1
عين دراهم : في 2/6/1932
أخي الفاضل الأعز: أمتع الله به
تحية و سلاما ، وبعد
فقد لبثت نفسي تدافعني إلى نقدك و أدافعها ردحا من الزمن من بعد ما كاتبتك. ثم إنّني كتبت بالنقد بعد صراع مع النفس عنيف وهو يتحصر في نقط ثلاث:
1/ حصرك وظيفة الشاعر في تصويره لعصره و مصره.
2/ جعلك لبشار شاعر فلسفة وكلام
3/ اتّخاذك الشهرة مقياسا لعظمة الأدب
والذي دفعني إلى إشراك القراء في هذا النقد:
1/ ما يفهمه الناس من أن النقد و العداء لفظتان مترادفتان
2/ سكوتك أنت طيلة العام الماضي واعتزالك الأدب والكتابة
وقد حرصت بهذا في نفس المقال، على أنني أحسب أنّ ما دفعك إلى هاته الآراء التي استغربتها منك إنّما العجلة في كتابة مقالك فإنّ عليه طابع السرعةو التعجيل، ولكن إذا جاز لنا أن نتعجّل يا صديقي في كتابة رسالتنا الخاصة، فإنّه لا ينبغي لنا ذلك و نحن نكتب الأدب للعموم
لا أدري ما سيكون رأيك فيما كتبت؟
وصلتني رسالتك أنس، وأنا أكتب آخر كلمة من المقال، وما أخّرني في كتابته إلى هذا الحد إلّا شواغل واجتماعات ما كانت في الحساب، ثمّ حيّرتني بين الإقدام على النقد والإحجام عنه. ولهذا فإنني لن أوجّهه في البريد لأنني سأذهب إلى الحاضرة يوم الأحد المقبل إن شاء الله، ولهذا فالأفضل أن أحمله بنفسي حتى أقف على تصحيحه ، فإنّ الأخطاء الطبعيّة شنيعة في هاته البلاد.
لا أدري إلى الآن هل أنشره بالزمان أو بالعالم الأدبي، و حينما أذهب إلى الحاضرو أقرّر أحد الرأيين.
رأيت كلمتك عن ” العالم” وأنا ما كنت أتوقّع منك غير ذلك فقد كنت أعلم أن رئيس تحريره ليس سوى آلة يديرها محي الدين و….. ومن لف لف هذين من تلك الطائفة المرذولة. إذا شئت أن نتلاقى بالحاضرة يوم الجمعة المقبل فإنك تجدني بالمدرسة اليوسفية، يصلك كتاب “على السفود” صحبة هذا.
إنني أعتذر إليك من هاته الخلبطة والخلط والأفكار المشوّشة و الجمل البتراء، فإنني أشعر بفتور ذهني و ملل نفسي و سلامي عليك مضاعف.
أخوك أبو القاسم الشابي
*
******
*2
عين دراهم: في تموز1932
أخي الأعز حفظه الله
فقد اتصلت برسالتك بعد طول السكوت فلم أدر هل أطرب أم أعتب، تقول يا صديقي إنّك لم تتصل منّي بأيّ خبر مع أنني بمجرّد وصولي إلى هنا أرسلت إليك بمنظر من مناظر ” بلد السحر و الشعر و الأحلام” و في تلك الكلمة القصيرة قصة موجزة من إعجابي بهذا البلد، وافتتاني بما فيه من فنّ و جمال على أنّني لا أكتمك إنني فكرت واعتزمت الكتابة إليك عن هذا البلد الصبوح و غاباته الملفوفة في الضباب و أوديته البديعة الخضراء و جباله المكلّلة بأشجار السنديان و أردت أن أبسط صورًا من نفسي و حيلتي في ظلال الغاب الذي قلت فيه من قصيد لم أتممه:
بيْتٌ بنتْه ليَ الحياة منَ الشذى** و الضلّ، و الأضواء، و الأنغام
بيْتٌ يرفُّ عليه سحرٌ غامض** ساه، و يخفق فيه روح سامِ
و إنّ الصور و الأفكار التي أردت أن أحدّثك عنها ما زالت إلى الآن تجوب جوانب نفسي، و لكنّ الكسل أو الملل أو الخمول أو كلّ ذلك منعني عن الإفضاء بها إليك. تقول إنّنا لم نلتق حتى في مجلّة ” العالم العربي”، و هذا غير صحيح لأنني أسمعتك صوتي في العدد الأخير، و ربّما كان صحيحا من ناحيتك أنت لأنك ما زلت معتصما بسكوتك الذي لا أحمده، رغم ما قطعته على نفسك من عهود و وعود، و إنني يا صديقي لآلم كلّ الألم حينما أنظر إليك فأراك تؤثر الصمت على التحدّث بافكارك و خطراتك، و تستسلم بكلّيتك إلى تيّار تلك المجتمعات الزائفة الفارغة ” الثرثارة”، و بعد هذا فإنني أريد أن أنقذك يا صديقي إن سمحت: لقد قلت إنّك نظمت قصيدا في الإحتفاء بالوفد الذي جاء من صفاقس لزيارة أبي زمعة!
أمثلك يا صديقي يسفّ ( طلب الأمور الدنيئة) بمواهبه و نبوغه إلى مثل هاته السخافات و المحقرات، و يصبح بين ليلة و ضحاها شاعرا مدّاحة، و ينشر أثره بجريدة ” الوزير” بعد أن كان فكرا ساميا و روحا ساحرا كنّا نرجوه لإحياء الأدب الميت و النهضة بروح الشعب الفنيّة من كبوة طال عليها العهد. إنني أعتقد أنك في قرارة نفسك تسخر كل السخر بما أتيت، لأن ما أعرفه من أفكارك وآرائك لا و لن يرضي عن هذا الصنيع. وإذن فما الذي دفعك في هاته السبيل التي لا تسلكها مخبارا ! ؟ إنّه الشعب الأحمق المأفون ( الذي سُلب عقله)، و تيّار تلك المجتمعات السخيفة الزائفة قبحها الله. و لقد كنتَ تحدّثني أنّك تأنف من نشر آثارك من مجلة ” العالم الأدبي” لأنك لا ترضي مشربها المرذول، فما بالك تنزل إلي النشر في الوزير؟ هل أنّ المبادئ شيء و العمل شيء آخر؟ كلا! فإنك عندي و في نفس الحقيقة أرفع من هذا و أجلّ، و لكن هو المجتمع السخيف دفعك إلى اقتراف الأولى و الثانية فكنت آثما مرتين. و أنا أرجو يا صديقي أن تكون فوق بواعثالجماعات الحقيرة و صغائرها، هاته الجماعات التي هي عندي:
لُعَبٌ تُحرّكها المطامع و اللُّهى ** و صغارُ الأحقادِ و الآراب
أودّ أن أراك أبدا فوق هاته الجماعات الثرثارة لأن ذهنًا مثل ذهنك لا ينبغي أن ينساق في موج هاته الجماعات الصغيرة التي لا تستحق إلّا العطف و الرثاء أو السخر و الإستهزاء. هذا نقد شديد يا أخي و لكنّه الحبّ الصادق و التقدير و العمق هو الذي أملى تلك الشدّة، و ما أحسب صدرك الواسع الحليم سيقبل نقدي بما أعهده فيه من ودّ و إخاء.
أما المعافاة فإنّ سيرها بطيء جدّا حتّى إنني و أنا محوط بعوالم من جمال و سحر قد ينقبض قلبي، و تضيّق أمامي رقعة هذا الفضاء، و تسدّ عليّ السآمة و القنوط كل مذاهب المتعة و الفكر و الأحلام، فأقتل ضجري بالنشيد و أزجي ركب الحياة المبطئ الكثيب بأنغام تلهمني إياها الغابة المصغية لشدو الطيور.
أما الشعر فقد لبثت نحوًا من عشرين يوما لا يخفق في نفسي شدوه أو غنائه، ثم أخذتني النوبة و أنا لها كاره، فلفّتني في مثل العاصفة الهوجاء التي لا ترحم، و ملأت على صفو الحياة ألسنة الهواتف التي لا تسكت و تهادت حول قلبي الصور و الأشباح و الخواطر و الذكر، و لم تفارقني في نوم و لا يقظة حتى لقد اضطرب عليّ النوم في اليومين اللذين استيقظت فيهما روح الشعر الخفيفة الغامضة، وحتى رجوت من الله أن يرحمني و ينقذني من هاته الثورة العنيفة العاصفة، و قد فعل.
لقد قلت: “أخذتني النوبة” و هي في حقيقة فإنّني منذ عام أصبحت ألبث الشهر و الشهرين لا يتحرّك في نفسي صوت و لا صدى، ثم تأتي النوبة بعنف و شدّة، و تلبث اليوم واليومين و الثلاثة تنغص عليّ فيهما الحياة ثم تخبو و تغيص، و تلك صورة من نفسي فحدّثْني عن نفسك و آمالك و أفكارك يا صديقي
أبو القاسم الشابي
عين دراهم : في 2/6/1932
أخي الفاضل الأعز: أمتع الله به
تحية و سلاما ، وبعد
فقد لبثت نفسي تدافعني إلى نقدك و أدافعها ردحا من الزمن من بعد ما كاتبتك. ثم إنّني كتبت بالنقد بعد صراع مع النفس عنيف وهو يتحصر في نقط ثلاث:
1/ حصرك وظيفة الشاعر في تصويره لعصره و مصره.
2/ جعلك لبشار شاعر فلسفة وكلام
3/ اتّخاذك الشهرة مقياسا لعظمة الأدب
والذي دفعني إلى إشراك القراء في هذا النقد:
1/ ما يفهمه الناس من أن النقد و العداء لفظتان مترادفتان
2/ سكوتك أنت طيلة العام الماضي واعتزالك الأدب والكتابة
وقد حرصت بهذا في نفس المقال، على أنني أحسب أنّ ما دفعك إلى هاته الآراء التي استغربتها منك إنّما العجلة في كتابة مقالك فإنّ عليه طابع السرعةو التعجيل، ولكن إذا جاز لنا أن نتعجّل يا صديقي في كتابة رسالتنا الخاصة، فإنّه لا ينبغي لنا ذلك و نحن نكتب الأدب للعموم
لا أدري ما سيكون رأيك فيما كتبت؟
وصلتني رسالتك أنس، وأنا أكتب آخر كلمة من المقال، وما أخّرني في كتابته إلى هذا الحد إلّا شواغل واجتماعات ما كانت في الحساب، ثمّ حيّرتني بين الإقدام على النقد والإحجام عنه. ولهذا فإنني لن أوجّهه في البريد لأنني سأذهب إلى الحاضرة يوم الأحد المقبل إن شاء الله، ولهذا فالأفضل أن أحمله بنفسي حتى أقف على تصحيحه ، فإنّ الأخطاء الطبعيّة شنيعة في هاته البلاد.
لا أدري إلى الآن هل أنشره بالزمان أو بالعالم الأدبي، و حينما أذهب إلى الحاضرو أقرّر أحد الرأيين.
رأيت كلمتك عن ” العالم” وأنا ما كنت أتوقّع منك غير ذلك فقد كنت أعلم أن رئيس تحريره ليس سوى آلة يديرها محي الدين و….. ومن لف لف هذين من تلك الطائفة المرذولة. إذا شئت أن نتلاقى بالحاضرة يوم الجمعة المقبل فإنك تجدني بالمدرسة اليوسفية، يصلك كتاب “على السفود” صحبة هذا.
إنني أعتذر إليك من هاته الخلبطة والخلط والأفكار المشوّشة و الجمل البتراء، فإنني أشعر بفتور ذهني و ملل نفسي و سلامي عليك مضاعف.
أخوك أبو القاسم الشابي
*
******
*2
عين دراهم: في تموز1932
أخي الأعز حفظه الله
فقد اتصلت برسالتك بعد طول السكوت فلم أدر هل أطرب أم أعتب، تقول يا صديقي إنّك لم تتصل منّي بأيّ خبر مع أنني بمجرّد وصولي إلى هنا أرسلت إليك بمنظر من مناظر ” بلد السحر و الشعر و الأحلام” و في تلك الكلمة القصيرة قصة موجزة من إعجابي بهذا البلد، وافتتاني بما فيه من فنّ و جمال على أنّني لا أكتمك إنني فكرت واعتزمت الكتابة إليك عن هذا البلد الصبوح و غاباته الملفوفة في الضباب و أوديته البديعة الخضراء و جباله المكلّلة بأشجار السنديان و أردت أن أبسط صورًا من نفسي و حيلتي في ظلال الغاب الذي قلت فيه من قصيد لم أتممه:
بيْتٌ بنتْه ليَ الحياة منَ الشذى** و الضلّ، و الأضواء، و الأنغام
بيْتٌ يرفُّ عليه سحرٌ غامض** ساه، و يخفق فيه روح سامِ
و إنّ الصور و الأفكار التي أردت أن أحدّثك عنها ما زالت إلى الآن تجوب جوانب نفسي، و لكنّ الكسل أو الملل أو الخمول أو كلّ ذلك منعني عن الإفضاء بها إليك. تقول إنّنا لم نلتق حتى في مجلّة ” العالم العربي”، و هذا غير صحيح لأنني أسمعتك صوتي في العدد الأخير، و ربّما كان صحيحا من ناحيتك أنت لأنك ما زلت معتصما بسكوتك الذي لا أحمده، رغم ما قطعته على نفسك من عهود و وعود، و إنني يا صديقي لآلم كلّ الألم حينما أنظر إليك فأراك تؤثر الصمت على التحدّث بافكارك و خطراتك، و تستسلم بكلّيتك إلى تيّار تلك المجتمعات الزائفة الفارغة ” الثرثارة”، و بعد هذا فإنني أريد أن أنقذك يا صديقي إن سمحت: لقد قلت إنّك نظمت قصيدا في الإحتفاء بالوفد الذي جاء من صفاقس لزيارة أبي زمعة!
أمثلك يا صديقي يسفّ ( طلب الأمور الدنيئة) بمواهبه و نبوغه إلى مثل هاته السخافات و المحقرات، و يصبح بين ليلة و ضحاها شاعرا مدّاحة، و ينشر أثره بجريدة ” الوزير” بعد أن كان فكرا ساميا و روحا ساحرا كنّا نرجوه لإحياء الأدب الميت و النهضة بروح الشعب الفنيّة من كبوة طال عليها العهد. إنني أعتقد أنك في قرارة نفسك تسخر كل السخر بما أتيت، لأن ما أعرفه من أفكارك وآرائك لا و لن يرضي عن هذا الصنيع. وإذن فما الذي دفعك في هاته السبيل التي لا تسلكها مخبارا ! ؟ إنّه الشعب الأحمق المأفون ( الذي سُلب عقله)، و تيّار تلك المجتمعات السخيفة الزائفة قبحها الله. و لقد كنتَ تحدّثني أنّك تأنف من نشر آثارك من مجلة ” العالم الأدبي” لأنك لا ترضي مشربها المرذول، فما بالك تنزل إلي النشر في الوزير؟ هل أنّ المبادئ شيء و العمل شيء آخر؟ كلا! فإنك عندي و في نفس الحقيقة أرفع من هذا و أجلّ، و لكن هو المجتمع السخيف دفعك إلى اقتراف الأولى و الثانية فكنت آثما مرتين. و أنا أرجو يا صديقي أن تكون فوق بواعثالجماعات الحقيرة و صغائرها، هاته الجماعات التي هي عندي:
لُعَبٌ تُحرّكها المطامع و اللُّهى ** و صغارُ الأحقادِ و الآراب
أودّ أن أراك أبدا فوق هاته الجماعات الثرثارة لأن ذهنًا مثل ذهنك لا ينبغي أن ينساق في موج هاته الجماعات الصغيرة التي لا تستحق إلّا العطف و الرثاء أو السخر و الإستهزاء. هذا نقد شديد يا أخي و لكنّه الحبّ الصادق و التقدير و العمق هو الذي أملى تلك الشدّة، و ما أحسب صدرك الواسع الحليم سيقبل نقدي بما أعهده فيه من ودّ و إخاء.
أما المعافاة فإنّ سيرها بطيء جدّا حتّى إنني و أنا محوط بعوالم من جمال و سحر قد ينقبض قلبي، و تضيّق أمامي رقعة هذا الفضاء، و تسدّ عليّ السآمة و القنوط كل مذاهب المتعة و الفكر و الأحلام، فأقتل ضجري بالنشيد و أزجي ركب الحياة المبطئ الكثيب بأنغام تلهمني إياها الغابة المصغية لشدو الطيور.
أما الشعر فقد لبثت نحوًا من عشرين يوما لا يخفق في نفسي شدوه أو غنائه، ثم أخذتني النوبة و أنا لها كاره، فلفّتني في مثل العاصفة الهوجاء التي لا ترحم، و ملأت على صفو الحياة ألسنة الهواتف التي لا تسكت و تهادت حول قلبي الصور و الأشباح و الخواطر و الذكر، و لم تفارقني في نوم و لا يقظة حتى لقد اضطرب عليّ النوم في اليومين اللذين استيقظت فيهما روح الشعر الخفيفة الغامضة، وحتى رجوت من الله أن يرحمني و ينقذني من هاته الثورة العنيفة العاصفة، و قد فعل.
لقد قلت: “أخذتني النوبة” و هي في حقيقة فإنّني منذ عام أصبحت ألبث الشهر و الشهرين لا يتحرّك في نفسي صوت و لا صدى، ثم تأتي النوبة بعنف و شدّة، و تلبث اليوم واليومين و الثلاثة تنغص عليّ فيهما الحياة ثم تخبو و تغيص، و تلك صورة من نفسي فحدّثْني عن نفسك و آمالك و أفكارك يا صديقي
أبو القاسم الشابي