فتحي عبد السميع - خصوصية قصيدة النثر

هناك من ينقلون قصيدة النثر من طينتها الأوروبية إلى طينتنا العربية كما ينقلون ثلاجة أو ما شابه، هذا خطأ، هذا ليس تفاعلا ثقافيا، هذا انسحاق ثقافي.
الندِّيةُ شرط أساسي حين تربطنا علاقة فنية بالآخر، قد تختفي في أي مجال آخر، لكنها تبقى أساسية في الشعر، لأن طاقة الخيال واحدة عند الشعراء، ومنبع الروح الإنسانية في متناول الجميع، كل شاعر ندٌّ لأي شاعر، ولا يظهر الفارق بين الشعراء إلا انعكاسا لدرجة الإخلاص للشعر والصبر على متطلباته.
قصيدة النثر طائر جميل، ولا عيب فيها لمجرد أنها ظهرت في العالم الغربي، وقمنا نحن بنقل جهود المبدعين والنقاد هناك، وحملناها مسرورين إلى تربتنا.
لا ضير في تقبِّل ذلك بمنتهى العرفان للجهود المبذولة هناك، وهي جهود إنسانية في المقام الأول، لأنها لم تنبت من فراغ، و لا تنتمي إلى (هناك ) فقط، بل تنتمي إلى الإنسانية أيضا. لقد قبلنا فن الرواية، أو فن السينما، بترحاب شديد، ولا ينبغي أن يتغير المبدأ لأنه يتعلق تلك المرة بالشعر، وكأنه ليس فنا من الفنون.
التفاعل الثقافي ليس عيبا، إنه واجب مارسته الثقافة اليونانية فنهلت من الثقافة السابقة في العراق ومصر. ونفس الأمر حدث مع الثقافة الإسلامية، و الثقافة الغربية المعاصرة. وقصيدة النثر الفرنسة نفسها ولدت متأثرة بترجمات من لغات مختلفة منها ترجمة الشعر العربي نفسه.
لا مرض في النقل الثقافي. المرضُ في النقل الأعمى، في الاستيراد الغشيم الذي يتم بمنطق استيراد البضائع، في الاعتماد على النقل وحده لا على الإبداع والتفاعلِ الخلَّاق.
النقل الثقافي في الفن يختلف عن النقل في مجال العلم، لابد من التمييز بين الأمرين بمنتهى الحسم، لآن طبيعة العلم تختلف عن طبيعة الفن، العلم يقوم في جوهره على العمومية، على المعلومات التي تنطبق على كل الأشياء الموجود في العالم بغض النظر عن خصوصيتها، أما الفن فيقوم في جوهره على الخصوصية، فكل إنسان كائن فريد في حد ذاته، كنز في حد ذاته، ومن هنا يبهرنا أثرٌ لفنان عاش في العصر الحجري، يمكن أن نزهو عليه بعلومنا واختراعاتنا، ويمكن أن يزهو علينا بفنه.
لا فن بلا خصوصية. ولا علم بلا عمومية، لا بد و أن نحلق بالجناحين معا، جناح الفن، وجناح العلم، يصير الطائر حجرا، حين يصِرُّ على التحليق بجناح واحد.
الخصوصية لا تعني الانغلاق، كل انغلاق مرضٌ، والتضحية بالخصوصية تضحيةٌ بشيء إنساني لا يوجد إلا فيها، والإنسانية عظيمة جدا، ولا يمكن أن تتحقق عبر منظور وحيد، أو في عالم واحد، وكل خصوصية تثريها، ولهذا ينبغي أن يوجد في كل قصيدة قدْرٌ من الفرد، وأثر من الجماعة التي ينتمي إليها، حتى تتحقق في الفضاء الإنساني الرحب.
عندما نسعى إلى تطابق القصيدة العربية مع الفرنسية، أو غيرها، نخون الشعر، ننقل إلى سمائنا حجرا ولا نبدع طائرنا.
قصيدة النثر ينبغي أن تغرق في طينتنا، وأن تسري في دمنا قبل أن تخرج إلى الهواء. إن لم تحمل خصوصيتنا غاب أمرٌ جوهري عن إنسانيتها المطلوبة، وصارت كائنا مشوها لا مستقبل له إلا في صناديق القمامة.

فتحي عبد السميع / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى