاحتلال والتابعية والخطف والاغتيالات) تتقدّم خطوة حقيقية على صعيد التفكير في المشكلات التي تعانيها المرأة العراقية المتضرّرة من كل مشروع التغيير الجذري في العراق الجديد (العراق الأمريكي)، هذه الدولة التي تدرك أنها سائرة ولا تزال في دروب نظرية الفوضى الخلاقة بلا هوادة، الفوضى التي تصاعدت وتيرتها أكثر منذ سنة 2005 عندما بشّرت بها كونداليزا رايس، وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أن العراق كان الأنموذج الأول الذي يتم تطبيق مفاعيل وآثار هذه النظرية التدميرية فيه، أقول: "نظرية تدميرية" لكونها تعتمد أسلوب الزعزعة لكل نظام الدولة والمجتمع تمهيداً لتفكيكه ومحاولة إعادة بنائه من رماده؛ فكل أبنية الدولة العراقية، وكذلك كل أبنية المجتمع العراقي، وكل بناء الإنسان العراقي تعرّضا معاً، وعلى نحو مُمنهج، إلى تفكيك منظَّم بدت الأنثى العراقية فيه الأكثر تضرراً من أهواله، والأكثر زعزعة وتفكيكاً لكينونة الأنثى ذاتها في معيشها اليومي؛ فهي المرأة التي تعرّضت إلى التهجير الطائفي والمناطقي والعرقي، وإلى الاغتصاب الجنسي، والاغتصاب الذاتي، والاغتصاب الوجودي، وصار "الحجاب" الذي تفرضه جماعات وأحزاب الإسلام السياسي وأيديولوجياتها الحاكمة بالعراق كما فرضته الجماعات الإسلاموية المتطرّفة التي مرّت بالعراق مثل تنظيم (القاعدة) وتالياً (داعش)، و(العصابات المسلحة الموالية لإيران) صار كل ذلك عبئاً صارخاً في تركيبه المُعقّد حتى أصبح يهلك وتيرة المجتمع الأنثوي العراقي تهديماً وتفككاً، وفي مقابل ذلك صارت حرية استخدام الأنترنيت، وفيها حرية مشاهدة الإباحيات من الأفلام والصور، وسبل التواصل، الشاذ أحياناً، في الفيس ومشتقاته من وسائل التواصل المجتمعي، تضع الأنوثة بين حدّين؛ حد القمع خارج البيت وحد الحرية غير معروفة المُخرجات في داخله، وهي معادلة يزداد ضغطها النفسي المركَّب سوءاً يوماً بعد آخر، وتزداد المشكلات الفردية والمجتمعية للأنثى يوماً بعد الذي يليه وعلى نحو متشابك من دون هوادة ولا تروٍّ، وهي عين الفوضى المرسومة للعراق كُله، الفوضى التي يُراد للمرأة فيها السقوط في هاويتها لخلق أنثى وقد جرّبت كل وسائل الضياع المحتملة ضمن أفكار يُراد لها قسراً التوافق مع المجتمع العراقي، هذا المجتمع الذي ينبغي رسمه بحسب البراجماتية الأمريكية سيئة الصيت مقرونة بمنطلق إمبريالي صهيوني وأطماع ولاية الفقيه الإيرانية الأسوأ تأثيراً في بنية المجتمع العراقي.
ما بعد الحداثة
لقد أصبحت الأنوثة العراقية تعيش أجواء ما بعد الحداثة في طابعها العدواني الرأسمالي، فالدولة العراقية، لا سيما في ولاية حيدر العبادي تمادت أكثر في تنفيذ سياسات الفوضى الخلاقة من دون وعي بما سيؤول إليه المجتمع العراقي، وحكومة هذه الولاية تمادت أكثر بالارتماء في أحضان الرأسمالية القذرة، وأصبحت زبوناً لدى المؤسسات الاستعمارية المالية مثل (صندوق النقد الدولي) وغيره، وما تأدّت إليه سياسات العبادي البيروقراطية حتى صارت دولة تتفنن بنهب المواطن بحيث سلّمت المجتمع العراقي إلى لصوص دوليين كبار، العبادي الذي تغاضى عن جرائم ذيول هؤلاء اللصوص الكبار داخل العراق وهو ما كشفته ثورة الجنوب العراقي في البصرة (2018) عن عصابات تهريب النفط العراقي الخام ومشتقاته إلى دول جوار ليس بعيداً عن الأطماع الإيرانية السافرة، وكذلك كشف عن فشل كل الحكومات العراقية المتعاقبة وبضمنها الحكومات المحليّة في المحافظات ومنذ سنة 2003 حتى 2020 عن إيلاء ملف الفساد أيّة أهمية حقيقية لمعالجة مشكلاته حتى جاءت ثورة معركة الإصلاح ابتداء من 25 أيلول/ سبتمبر 2019 لتضع اللصوص عند حدودهم.
استعادة كرامة الأنوثة
وكان كل ذلك قد أثر في حضور الأنثى العراقية بالشكل الذي يحفظ كرامتها، وليس إنجازاً عندما تصعد المرأة العراقية إلى مؤسسات الدولة والبرلمان، فالعراق معروف بمشاركة المرأة في مفاصل الدولة والمجتمع المدني منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في الربع الأول من القرن العشرين، وتالياً منذ نهاية خمسينيات القرن العشرين حتى نهاية دولة البعث.
إن كل هذه الباقة التي تقدّمت بها حكومات الاحتلال في العراق الجديد لا تمثل شيئاً إزاء مشاركة الأنوثة العراقية في الحياة العامّة من ذي قبل، خصوصاً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والثورية الإصلاحية بكل صورها.
وها هي الأنوثة العراقية تستعيد صوتها في مواجهة تقويضه وقمعه واغتصابه وتغييبه من جانب الاحتلال الإيراني وذيوله بحثاً عن كرامتها واستقلال وطنها العراقي وحريّة ذاتها الوجودية وهي تشارك أخوتها ثوار معركة الإصلاح في ساحات الحرية لتطالب بوطنها المخطوف وكرامتها المهدورة ومصيرها الضائع، وهي تجربة ثورية إصلاحية من دون وصاية حزب فاسد أو أيديولوجيا مسلّحة فاسدة غارقة في تبعيتها أو أي مُستعمر جديد من الشرق أو الغرب.
.

د. رسول محمَّد رسول


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى