الدفء كان يشمله، وهو داخل الورشة، أما وقد خرج، بعد انتهاء ساعات عمله، فقد نفحته موجة من البرد و... "الزيفة"، جعلت أوصاله ترتجف.. لفّ عمامته القصيرة نوعاً.. أوصلها بعد "مباصرة" إلى ما تحت أذنيه.. قاد دراجته. عشرون عاماً وهي معه.. يرأف بها.. وكأنها من أفراد أسرته لا يستغلها، إلا من البيت إلى الورشة.. فقط، وبالعكس.
الأرض مبتلة.. ما زالت سحابة تتقيأ ما بجوفها من مياه.. إنه صار عجوزاً، لا يتحمل حتى زيفة المطر هذه.. زمان أيام "الصَّبْيَنَة" كان يقطع "البَحَر" عائماً، في عز الشتاء، لكي يلحق بحفل "الدَّلُّوكَة" المُقام في الضفة الأخرى من قريتهم.. "الرحيمة" أبداً لم تكن تفوته " دلوكتها".. يبتسم في مرارة.. هيه.. أيام!!.. يُدخل يده في جيبه، بغرض بعث الدفء فيها.. تصطدم يداه بشيء.. يتذكر بقايا تمر أعطاه إياه، الشيخ عبد الباقي.. يخرجه في لهفة.. "كنجدة عاجلة" يمضغه بشغف، الدم يتدفق في شرايينه.. قليل من الدفء يحسّ بسريانه في جسده.. إنه لا يحب "وردية الليل"، وخاصة في هذا الخريف.. بل أصبح يكره الخريف نفسه.. وتذكر صلاة الاستسقاء في قريتهم، عندما يتأخر هطول المطر.. كان يحب الخريف... اتفو!!.. يبصق، ربما على المدينة بمعكوساتها التي جعلته يكره ما يحب، ويُجبر على حب ما يكره.
ابتعد عن الورشة.. كثيراً. من بعيد يأتيه صوت صافرة قطار.. قطارات "الوردية" هذه تعوى طوال الليل، كأنها كلاب حراسة. دخل أزقة المدينة.. الصمت يلفها من كل ناحية.. الناس هنا تنام في موعد نوم دجاجها.. مركبة عجلات دراجته، وهي تتدحرج على الأرض المبتلة برزاز المطر، تهتك صمت المدينة.. الطين والحجارة، تتطاير من حولها مذعورة.. ربما يحتضنها "الأفرول" ولكن لا يهم.. الزيوت والشحم، لم تترك مكاناً.. لمزيد.
الكلاب تتحرك، تنبح.. حتى المطر والبرد لا يسكتان هذه الكلاب.. دائماً، مخلصة هذه الكلاب.. ربما تكون أكثر إخلاصاً من أصحابها. أخيراً يصل إلى بيته.. يدخل، على الحائط "يتْكِل" دراجته، بحيطة وحذر.. وبرفق كذلك.. من "السرج" الخلفي، يفك، بعض قطع الخشب، المربوطة بحبل، هي بقايا يجمعها من تحت أرجل النجارين، لتساعد زوجته في أعمال المنزل.. فهم لا يستطيعون ملاحقة أسعار الفحم، لأنه كما تقول زوجته "الفحم.. كِرِهْتُو.. غالي غلاة التَّابَانِي".
يدخل الغرفة.. الأم وأولادها، كلهم نائمون.. أحمد، أصبح يتمتع ب"عنقريب" يرقد عليه بمفرده، منذ أن سافر أخوه الأكبر إلى الخرطوم، ليلتحق بالجامعة هناك.. الآخرون كل اثنين في "عنقريب" حتى هو يرقد بجانبه ابنه زكريا.
يضع الخشب على الأرض.. زوجته تصحو، دائماً هكذا، "في وردية الليل"، تستيقظ لوحدها.. رغم محاولاته تجنب إيقاظها.. كأنما أحد داخل نومها، يخبرها بقدومه.. "إنت جيت"؟.. "أيوه.. قومي ولِّعي نار بالحطب ده، خلينا ندفأ، البرد كتلنا".
تنهض بهدوء وحذر، كيلا تزعج الرضيع، الذي ينام في حضنها.. "سوي لينا عشا، بَطُنّا تكورك.. من الجوع".
"ما فضل عشا.. قدر الفي، أكلوه الأولاد".. "يعني أبيت القوا في الليل الطويل ده، سوى لينا جنى جداد".. "الجنى جداد، مودِّياه السوق باكر.. أجيب لي قريشات.. أصلوا باكر قهوة سيدي الحسن، عشان شايلا نذر أسويها لي ولدي صلاح، أكان كراعو الانكسرت في الكورة دي، جبرت..".
ينظر إلى ولده صلاح، في حنان، وفي خوف.. "المدرسة قربت تفتح، يقوم الولد يتأخر من قرايتو، غايتو البصير فك الجبيرة، وقال الولد كراعو جبرت، أيام ويمشي عليها.. أتفو على الكورة، العملوها جديدة دي، حمت الولاد القراية".
زوجته تضع الحطب في "الكانون"، تشعل فيه النار، تحمل "الكانون" تضعه تحت أقدام زوجها. "يا وليه شوفي لينا حاجة ناكلها". "في كسرة بايته أجيبها ليك؟". "أيوه.. جيبيها".
يفرك يديه في لهب النار.. الدفء يسري في جوانبه.. سرح بخياله.. "يا ربي الولد في الخرطوم عمل شنو، رسل جواب قال بفتش لي شغل، ويواصل القراية بالليل. ود الحاج خوفني، قال ناس الخرطوم ما بشغلوا الزول الدخل السجن". وانقبض قلبه. "أبوي لقيت الورقة دي في كتب اخوي". كان ذلك في العام الماضي، حينما جاءه ابنه الصغير يجري وهو يحمل هذه الورقة، وكأنه أحس بخطورتها. انغرزت، ساعتها، في قلبه السكين.. يومها تذكر السجن، والبوليس الذي يدخل البيوت ليفتشها، وإذا وجدوا شيئاً أو لم يجدوا شيئاً يأخذون معهم من جاءوا لأجله.
"أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو.. ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد.. زمان عملوا للإنجليز كده.. إبراهيم العطشجي ده من زمن الإنجليز، وهو يرموا بيه في السجن.. دحين اليومين دي، ما قاعد أشوفوا.. أكيد دخلوه السجن.. والله الإنجليز، كانوا أخير من ولاد البلد، كانوا بصرفوا لينا "البونص" وديل غير يدخلوا الأولاد في السجن، ما عندهم شغلة".
زوجته تحضر له الكسرة، إنها ناشفة، ولكنه جوعان، أخذ يمضغها، صوت خشن، كصوت برميل يتدحرج تحت قدميه في الورشة، حين يفلته أحدهم، في غفلة منه. أحس بعدها، أن بطنه قد امتلأت.. إنه شبعان الآن.. "غايتو سكتت من الكواريك". تذكر الفرن في الورشة الذي يوقدونه عادة بالفحم، ولكنهم في بعض المرات يرمون فيه الحجارة.. ولكنه أيضاً.. يسخن ويستمر في تأدية عمله.. ابتسم لهذه المقارنة.. غسل يديه، أخذ يفركهما في بقايا لهب النار، التي بدأت تخبو.. شعر بسرور يغمره.. أخرج "حُقّة" الصعوت.. فارغة يجدها.. لا يهم، يدقها على باطن يده عدة مرات.. ذرات سوداء تتناثر.. يكشحها في فمه.. يلمها بلسانه.. ويكورها، تحت شفته السفلى.
نظر إلى زوجته، التي عادت إلى مرقدها، لتنام.. امرأة طيبة.. إنها أول من دخل منزله.. ثم دخلت بعدها الدراجة، إنه وزوجته والدراجة أقدم ما في هذا البيت!!.. ابتسم لهذه الخاطرة.. إنه فعلاً مسرور. نظر إلى زوجته، مرة أخرى.. إنها تحاول أن تضع ثديها في فم ابنها الرضيع، الذي استيقظ، دون أن يصرخ كعادته، تركته لأنه أغمض عينيه ونام.
لماذا لا يكون أبناؤه تسعة أو عشرة.. إنه يحب أولاده، يحب الأطفال، إنهم زينة الحياة الدنيا.. قومي يا بتول شيلي زكريا من جنبي، رقديه في عنقريبك.. قالها برقة، وهو يبتسم.. إنها تعرف ما يعني"سمح" قالتها في حياء.. هي دائماً تعرف.. وهي دائماً مطيعة لا تعصي له أمراً.
عمر الحويج
أكتوبر 1965م
الأرض مبتلة.. ما زالت سحابة تتقيأ ما بجوفها من مياه.. إنه صار عجوزاً، لا يتحمل حتى زيفة المطر هذه.. زمان أيام "الصَّبْيَنَة" كان يقطع "البَحَر" عائماً، في عز الشتاء، لكي يلحق بحفل "الدَّلُّوكَة" المُقام في الضفة الأخرى من قريتهم.. "الرحيمة" أبداً لم تكن تفوته " دلوكتها".. يبتسم في مرارة.. هيه.. أيام!!.. يُدخل يده في جيبه، بغرض بعث الدفء فيها.. تصطدم يداه بشيء.. يتذكر بقايا تمر أعطاه إياه، الشيخ عبد الباقي.. يخرجه في لهفة.. "كنجدة عاجلة" يمضغه بشغف، الدم يتدفق في شرايينه.. قليل من الدفء يحسّ بسريانه في جسده.. إنه لا يحب "وردية الليل"، وخاصة في هذا الخريف.. بل أصبح يكره الخريف نفسه.. وتذكر صلاة الاستسقاء في قريتهم، عندما يتأخر هطول المطر.. كان يحب الخريف... اتفو!!.. يبصق، ربما على المدينة بمعكوساتها التي جعلته يكره ما يحب، ويُجبر على حب ما يكره.
ابتعد عن الورشة.. كثيراً. من بعيد يأتيه صوت صافرة قطار.. قطارات "الوردية" هذه تعوى طوال الليل، كأنها كلاب حراسة. دخل أزقة المدينة.. الصمت يلفها من كل ناحية.. الناس هنا تنام في موعد نوم دجاجها.. مركبة عجلات دراجته، وهي تتدحرج على الأرض المبتلة برزاز المطر، تهتك صمت المدينة.. الطين والحجارة، تتطاير من حولها مذعورة.. ربما يحتضنها "الأفرول" ولكن لا يهم.. الزيوت والشحم، لم تترك مكاناً.. لمزيد.
الكلاب تتحرك، تنبح.. حتى المطر والبرد لا يسكتان هذه الكلاب.. دائماً، مخلصة هذه الكلاب.. ربما تكون أكثر إخلاصاً من أصحابها. أخيراً يصل إلى بيته.. يدخل، على الحائط "يتْكِل" دراجته، بحيطة وحذر.. وبرفق كذلك.. من "السرج" الخلفي، يفك، بعض قطع الخشب، المربوطة بحبل، هي بقايا يجمعها من تحت أرجل النجارين، لتساعد زوجته في أعمال المنزل.. فهم لا يستطيعون ملاحقة أسعار الفحم، لأنه كما تقول زوجته "الفحم.. كِرِهْتُو.. غالي غلاة التَّابَانِي".
يدخل الغرفة.. الأم وأولادها، كلهم نائمون.. أحمد، أصبح يتمتع ب"عنقريب" يرقد عليه بمفرده، منذ أن سافر أخوه الأكبر إلى الخرطوم، ليلتحق بالجامعة هناك.. الآخرون كل اثنين في "عنقريب" حتى هو يرقد بجانبه ابنه زكريا.
يضع الخشب على الأرض.. زوجته تصحو، دائماً هكذا، "في وردية الليل"، تستيقظ لوحدها.. رغم محاولاته تجنب إيقاظها.. كأنما أحد داخل نومها، يخبرها بقدومه.. "إنت جيت"؟.. "أيوه.. قومي ولِّعي نار بالحطب ده، خلينا ندفأ، البرد كتلنا".
تنهض بهدوء وحذر، كيلا تزعج الرضيع، الذي ينام في حضنها.. "سوي لينا عشا، بَطُنّا تكورك.. من الجوع".
"ما فضل عشا.. قدر الفي، أكلوه الأولاد".. "يعني أبيت القوا في الليل الطويل ده، سوى لينا جنى جداد".. "الجنى جداد، مودِّياه السوق باكر.. أجيب لي قريشات.. أصلوا باكر قهوة سيدي الحسن، عشان شايلا نذر أسويها لي ولدي صلاح، أكان كراعو الانكسرت في الكورة دي، جبرت..".
ينظر إلى ولده صلاح، في حنان، وفي خوف.. "المدرسة قربت تفتح، يقوم الولد يتأخر من قرايتو، غايتو البصير فك الجبيرة، وقال الولد كراعو جبرت، أيام ويمشي عليها.. أتفو على الكورة، العملوها جديدة دي، حمت الولاد القراية".
زوجته تضع الحطب في "الكانون"، تشعل فيه النار، تحمل "الكانون" تضعه تحت أقدام زوجها. "يا وليه شوفي لينا حاجة ناكلها". "في كسرة بايته أجيبها ليك؟". "أيوه.. جيبيها".
يفرك يديه في لهب النار.. الدفء يسري في جوانبه.. سرح بخياله.. "يا ربي الولد في الخرطوم عمل شنو، رسل جواب قال بفتش لي شغل، ويواصل القراية بالليل. ود الحاج خوفني، قال ناس الخرطوم ما بشغلوا الزول الدخل السجن". وانقبض قلبه. "أبوي لقيت الورقة دي في كتب اخوي". كان ذلك في العام الماضي، حينما جاءه ابنه الصغير يجري وهو يحمل هذه الورقة، وكأنه أحس بخطورتها. انغرزت، ساعتها، في قلبه السكين.. يومها تذكر السجن، والبوليس الذي يدخل البيوت ليفتشها، وإذا وجدوا شيئاً أو لم يجدوا شيئاً يأخذون معهم من جاءوا لأجله.
"أنا ما عارف الأولاد ديل عايزين شنو.. ما قالوا عايزين حكم ولاد البلد.. زمان عملوا للإنجليز كده.. إبراهيم العطشجي ده من زمن الإنجليز، وهو يرموا بيه في السجن.. دحين اليومين دي، ما قاعد أشوفوا.. أكيد دخلوه السجن.. والله الإنجليز، كانوا أخير من ولاد البلد، كانوا بصرفوا لينا "البونص" وديل غير يدخلوا الأولاد في السجن، ما عندهم شغلة".
زوجته تحضر له الكسرة، إنها ناشفة، ولكنه جوعان، أخذ يمضغها، صوت خشن، كصوت برميل يتدحرج تحت قدميه في الورشة، حين يفلته أحدهم، في غفلة منه. أحس بعدها، أن بطنه قد امتلأت.. إنه شبعان الآن.. "غايتو سكتت من الكواريك". تذكر الفرن في الورشة الذي يوقدونه عادة بالفحم، ولكنهم في بعض المرات يرمون فيه الحجارة.. ولكنه أيضاً.. يسخن ويستمر في تأدية عمله.. ابتسم لهذه المقارنة.. غسل يديه، أخذ يفركهما في بقايا لهب النار، التي بدأت تخبو.. شعر بسرور يغمره.. أخرج "حُقّة" الصعوت.. فارغة يجدها.. لا يهم، يدقها على باطن يده عدة مرات.. ذرات سوداء تتناثر.. يكشحها في فمه.. يلمها بلسانه.. ويكورها، تحت شفته السفلى.
نظر إلى زوجته، التي عادت إلى مرقدها، لتنام.. امرأة طيبة.. إنها أول من دخل منزله.. ثم دخلت بعدها الدراجة، إنه وزوجته والدراجة أقدم ما في هذا البيت!!.. ابتسم لهذه الخاطرة.. إنه فعلاً مسرور. نظر إلى زوجته، مرة أخرى.. إنها تحاول أن تضع ثديها في فم ابنها الرضيع، الذي استيقظ، دون أن يصرخ كعادته، تركته لأنه أغمض عينيه ونام.
لماذا لا يكون أبناؤه تسعة أو عشرة.. إنه يحب أولاده، يحب الأطفال، إنهم زينة الحياة الدنيا.. قومي يا بتول شيلي زكريا من جنبي، رقديه في عنقريبك.. قالها برقة، وهو يبتسم.. إنها تعرف ما يعني"سمح" قالتها في حياء.. هي دائماً تعرف.. وهي دائماً مطيعة لا تعصي له أمراً.
عمر الحويج
أكتوبر 1965م