عبدالرزاق دحنون - وَحْيُ الشيوعيَّة

(بمناسبة إصدار البيان الشيوعي باللّهجة التونسيّة)​

الوَحْيُ: كلُّ ما أَلقيتَهُ إِلى غيرك ليعلَمَه. والوَحْيُ في المعجمات الكتابة والنقش، ومنه قول أهل اليمن القدماء: أبقى من وحي في حجر. وهو أيضاً الإشارة والرسالة والإلهام. وأوحى أي كتب، وأوحى الله إلى أنبيائه أي أرسل إليهم الوحي بواسطة من السماء. وأوحى بمعنى أشار قال تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا".

هل تنطبق دلالة الوَحْي على فكرة الشيوعيَّة الحديثة؟ بمعنى هل هي إشارة، بشارة، رسالة، إلهام، سجَّل كارل ماركس وفريدريك أنجلز مضمونها في "البيان الشيوعي" فأصبح "البيان" مقدَّساً عصيَّ الفهم على عامَّة الناس، وبالتالي احتاج إلى بيان آخر وتبيينٍ وتدبيرٍ وتأويلٍ وتفسيرٍ من فقهاء ومفسرين في كتب رديفة تشرح بعضها بعضاً؟ ومن ثمَّ أمستْ هذه الكتب -هي الأخرى-أيقونات فكرية مقدَّسة يُحجُّ إليها وتُزار كحال ضريح لينين في الساحة الحمراء في موسكو؟ أم أن علينا تفسير العنوان الذي صنعه ماركس لكاتبه الصغير هذا ونفرِّق بين بيان "الحزب" وبيان "الشيوعيَّة" كما فعل ماركس في "نقد برنامج غوتا" وهو وثيقة تستند إلى رسالة كتبها في أوائل مايو 1875 إلى حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي الألماني.

أدهشني وأثار استغرابي في آن معاً ما فعله رفاقنا "التوانسة" -كتَّر الله خيرهم- بتونسة البيان الشيوعي. فقد أصدروا في الأمس القريب "البيان الشيوعي باللّهجة التونسيّة" ووزعوه مجاناً على عامَّة الخلق بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ، بدعوى نشر الثقافة الماركسيّة في الأوساط الشعبيّة التي تطرب لغناء شعبان عبد الرحيم وأحمد عدويّة. لعل وعسى، تفهم بلهجتها العاميَّة ما عجزتْ عن فهمه بالفصحى. يقول البيان الشيوعي في ترجمته باللّهجة التونسيّة:

"أوروبا مَفْجوعة من خُوّيفة الشيوعية. واتلمّت قوى أوروبا القديمة باش تحاربها، البابا والقيصر وزميم الثورة المضادة في النمسا مِيترْنتخ، والمؤرخ قِيزُو، اللي وقف ضد الثورة الفرنساوية، والرادكاليين الفرنساويين، والبوليس الألماني. ما ثمّاش حزب معارض ما لصقوش فيه تهمة الشيوعية، وما ثمّاش حزب معارض ما اتهموش هو زادة الخصوم متاعو من اليمين لليسار بالشيوعية، وكأن الشيوعية عار كبير. ومن هنا نخرج بزوز حاجات:
أوّل شي: القوات الأوروبية الكل ولات تعترف بالشيوعية، باعتبارها قوة.
ثاني شي: توّا جا الوقت باش الشيوعيين إيوضحو قدام العالم الكل، باش يشوف ويسمع تَصوّراتهم وأهدافهم واتجاهاتهم، وباش يواجهو خُوّيفة الشيوعية ببيان الحزب الشيوعي هذا"

خطوة جريئة ومستطرفة على كل حال، على ما تحمل من دلالات وتفسيرات ومقاصد ومآرب. وكان الرفاق التوانسة لهم قصب السبق في أمر "البيان الشيوعي" من خلال المفكر التونسي العفيف الأخضر-رحمه الله- الذي عمل ترجمة سماها "البيان الشيوعي في أول ترجمة غير مزوَّرة" على حدِّ زعمه ضمَّنها تعليقات مُسهبة من قاموس الفكر الماركسي. طبعتها دار الجمل في ألمانيا، موطن كارل ماركس، وأصدرتها في نسخة ضخمة فخمة تجاوزت 350 صفحة وذلك في عام 2015.


المأزق الذي نحن فيه، أقصد أصحاب الفكر الشيوعي، يتلخص في التناقض بين جوهر الشيوعيَّة، وبين ظاهر الشيوعيَّة، الشكل، المظهر، "البرستيج" والذي يتبدى في الأحزاب الشيوعيَّة الرسمية التي تحتكر هذا المدى الفسيح للفكر الشيوعي وتجعل منه عقيدة، شريعة، مطرقة ومنجل، لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، شعارات، أيقونات، معبودات، مثل شجرة الزقوم التي لا تُسمن ولا تغني من جوع. ويغيب الجوهر الحقيقي للفكر الشيوعي، ويصبح المتخيل أكثر حضوراً من الواقعي، وبذلك يتوقف قلب الشيوعيَّة عن الخفقان، بوصفها حركة ثورية، وتتحول إلى شبح مُهجّن، كسول، لا يُرعب أحداً، ويُصبح الشيوعي متجهّم الفكر والوجه، ثقيل اللسان، سوداوي، كئيب، عابس، لا يضحك، يميل إلى الانطواء، والخوف من الآخر، ورفضه، ويتمترس خلف أوهامه، ويتحجّر فكره، ويفقد صفة العطاء، ويطرح الجدل من حياته، ويعيش في عزلة، فينفضّ الخلق من حوله، لا يطال بلح الشام ولا عنب اليمن. وهذا عملياً حال الأحزاب الشيوعيَّة في أغلب دول العالم، ومنها الدول العربيّة. ما العمل يا لينين؟

هل يمكننا القول بأن "البيان الشيوعي" هو المخطط الهندسي "كروكي" الذي نسترشد به لبناء هيكل فهمنا لماهيّة الشيوعيَّة؟ أم أنَّ فهم الشيوعيَّة يحتاج إلى ذلك الحصاد الوفير من المراجع التي تركها لنا الأوائل من المفكرين من كارل ماركس إلى مهدي عامل، ومن ثمَّ نسترشد "بسنَّة" أبرز قادة الثورات الشيوعيَّة في القرن العشرين: لينين، ماو تسي تونغ، كيم إيل سونغ، هوشي منه، فيدل كاسترو.

وهل علينا أن نفرق بين "الشيوعيَّة" كسلاح في يد الطبقة العاملة العالمية لنيل حقوقها من خلال اتحادها وصوتها الصارخ: يا عمال العالم اتحدوا. وبين فلسفة الماركسية التي تدفع بالفكر البشري إلى حقول معرفية فسيحة. وهل يمكنني القول مثلاً أن المرء يمكن أن يكون ماركسيّاً ولا يكون شيوعيَّاً؟ فأنا أعتبر بأن عنترة العبسي اقترب كثيراً من الشيوعيَّة، ولم يكن ماركسياً، لأنه قال:

يُخْبِـركِ مَنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّنِـي
أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ

أما رفيقي عروة بن الورد فقد كان شيوعيَّاً أصيلاً، بكل تأكيد، وهو القائل:

إني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنتَ امرؤ عافي إنائِكَ واحدُ
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بوجهي شحوبَ الحقِّ، والحقُّ جاهد
أُقسّمُ جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد

والشيوعيَّة على العموم ليست بدعة من بدع الغرب، وهي بالتأكيد لها شروش ضاربة في الشرق. هؤلاء وغيرهم من أصحاب خط ما تحت الفقر-الصعاليك إن شئت- يحتاجون إلى شيوعيين من نسيجهم يملكون قلوباً حارَّة شجاعة جسورة تستطيع-بلا مِنَّة من أحد- الوقوف معهم في الشدائد والمحن. هل نستنطق الأمل في أن هذه الفئة من الخلق ستُعيد اكتشاف نفسها ليس فقط من خلال معاناتها، بل وأيضاً من خلال هاجس إخراجها من ورطات الذُّل والفقر وتمليكها ما تستغني به عن التعب والكد، مما لا يتم دون إعادة توزيع الثروة الاجتماعية؟

وأسأل هُنا كيف للعامل البسيط المسلم أو المسيحي أو اليهودي أن يتدبر أمره مع الشيوعيَّة وهو يعيش في بيئة دينية؟ وهل يمكننا القول بأن الشيوعيَّة كالدين تعيش في بيئة مُتحضرة غنيّة كما تعيش في بيئة تقليديّة فقيرة؟ بمعنى يمكنك ان تجد شيوعيَّاً يعيش في مدينة "بيرن" عاصمة سويسرا وتجد شيوعيَّاً آخر يعيش في بيوت الصفيح في "كلكتا" في الهند.

ماذا نفعل كي نفهم الشيوعيَّة فهملاً معقولاً؟ هل ننتسب إلى حزب شيوعي؟ فعلنا ذلك، وكانت النتيجة "صفر مكعّب" لم نفهم. وأنا في الحزب الشيوعي من أربعين عاماً، نقرأ ماركس-أنجلز؟ فعلنا ذلك أيضاً وكانت النتيجة "نَجَحَ شحط" يعني مع المساعدة. وفي هذا الصَّدد أذكر "مُلْحَة" نقلها المفكر والباحث العراقي هادي العلوي تقول: إن مسؤولاً في اليمن الجنوبي -أيام الرفيق عبد الفتاح إسماعيل-كان يضع على حائط مكتبه شهادة ببرواز مذهَّبْ حصل بموجبها على درجة مئة بالمئة في "الديالكتيك" من الاتحاد السوفييتي في أيام الرفيق ليونيد بريجينيف. علَّق العلوي: لو قُدِّر لكارل ماركس نفسه أن يدخل هذا الامتحان لما حصل على هذه الدرجة.

هل قرأتم مجلدات لينين "العشرة" بغلافها الأزرق التي ترجمتها دار التقدم عن الروسية ونشرتها بالعربي بترجمة إلياس شاهين في نهاية سبعينات وأوائل ثمانينات القرن العشرين؟ نعم، فعلنا ذلك وحفظناها عن ظهر قلب. وماذا كانت النتيجة؟ عملياً -في تجارب أحزابنا الشيوعيَّة- رسبنا في الامتحان وانفضّ الخلق من حولنا، وأمسينا لاحول لنا ولا قوّة. على كل حال لا نستطع أن نفعل فعل النعام-مع أنني لم أر النعام يفعلها، يغرس رأسه في الرمال حتى لا يرى عدوه- ولكنني أسأل نفسي أولاً: هل الشيوعيَّة إناء ينضح بما فيه؟ بمعنى "طنجرة طبيخ" نأكل مما وضعنا فيها، لأننا في الأحلام أو "اليوتوبيا" نأكل ما نشاء، أما في الواقع فنحن نأكل مما طبخناه في طناجرنا، فأنت لن تأكل سمكاً من طنجرتك التي وضعت فيها بيضاً مسلوقاً. وكذلك في المثل "نحصد ما نزرع" فأنت لن تحصد قمحاً إذا زرعت شعيراً.

في ظني أن الأمر كذلك، الشيوعيَّة تتجلى في الصين غير ما تتجلى في كوريا الشمالية، وهي في الهند غير ما هي في فنزويلا أو تونس، وهي في كندا غير ما هي في السنغال أو ماليزيا، وهي في روسيا غير ما هي في النمسا أو السعودية. تضحك؟ والله العظيم "كان صرحاً من خيال" يحمل اسم "الحزب الشيوعي في السعودية" قرأتُ بعضاً من بياناته في ثمانينات القرن العشرين في مجلة "الهدف" التي أسسها غسان كنفاني صيف عام 1969 في بيروت، وكانت ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. هل كان في بالنا ان نجرِّب زراعة الشيوعيَّة في السعوديَّة؟

تحميل البيان الشيوعي باللّهجة التونسيّة:
البيان الشيوعي باللهجة التونسية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى