في 1964
الأستاذ توفيق الحكيم:
أستاذي أكتب إليك لأعتذر ولو أني لا أدري ما أعتذر عنه، كل ما هنالك أني شعرت بأني أثقلت عليك وعلي زملائي أعضاء لجنة القصة عندما جئت إليكم أحمل همي وأحاول أن ألقي بمتاعبي إليكم، والواقع أنني لم أحضر اجتماع اللجنة لا نتيجة تفكير ولا نتيجة خطة للعمل ولكني حضرت بدافع أزمة نفسية أعانيها وشعور جارف بالوحدة كنت أشعر أني وحيد... وحيد إلي حد الخوف.. وقد قال شوبنهاور إن الرجل القوي هو الرجل الوحيد: وقد مر عليّ وقت طويل كنت فيه قويا في وحدتي واستطعت أن أخوض كثيرا من المعارك السياسية والأدبية وأنا وحيد لا أنتمي لحزب ولا أنتمي لزعيم ولا أنتمي لهيئة ولكن أنتمي لفكرة وكنت أنصر الفكرة وأنتصر بالفكرة ولكن لا أدري ما حدث لي ربما تعبت من كثرة التحديات التي خضتها وربما وصلت إلي السن التي أصبح من حقي فيها أن أترك عبء التحدي لجيل بعدي وأستريح أنا.ولكن..هل أستريح علي حساب الفكر وعلي حساب الإيمان وعلي حساب انطلاقي الفني؟ ليست هذه راحة.. إنه جبن.. خوف.ولن أستريح أبدا إذا شعرت بأني جبان، أو أني خائف وهذه هي أزمتي.أزمة بين الإيمان وما يأخذه هذا الإيمان من أعصاب صاحبه وراحته.وأنا أؤمن بما أكتب وأؤمن باتجاهي في القصة وهو ليس اتجاها واحدا ولكنها عدة اتجاهات متساوية في سيطرتها عليّ، تنطلق بلا افتعال وبلا تعمد... كأنفاس.. ولا أستطيع أن أتنازل عن واحدة منها وإلا تنازلت عنها جميعا وأقلعت عن الكتابة. فهل هذا ضعف مني؟هل من واجبي أن أسيطر علي اتجاهاتي الفنية، حتي أرضي بعض الناس وأريح نفسي من كلامهم... وبمعني آخر أريد أن أسأل هل الفنان يسيطر علي الفن أم أن الفن يسيطر علي الفنان؟هل الفن هو تعبئة إحساس الفنان بالمجتمع في انطلاقة فنية، أم هو أشبه بعملية هندسية تبقي في حدود المواصفات التي يتطلبها صاحب الملك كالترزي يفصل البدلة حسب طلب الزبون.. الترزي فنان والمهندس فنان.. ولكن الترزي زبون يملي عليه إرادته، والمهندس يبني لصاحب الملك... ولكن أنا هل لي زبون.. هل لي صاحب ملك يملك فني ويخضعه لإرادته... بل إني أتساءل هل الفنان يملك المجتمع، أم المجتمع يملك الفنان؟
لقد كتبت مرة رسالة للرئيس جمال عبدالناصر قلت له فيها: إن الأدب هو مرآة المجتمع والناس عندما ينظرون في المرآة يرون البثور في وجوههم فبدلا من أن يثوروا علي البثور ويبدأوا علاجها يثورون علي المرآة ويحاولون تحطيمها وكذلك عندما يقرأون قصصي فبدل أن يثوروا علي أنفسهم وعلي المجتمع الذي يعيشون فيه، يثورون عليّ أنا.. علي الفنان.. علي المرآة.. هل هذا صحيح؟لا أدري ولا أحاول أن أدري.إن كل ما أحاوله الآن هو أن أخرج بجواب علي سؤال ينتابني في حالة ضعفي... ما ذنبي؟نعم ما ذنبي لأحمل كل هذا العبء؟ ما ذنبي لأتلقي كل هذه الطعنات؟ والأمر سهل... إن يوسف السباعي أقلع عن الكتابة في هذا الاتجاه الفني عندما أحس أنه قد يثير حوله ضجة وأنت يا أستاذي وضعت حجرا ضخما في أساس البناء عندما كتبت الرباط المقدس ثم تركته ورحت تبني في اتجاه آخر... ربما لأنك أيضا أردت أن تتجنب الضجة فلماذا لا أفعل مثلكما؟يوسف السباعي ينصحني أن أفعل ولكني لا أستطيع لا أستطيع أبدا... إن مجرد إحساسي بأن أتجنب اتجاها معينا نفاقا أو إرضاء لبعض الناس يشل قلمي، يجعلني أكره نفسي وأكره قلمي وأكره الدنيا كلها والكراهية هي سمي، إني لا أستطيع أبدا أن أكره.. وقد قلت لك إن لي أكثر من اتجاه في القصة ولكن محاولة كبت واحد من هذه الاتجاهات سيقضي عليها كلها، لأنها كلها تنطلق من قاعدة واحدة هي حرية الفنان.وليس هذا هو مجال الحديث عن اتجاهاتي في القصة التي لم يحاول أحد حتي الآن أن يدرسها أو يفسرها، أو يأخذها مأخذ الجد.. بل إنني أحس أنه ليس دوري ولا من واجبي أن أتحدث عن اتجاهاتي في القصة إني أكتب القصة وبعد ذلك لا شأن لي بها، إن القصة بعد أن تنتهي تصبح مخلوقا كاملا ليس لها صاحب، ولكن من حق الأطباء أن يقولوا رأيهم فيها إذا كانت مخلوقا مريضا... والذين قالوا رأيهم في قصصي ليسوا أطباء، ولكنهم دجالون
وبعد... لماذا كتبت إليك؟
لأنك أستاذي ولأني فتحت عيني بين صفحات كتبك ولدت من تفاعل كلماتك ثم لأعتذر عن عدم حضور اجتماع لجنة القصة القادم... فقد اكتشفت أنه ليس مهما ما يجري في مجلس الأمة حول قصصي ولكن المهم هو أن أنقذ نفسي من التمزق وأن أنجو من أزمتي النفسية. إني لن أرد علي كل ما يقال عني، وما يثار في وجهي لأن دوافعه ليست دوافع بناء ولكنها دوافع هدم والحل الوحيد لوقف الهدم هو أن يستمر البناء ولن أستطيع أن أساهم في البناء إلا إذا أنقذت نفسي من الانهيار، انا الذي سأنقذ نفسي لا أحد آخر، وسأترك كل شيء وأسافر بعد أن أنتهي من كتابة الفصلين الأخيرين من القصة التي أثارت كل هذه الضجة... وهناك بعيد سأحاول أن أجمع نفسي... أستعيدها وأعود لأكتب من جديد... وربما كتبت قصة هذا الرجل الذي وقف في مجلس الأمة يحاول تحطيمي وإذا كتبتها فسيبدو وجه مصر بشعا غاية في البشاعة في مرآة الأدب.واعذرني.. لقد كنت أريد أن أكتب هذا الكلام ولم أجد أحد قريبا مني لأكتب له إلا أنت.
شكرا لتحملك أزمتي.
المخلص إحسان عبدالقدوس
الأستاذ توفيق الحكيم:
أستاذي أكتب إليك لأعتذر ولو أني لا أدري ما أعتذر عنه، كل ما هنالك أني شعرت بأني أثقلت عليك وعلي زملائي أعضاء لجنة القصة عندما جئت إليكم أحمل همي وأحاول أن ألقي بمتاعبي إليكم، والواقع أنني لم أحضر اجتماع اللجنة لا نتيجة تفكير ولا نتيجة خطة للعمل ولكني حضرت بدافع أزمة نفسية أعانيها وشعور جارف بالوحدة كنت أشعر أني وحيد... وحيد إلي حد الخوف.. وقد قال شوبنهاور إن الرجل القوي هو الرجل الوحيد: وقد مر عليّ وقت طويل كنت فيه قويا في وحدتي واستطعت أن أخوض كثيرا من المعارك السياسية والأدبية وأنا وحيد لا أنتمي لحزب ولا أنتمي لزعيم ولا أنتمي لهيئة ولكن أنتمي لفكرة وكنت أنصر الفكرة وأنتصر بالفكرة ولكن لا أدري ما حدث لي ربما تعبت من كثرة التحديات التي خضتها وربما وصلت إلي السن التي أصبح من حقي فيها أن أترك عبء التحدي لجيل بعدي وأستريح أنا.ولكن..هل أستريح علي حساب الفكر وعلي حساب الإيمان وعلي حساب انطلاقي الفني؟ ليست هذه راحة.. إنه جبن.. خوف.ولن أستريح أبدا إذا شعرت بأني جبان، أو أني خائف وهذه هي أزمتي.أزمة بين الإيمان وما يأخذه هذا الإيمان من أعصاب صاحبه وراحته.وأنا أؤمن بما أكتب وأؤمن باتجاهي في القصة وهو ليس اتجاها واحدا ولكنها عدة اتجاهات متساوية في سيطرتها عليّ، تنطلق بلا افتعال وبلا تعمد... كأنفاس.. ولا أستطيع أن أتنازل عن واحدة منها وإلا تنازلت عنها جميعا وأقلعت عن الكتابة. فهل هذا ضعف مني؟هل من واجبي أن أسيطر علي اتجاهاتي الفنية، حتي أرضي بعض الناس وأريح نفسي من كلامهم... وبمعني آخر أريد أن أسأل هل الفنان يسيطر علي الفن أم أن الفن يسيطر علي الفنان؟هل الفن هو تعبئة إحساس الفنان بالمجتمع في انطلاقة فنية، أم هو أشبه بعملية هندسية تبقي في حدود المواصفات التي يتطلبها صاحب الملك كالترزي يفصل البدلة حسب طلب الزبون.. الترزي فنان والمهندس فنان.. ولكن الترزي زبون يملي عليه إرادته، والمهندس يبني لصاحب الملك... ولكن أنا هل لي زبون.. هل لي صاحب ملك يملك فني ويخضعه لإرادته... بل إني أتساءل هل الفنان يملك المجتمع، أم المجتمع يملك الفنان؟
لقد كتبت مرة رسالة للرئيس جمال عبدالناصر قلت له فيها: إن الأدب هو مرآة المجتمع والناس عندما ينظرون في المرآة يرون البثور في وجوههم فبدلا من أن يثوروا علي البثور ويبدأوا علاجها يثورون علي المرآة ويحاولون تحطيمها وكذلك عندما يقرأون قصصي فبدل أن يثوروا علي أنفسهم وعلي المجتمع الذي يعيشون فيه، يثورون عليّ أنا.. علي الفنان.. علي المرآة.. هل هذا صحيح؟لا أدري ولا أحاول أن أدري.إن كل ما أحاوله الآن هو أن أخرج بجواب علي سؤال ينتابني في حالة ضعفي... ما ذنبي؟نعم ما ذنبي لأحمل كل هذا العبء؟ ما ذنبي لأتلقي كل هذه الطعنات؟ والأمر سهل... إن يوسف السباعي أقلع عن الكتابة في هذا الاتجاه الفني عندما أحس أنه قد يثير حوله ضجة وأنت يا أستاذي وضعت حجرا ضخما في أساس البناء عندما كتبت الرباط المقدس ثم تركته ورحت تبني في اتجاه آخر... ربما لأنك أيضا أردت أن تتجنب الضجة فلماذا لا أفعل مثلكما؟يوسف السباعي ينصحني أن أفعل ولكني لا أستطيع لا أستطيع أبدا... إن مجرد إحساسي بأن أتجنب اتجاها معينا نفاقا أو إرضاء لبعض الناس يشل قلمي، يجعلني أكره نفسي وأكره قلمي وأكره الدنيا كلها والكراهية هي سمي، إني لا أستطيع أبدا أن أكره.. وقد قلت لك إن لي أكثر من اتجاه في القصة ولكن محاولة كبت واحد من هذه الاتجاهات سيقضي عليها كلها، لأنها كلها تنطلق من قاعدة واحدة هي حرية الفنان.وليس هذا هو مجال الحديث عن اتجاهاتي في القصة التي لم يحاول أحد حتي الآن أن يدرسها أو يفسرها، أو يأخذها مأخذ الجد.. بل إنني أحس أنه ليس دوري ولا من واجبي أن أتحدث عن اتجاهاتي في القصة إني أكتب القصة وبعد ذلك لا شأن لي بها، إن القصة بعد أن تنتهي تصبح مخلوقا كاملا ليس لها صاحب، ولكن من حق الأطباء أن يقولوا رأيهم فيها إذا كانت مخلوقا مريضا... والذين قالوا رأيهم في قصصي ليسوا أطباء، ولكنهم دجالون
وبعد... لماذا كتبت إليك؟
لأنك أستاذي ولأني فتحت عيني بين صفحات كتبك ولدت من تفاعل كلماتك ثم لأعتذر عن عدم حضور اجتماع لجنة القصة القادم... فقد اكتشفت أنه ليس مهما ما يجري في مجلس الأمة حول قصصي ولكن المهم هو أن أنقذ نفسي من التمزق وأن أنجو من أزمتي النفسية. إني لن أرد علي كل ما يقال عني، وما يثار في وجهي لأن دوافعه ليست دوافع بناء ولكنها دوافع هدم والحل الوحيد لوقف الهدم هو أن يستمر البناء ولن أستطيع أن أساهم في البناء إلا إذا أنقذت نفسي من الانهيار، انا الذي سأنقذ نفسي لا أحد آخر، وسأترك كل شيء وأسافر بعد أن أنتهي من كتابة الفصلين الأخيرين من القصة التي أثارت كل هذه الضجة... وهناك بعيد سأحاول أن أجمع نفسي... أستعيدها وأعود لأكتب من جديد... وربما كتبت قصة هذا الرجل الذي وقف في مجلس الأمة يحاول تحطيمي وإذا كتبتها فسيبدو وجه مصر بشعا غاية في البشاعة في مرآة الأدب.واعذرني.. لقد كنت أريد أن أكتب هذا الكلام ولم أجد أحد قريبا مني لأكتب له إلا أنت.
شكرا لتحملك أزمتي.
المخلص إحسان عبدالقدوس