شبلي شميل
القاهرة 3 مارس 1908
سيدي الأستاذ الفاضل. حفني بك ناصف المحترم
أشكرك على النسخة التي تفضلت عليّ بها. من مقالات "النسائيات" لحضرة الفاضلة باحثة البادية. وقد طالعتها معجباً بعلم صاحبتها ودقة نظرها ـ ولا سيما إقدامها في مجتمع لا يزال أدب المرأة فيه يعد أمرا بعيدا عن المألوف مهما كان شأنه، وبدعة مذمومة. مما دل على ان علمها الواسع لم يبق في رأسها عقيماً كما هو الحال في رؤوس اكثر رجالنا حتى اليوم. ولم اقل نسائنا لئلا أبخسها حقها من الفضل المتقدم بين أترابها. وهن غالباً كما هن. شطر عاطل في جسم اجتماعنا.
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات بل الشرقيات عموماً، لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا، والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح، عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها وان كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله. لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية. وهو رأي في نظر البعض وجيه. أولئك الذين يقولون إن الطفرة محال، ويخشون الانتقادات العنيفة فيطلبون الإصلاح بالتؤدة واللين، خوفاً من تصعيب المطلب الذي يحول دون بلوغه. وان كان نظام الاجتماع لا يستغني أحياناً عن الثورات العنيفة، إذا اشتدت المقاومة في الأحوال الراسية لطول العهد كنظام الطبيعة نفسه، حذو القذة بالقذة. ومهما يكن من ذلك فان رأيها هذا في نظري لا ينافي رأي الطالبين اليوم السفور المطلق، وما هو إلا حذر لفظي، لان رفع الحجاب المعنوي عن العقل، لا بد أن يؤدي إلى رفع الحجاب الحسي دفعة واحدة لا يرضى به حتى المحجوب نفسه، إذا لم يرفع حجاب الجهل عن عقله أيضاً. وكأنها في ذلك سلكت مسلك دارون نفسه في العلوم الطبيعية، إذ حصر الخلق في أصول قليلة تفرعت منها الأنواع الكثيرة بعد ذلك بالنشوء والتحول، حذراً من تصعيب المطلب على أصحاب الخلق أنفسهم. ولكن ذلك الحذر لم يمنع معتنقي مذهبه، المعتقدين صحته، من إطلاق ناموس النشوءِ والتحول على الطبيعة كلها. لأنه إذا صح النشوء للبعض لا يفهم لماذا لا يصح للكل. فتحرير العقل إلى الغاية القصوى أيضاً. فطالب تحرير المرأة لا يسعه ان يطلبه من جهة واحدة، وإلا فكأنه لم يطلبه. ولذلك اعتبر نسائيات باحثة البادية ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين في النتيجة المترتبة عليهما بالفضل المتقدم بين النساء، كمقامه بين الرجال في الإسلام اليوم. وفي يقيني ان الإسلام لم تحرك فيه حتى اليوم مسألة اجتماعية أهم من المسألة التي نحن بصددها، والفضل في ذلك لمصر وحدها ولأبناء مصر.
ليس الغريب أن مسألة المرأة في الاجتماع شغلت الناس في كل العصور ولا تزال شغلهم الشاغل حتى اليوم في كل المعمورة فهي من مقومات الأسرة التي هي أساس الاجتماع بل الغريب أنها مع بساطتها لم يسهل الاتفاق فيها. وذهب الناس فيها مذاهب، وكتبوا فيها ما لو جمع لضاق عنه الحصر. كأنها من المذاهب اللاهوتية العويصة، لان اكثر الباحثين جعلوها كذلك مع أنها من المسائل الطبيعية البسيطة التي لا يجوز أن يختلف فيها اثنان. لولا ذلك ولا نظن ان منشأ هذا الاختلاف خاص بقوم دون آخرين وبصقع دون آخر بل هو عام جميع المعمورة، وكائن من أول التاريخ إلى اليوم، في اشد المجتمعات البشرية انحطاطاً وفي أكثرها ارتقاءً على ضروب متنوعة فلا بد أن يكون لذلك سبب عام هو أصل كل الاختلافات التي رويت في شأن المرأة والتي لا تزال موجودةً حتى الآن.
فالمرأة منذ القديم مظلومة مهضومة الجانب من الرجل، لأنه أقوى منها وهي مظلومة في كل الشرائع ودون استثناء، لان واضعيها رجال. حتى أن بعض هذه الشرائع أنكر عليها النفس. أو بالحري حتى جاز لاتباعها في عصر من العصور أن يتباحثوا في ما إذا كان للمرأة نفس. وهكذا استبد الرجل القوي الخشن بالمرأة الضعيفة الجاهلة. فحرص عليها الفقير حرص المالك على ملكه النافع له، أو استخدامها أحياناً كما يستخدم الحيوان. ولكنه لم يكن يضن بها، كما كان يضن به، لان الحيوان بثمن وهي بلا ثمن غالباً. ولم يستمسك كثيراً بالحجاب لان الفقر كان يطفئ فيه آياته الشهوانية. وحرص الغني عليها حرص غيرة فدفنها حية في قبور من القصور. وكفنها بأكفانٍ من الحجاب. حتى إذا برزت من خدرها مشت متثاقلة كالبرميل الموشح. وهي تهتز على محورها، وتتعثر بظلها، ولم يعد الشعراء من خيالهم تصوراً للتغني بهذا الشبح ـ وغار عليها من النسيم لئلا ينقل إلى سواه شذاها، وحتى من النور لئلا تمتد الأبصار به إلى مرآها. فإذا مات وئدت معه حيه. كأنها متاع له لا يجوز ان يفصل عنه، أو كأنها جزءُ منهُ. ولكنه يجوز له أن يفصل عنها. واعتبرها بذلك أحط من الحيوان، الذي كانوا إذا غالوا في القسوة عليه ربطوه حياً إلى جانب القبر حتى يموت. وهي قبلت بذلك مرغمة بالقوة. مستسلمةً للجهل حتى حسبت كل ذلك واجباً عليها وحقاً له.
"والمرءُ إن ما اعتاد متربة فان تصنه فهو يمتهن"
حتى قتل الترهل قواها الجسدية. وقتل الجهل مواهبها العقلية. والرجل يحسب أنه بذلك صانها، وصان نفسه بها، وما صان فبها إلا جهله. إذ المرأة مرآة الرجل، جاهلة فجاهل، وعالمة فعالم. وما صان الجهل آداباً ولا أوصد أبواباً ولا أعز أمة. وأمنع حجاب توسيع العقل بالعلم الصحيح، وتقويم الأخلاق بالتربية القويمة واكفل كافل الاختبار بالنفس لصيانة المصلحة، فالذي قياده بيده امنع جداً إذا امتنع ممن قياده بيد سواه.
فالحجاب بقية باقية من ضروب الظلم التي حاقت بالمرأة من أول عهد التاريخ إلى اليوم. والحجاب المضروب على المرأة المسلمة إلى الحد المألوف اليوم من غير تخريج أو تأويل لا تقبله العقول الناضجة أياً كانت. وهو سبب عيوب الأسرة الشرقية عموماً، والمصرية خصوصاً، التي قامت باحثة البادية تنبه إليها في نسائياتها. طلباً لإصلاحها. وأي دليل واضح على فساد الأسرة هذا إنما هو من مقام المرأة فيها المنافي للطبع. إذ الحرية المتبادلة في نظام الطبيعة حق طبيعي لا يجوز أن تسلبه حتى ذرات الجماد، وإلا كانت أعمال الطبيعة أدعى إلى الخراب منها إلى العمار. وهي في الاجتماع البشري حق واجب، بل ضروري أيضاً. لان المرأة فيه شطر من شطري جسمه. فإذا سلبت المرأة الحرية عرج الاجتماع ومشى على رجل واحدة. وفيها قيد أيضاً إذ تصبح المرأة حينئذ عالة عليه عوضا عن أن تكون عونا له. ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث لوضع المقدمات المركبة لاستخراج النتائج البسيطة. فإن علم المقابلة البسيط يغنينا اليوم عن كل ذلك ولا أقل من أن نقابل بيننا وبين الأمم الراقية. لنقف على الفرق الجسيم بين مجتمع المرأة فيه مدرجة حية في الأكفان، مدفونة بين الجدران، عقلها محجوب عن أنوار علوم الاختبار، كما حجبت حواسها عن نور الطبيعة؛ وبين مجتمع نرى المرأة فيه على ضد ذلك. ونقابل فقط بين أطفال الامرأتين في مجتمعنا ومجتمعهم. فأين قذارة أطفالنا من نظافة أطفالهم، وسقم أطفالنا من صحة أطفالهم، ورعونة أطفالنا من رصانة أطفالهم، حتى أن صبيانهم ليفوقون رجالنا في العزائم. فيشبون على الجد والعمل، ونشب نحن على السخافة والكسل.
فيستطيلون بأيديهم إلى كل عمل نافع، ونستطيل نحن بألسنتنا إلى كل دعوى فارغة. وإذا دمغتنا الحجة أخذنا نفتش على عيوبهم الجزئية، لنستر بها عيوبنا الكلية، غير ناظرين من خلال ذلك إلى ارتقائهم وانحطاطنا. وتقدمهم وتقهقرنا الكليين. وما كان هذا الارتقاءِ يوم كانت المرأة عندهم مسلوبة الحرية، محجوبةً عن نور العلم. فقد كانت مظلومة كذلك عندهم، وان لم تكن محجبة كما هي عندنا، فإن ضروب الظلم كثيرة.
واغرب من كل ذلك أن مثل هذه الدعاوى الفارغة التي نطمئن إليها تجوز على كثيرين ممن هم في مقام القادة. أو أن البعض يجيزونها نفاقاً يجعلونهُ طعاماً على رؤوس صنانير أغراضهم. لاصطياد اغرارنا به. والأدهى محاولة البعض من هؤلاء وأولئك وإخراج البحث في الموضوع من وجهته الاجتماعية إلى وجهة دينية بحسب أهوائهم، وعلى قدر إفهامهم. وما يقصدون بذلك إلا إزالة التكافؤ من بين الباحثين. لينقلوا الكلام من ان يكون بين الناس بعضهم مع بعض، إلى ما بينهم وبين اللّه، لعل المعارض يجبن ويكون صمته عوناً على تأييد ما يدعون. كما يفعل منتقدو الزهاوي، وقد يظن بعض السياسيين انهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شرّ الجهلاء، كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم، إذ ظنت أنها تملك الجهلاء وهم لا يملكهم إلا إقامة العدل الصحيح، ومن ورائه السيف حتى يقره العلم. فتزلفت إليهم بان منعت نشر افضل كتاب في الإسلام، لأعظم مصلح في المسلمين، وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين. وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي إذ قام يتبرك بالحجب، ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة، وهو يحسب أن النصر له من ورائهم. وما كان له من ورائهم إلا الفشل. وهم بعملهم هذا اليوم أبعدوا غاية الدستور عنا أجيالاً، عن أن التنازع حولنا اليوم شديد.
قد يقول بعض الذين ينظرون إلى الأشياء مجردة أن الإسلام ارتقى وما كان حجاب المرأة عقبة في سبيله وهؤلاء لو نظروا إلى الاجتماع كما ينبغي أن ينظر إليه، أي بنظر المقابلة. لعلموا أن المرأة كانت في تلك العصور متناسبة في الظلم في كل المعمورة، ولم يكن بينها هذا التباين الشديد الذي نراه الآن. فالمرأة الغربية لم تكن افضل من المرأة المسلمة في تربيتها وفي عملها. وأما اليوم فيستحيل أن يتم للمسلمين ما تم لهم في الماضي مع سائر الأمم بسبب هذا التباين. وإذا طال جمودهم على حالهم هذه ولم يجاروا جيرانهم في كل شئ كان مصيرهم إلى حيث تقضي سنة التنازع بين المنازعين غير الأكفاء.
على أن النهضة التي قام بها قاسم أمين منذ سنين قليلة، وتلته فيها باحثة البادية والتي نراها تتجسم اكثر فاكثر كل يوم، كما يدل تكاثر الباحثين قي الموضوع، وميل الأكثرين منهم إلى شد أزرها، ولا سيما في هذه الآونة الأخيرة، تبشرنا بان مساعي المصلحين، وان لم تظهر نتائجها العملية في المسلمين اليوم، فسوف لا يمضي زمن قصير حتى تجني منها الأجيال القريبة كل الفوائد المطلوبة. إذ تكون الرؤوس البالية بما فيها من الأفكار المتعفنة قد انقضت ـ والعادات دين ثان ـ فتشب الرؤوس الجديدة على المبادئ الجديدة الموافقة لمصلحة الإنسان المشتركة في العمران، والمتغيرة بحسب روح كل عصر، طبقاً لاحتياجات كل زمان عملاً بسنة الارتقاء، وغلبة الأصلح، والعلم الصحيح أي الملم الاختباري دين أيضاً.
واقبل أيها الأستاذ الفاضل فائق احترامي.
هذه الرسالة موجودة في دار المخطوطات في بغداد
القاهرة 3 مارس 1908
سيدي الأستاذ الفاضل. حفني بك ناصف المحترم
أشكرك على النسخة التي تفضلت عليّ بها. من مقالات "النسائيات" لحضرة الفاضلة باحثة البادية. وقد طالعتها معجباً بعلم صاحبتها ودقة نظرها ـ ولا سيما إقدامها في مجتمع لا يزال أدب المرأة فيه يعد أمرا بعيدا عن المألوف مهما كان شأنه، وبدعة مذمومة. مما دل على ان علمها الواسع لم يبق في رأسها عقيماً كما هو الحال في رؤوس اكثر رجالنا حتى اليوم. ولم اقل نسائنا لئلا أبخسها حقها من الفضل المتقدم بين أترابها. وهن غالباً كما هن. شطر عاطل في جسم اجتماعنا.
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات بل الشرقيات عموماً، لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا، والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح، عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها وان كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله. لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية. وهو رأي في نظر البعض وجيه. أولئك الذين يقولون إن الطفرة محال، ويخشون الانتقادات العنيفة فيطلبون الإصلاح بالتؤدة واللين، خوفاً من تصعيب المطلب الذي يحول دون بلوغه. وان كان نظام الاجتماع لا يستغني أحياناً عن الثورات العنيفة، إذا اشتدت المقاومة في الأحوال الراسية لطول العهد كنظام الطبيعة نفسه، حذو القذة بالقذة. ومهما يكن من ذلك فان رأيها هذا في نظري لا ينافي رأي الطالبين اليوم السفور المطلق، وما هو إلا حذر لفظي، لان رفع الحجاب المعنوي عن العقل، لا بد أن يؤدي إلى رفع الحجاب الحسي دفعة واحدة لا يرضى به حتى المحجوب نفسه، إذا لم يرفع حجاب الجهل عن عقله أيضاً. وكأنها في ذلك سلكت مسلك دارون نفسه في العلوم الطبيعية، إذ حصر الخلق في أصول قليلة تفرعت منها الأنواع الكثيرة بعد ذلك بالنشوء والتحول، حذراً من تصعيب المطلب على أصحاب الخلق أنفسهم. ولكن ذلك الحذر لم يمنع معتنقي مذهبه، المعتقدين صحته، من إطلاق ناموس النشوءِ والتحول على الطبيعة كلها. لأنه إذا صح النشوء للبعض لا يفهم لماذا لا يصح للكل. فتحرير العقل إلى الغاية القصوى أيضاً. فطالب تحرير المرأة لا يسعه ان يطلبه من جهة واحدة، وإلا فكأنه لم يطلبه. ولذلك اعتبر نسائيات باحثة البادية ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين في النتيجة المترتبة عليهما بالفضل المتقدم بين النساء، كمقامه بين الرجال في الإسلام اليوم. وفي يقيني ان الإسلام لم تحرك فيه حتى اليوم مسألة اجتماعية أهم من المسألة التي نحن بصددها، والفضل في ذلك لمصر وحدها ولأبناء مصر.
ليس الغريب أن مسألة المرأة في الاجتماع شغلت الناس في كل العصور ولا تزال شغلهم الشاغل حتى اليوم في كل المعمورة فهي من مقومات الأسرة التي هي أساس الاجتماع بل الغريب أنها مع بساطتها لم يسهل الاتفاق فيها. وذهب الناس فيها مذاهب، وكتبوا فيها ما لو جمع لضاق عنه الحصر. كأنها من المذاهب اللاهوتية العويصة، لان اكثر الباحثين جعلوها كذلك مع أنها من المسائل الطبيعية البسيطة التي لا يجوز أن يختلف فيها اثنان. لولا ذلك ولا نظن ان منشأ هذا الاختلاف خاص بقوم دون آخرين وبصقع دون آخر بل هو عام جميع المعمورة، وكائن من أول التاريخ إلى اليوم، في اشد المجتمعات البشرية انحطاطاً وفي أكثرها ارتقاءً على ضروب متنوعة فلا بد أن يكون لذلك سبب عام هو أصل كل الاختلافات التي رويت في شأن المرأة والتي لا تزال موجودةً حتى الآن.
فالمرأة منذ القديم مظلومة مهضومة الجانب من الرجل، لأنه أقوى منها وهي مظلومة في كل الشرائع ودون استثناء، لان واضعيها رجال. حتى أن بعض هذه الشرائع أنكر عليها النفس. أو بالحري حتى جاز لاتباعها في عصر من العصور أن يتباحثوا في ما إذا كان للمرأة نفس. وهكذا استبد الرجل القوي الخشن بالمرأة الضعيفة الجاهلة. فحرص عليها الفقير حرص المالك على ملكه النافع له، أو استخدامها أحياناً كما يستخدم الحيوان. ولكنه لم يكن يضن بها، كما كان يضن به، لان الحيوان بثمن وهي بلا ثمن غالباً. ولم يستمسك كثيراً بالحجاب لان الفقر كان يطفئ فيه آياته الشهوانية. وحرص الغني عليها حرص غيرة فدفنها حية في قبور من القصور. وكفنها بأكفانٍ من الحجاب. حتى إذا برزت من خدرها مشت متثاقلة كالبرميل الموشح. وهي تهتز على محورها، وتتعثر بظلها، ولم يعد الشعراء من خيالهم تصوراً للتغني بهذا الشبح ـ وغار عليها من النسيم لئلا ينقل إلى سواه شذاها، وحتى من النور لئلا تمتد الأبصار به إلى مرآها. فإذا مات وئدت معه حيه. كأنها متاع له لا يجوز ان يفصل عنه، أو كأنها جزءُ منهُ. ولكنه يجوز له أن يفصل عنها. واعتبرها بذلك أحط من الحيوان، الذي كانوا إذا غالوا في القسوة عليه ربطوه حياً إلى جانب القبر حتى يموت. وهي قبلت بذلك مرغمة بالقوة. مستسلمةً للجهل حتى حسبت كل ذلك واجباً عليها وحقاً له.
"والمرءُ إن ما اعتاد متربة فان تصنه فهو يمتهن"
حتى قتل الترهل قواها الجسدية. وقتل الجهل مواهبها العقلية. والرجل يحسب أنه بذلك صانها، وصان نفسه بها، وما صان فبها إلا جهله. إذ المرأة مرآة الرجل، جاهلة فجاهل، وعالمة فعالم. وما صان الجهل آداباً ولا أوصد أبواباً ولا أعز أمة. وأمنع حجاب توسيع العقل بالعلم الصحيح، وتقويم الأخلاق بالتربية القويمة واكفل كافل الاختبار بالنفس لصيانة المصلحة، فالذي قياده بيده امنع جداً إذا امتنع ممن قياده بيد سواه.
فالحجاب بقية باقية من ضروب الظلم التي حاقت بالمرأة من أول عهد التاريخ إلى اليوم. والحجاب المضروب على المرأة المسلمة إلى الحد المألوف اليوم من غير تخريج أو تأويل لا تقبله العقول الناضجة أياً كانت. وهو سبب عيوب الأسرة الشرقية عموماً، والمصرية خصوصاً، التي قامت باحثة البادية تنبه إليها في نسائياتها. طلباً لإصلاحها. وأي دليل واضح على فساد الأسرة هذا إنما هو من مقام المرأة فيها المنافي للطبع. إذ الحرية المتبادلة في نظام الطبيعة حق طبيعي لا يجوز أن تسلبه حتى ذرات الجماد، وإلا كانت أعمال الطبيعة أدعى إلى الخراب منها إلى العمار. وهي في الاجتماع البشري حق واجب، بل ضروري أيضاً. لان المرأة فيه شطر من شطري جسمه. فإذا سلبت المرأة الحرية عرج الاجتماع ومشى على رجل واحدة. وفيها قيد أيضاً إذ تصبح المرأة حينئذ عالة عليه عوضا عن أن تكون عونا له. ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث لوضع المقدمات المركبة لاستخراج النتائج البسيطة. فإن علم المقابلة البسيط يغنينا اليوم عن كل ذلك ولا أقل من أن نقابل بيننا وبين الأمم الراقية. لنقف على الفرق الجسيم بين مجتمع المرأة فيه مدرجة حية في الأكفان، مدفونة بين الجدران، عقلها محجوب عن أنوار علوم الاختبار، كما حجبت حواسها عن نور الطبيعة؛ وبين مجتمع نرى المرأة فيه على ضد ذلك. ونقابل فقط بين أطفال الامرأتين في مجتمعنا ومجتمعهم. فأين قذارة أطفالنا من نظافة أطفالهم، وسقم أطفالنا من صحة أطفالهم، ورعونة أطفالنا من رصانة أطفالهم، حتى أن صبيانهم ليفوقون رجالنا في العزائم. فيشبون على الجد والعمل، ونشب نحن على السخافة والكسل.
فيستطيلون بأيديهم إلى كل عمل نافع، ونستطيل نحن بألسنتنا إلى كل دعوى فارغة. وإذا دمغتنا الحجة أخذنا نفتش على عيوبهم الجزئية، لنستر بها عيوبنا الكلية، غير ناظرين من خلال ذلك إلى ارتقائهم وانحطاطنا. وتقدمهم وتقهقرنا الكليين. وما كان هذا الارتقاءِ يوم كانت المرأة عندهم مسلوبة الحرية، محجوبةً عن نور العلم. فقد كانت مظلومة كذلك عندهم، وان لم تكن محجبة كما هي عندنا، فإن ضروب الظلم كثيرة.
واغرب من كل ذلك أن مثل هذه الدعاوى الفارغة التي نطمئن إليها تجوز على كثيرين ممن هم في مقام القادة. أو أن البعض يجيزونها نفاقاً يجعلونهُ طعاماً على رؤوس صنانير أغراضهم. لاصطياد اغرارنا به. والأدهى محاولة البعض من هؤلاء وأولئك وإخراج البحث في الموضوع من وجهته الاجتماعية إلى وجهة دينية بحسب أهوائهم، وعلى قدر إفهامهم. وما يقصدون بذلك إلا إزالة التكافؤ من بين الباحثين. لينقلوا الكلام من ان يكون بين الناس بعضهم مع بعض، إلى ما بينهم وبين اللّه، لعل المعارض يجبن ويكون صمته عوناً على تأييد ما يدعون. كما يفعل منتقدو الزهاوي، وقد يظن بعض السياسيين انهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شرّ الجهلاء، كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم، إذ ظنت أنها تملك الجهلاء وهم لا يملكهم إلا إقامة العدل الصحيح، ومن ورائه السيف حتى يقره العلم. فتزلفت إليهم بان منعت نشر افضل كتاب في الإسلام، لأعظم مصلح في المسلمين، وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين. وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي إذ قام يتبرك بالحجب، ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة، وهو يحسب أن النصر له من ورائهم. وما كان له من ورائهم إلا الفشل. وهم بعملهم هذا اليوم أبعدوا غاية الدستور عنا أجيالاً، عن أن التنازع حولنا اليوم شديد.
قد يقول بعض الذين ينظرون إلى الأشياء مجردة أن الإسلام ارتقى وما كان حجاب المرأة عقبة في سبيله وهؤلاء لو نظروا إلى الاجتماع كما ينبغي أن ينظر إليه، أي بنظر المقابلة. لعلموا أن المرأة كانت في تلك العصور متناسبة في الظلم في كل المعمورة، ولم يكن بينها هذا التباين الشديد الذي نراه الآن. فالمرأة الغربية لم تكن افضل من المرأة المسلمة في تربيتها وفي عملها. وأما اليوم فيستحيل أن يتم للمسلمين ما تم لهم في الماضي مع سائر الأمم بسبب هذا التباين. وإذا طال جمودهم على حالهم هذه ولم يجاروا جيرانهم في كل شئ كان مصيرهم إلى حيث تقضي سنة التنازع بين المنازعين غير الأكفاء.
على أن النهضة التي قام بها قاسم أمين منذ سنين قليلة، وتلته فيها باحثة البادية والتي نراها تتجسم اكثر فاكثر كل يوم، كما يدل تكاثر الباحثين قي الموضوع، وميل الأكثرين منهم إلى شد أزرها، ولا سيما في هذه الآونة الأخيرة، تبشرنا بان مساعي المصلحين، وان لم تظهر نتائجها العملية في المسلمين اليوم، فسوف لا يمضي زمن قصير حتى تجني منها الأجيال القريبة كل الفوائد المطلوبة. إذ تكون الرؤوس البالية بما فيها من الأفكار المتعفنة قد انقضت ـ والعادات دين ثان ـ فتشب الرؤوس الجديدة على المبادئ الجديدة الموافقة لمصلحة الإنسان المشتركة في العمران، والمتغيرة بحسب روح كل عصر، طبقاً لاحتياجات كل زمان عملاً بسنة الارتقاء، وغلبة الأصلح، والعلم الصحيح أي الملم الاختباري دين أيضاً.
واقبل أيها الأستاذ الفاضل فائق احترامي.
هذه الرسالة موجودة في دار المخطوطات في بغداد