رسائل نجوى شمعون وجواد ناصر

رسالة جواد ناصر

صباح اليوم قادتني أقدامي المتسارعة إلى كورنيش العشار حيث كان هنالك تمثال الشاعر البصري بدر شاكر السياب ينتصب بشموخه وهو يحتضن البصرة بعينيه الهادئتين ويصغي لصهيل أمواج شط العرب المتهادي في جريانه و الذي لا يبعد عنه سوى خمسة أمتار تقريبا،هنا كنتِ يا نجوى حاضرة هنا كان لكلماتك معنى وأكاد أسمع صهيل وجعك متناغماً مع صهيل حروف قصائد السياب وصهيل الموج فتولد سمفونية لذيذة.
ذات يوم قلتِ لي عبر الماسنجر " أني أصبحت لا أؤمن بالكلمة "
لا يا نجوى هنا تتجلى كل معاني الكلمات هنا تنتصر على الضجيج المصطنع هنا تسمو للعلياء
أتدرين يا نجوى أين كان السياب طيلة عقدين من الزمن
أتدرين أي جبروت حاول خنق هذا الصوت
أي إرادة خططت له أن يكون ضائعا مهشما تهجره العيون إلى صور مموهة مزخرفة
أتدرين يا نجوى لقد ضاع السياب وسط جلجلة الجند

كانت تماثيلهم كبيرة وهم ينتصبون على قواعد كونكريتية مزخرفة منظمة فوق مياه الشط وهم يرتدون ملابسهم العسكرية ويضعون على أكتافهم الرتب والأوسمة والنياشين ويشيرون بأصابعهم باتجاه الشرق حيث إيران ولها دلالات خاصة وهؤلاء سقطوا قتلى في محرقة صدام التي دامت ثمانية سنوات وقتل فيها أكثر من مليون ونصف شاب عراقي

عندما كنت في الغربة كنت احضر إلى هاهنا بشكل دوري وأشاهد تلك التماثيل الممتدة على طول الكورنيش امتدادا من تمثال السياب ووصولا إلى التمثال الأكبر وهو تمثال وزير الدفاع السابق والمنتصب أمام بيت محافظ البصرة السابق
وكان الجميع يقولون المجد للسيف وليس للكلمة
أتدرين يا نجوى ماذا حل بتلك التماثيل والأصنام
تهاوت بمعاول الفقراء والمحرومين من أبناء البصرة
اندثرت رغم عظمتها وأبهتها وبقي السياب شامخا بهدوئه
يعانق البصرة بذراعيه ويحتضنها بحنانه
أقف الآن أمام السياب
أتأمل طلعته واسمع نغمته
وأدرك بأن للكلمة معنى
كنتِ حاضرة معي هاهنا يا نجوى
أتدركين الآن بأن للكلمة معنى !!!!!
جواد ناصر / البصرة

* مرفق مع الرسالة قصيدة للشاعر بدر شاكر السياب: أنشودة المطر

***


رد " نجوى شمعون " على " جواد ناصر " :

أكتب إليك جمر الكلمات وسوادها فهنا يتشح اللون العادي بسواد غير عادي كحال العراق في وشاحه الدامي واليومي وفي تقصيرنا اليومي تجاه كل شيء،أمور كثيرة بحاجة لضخ الدماء فيها و بعث الروح أيضاً بدءاً بالكاتب وانتهاء بحذاء العتمة ولست أدري مال هذه الكلمة ملاصقة لكتاباتي في الفترة الأخيرة لربما حسب الوضع السياسي الداخلي والخارجي وبمقياس توتراتي الفكرية

كنت بصدد كتابة مقالة "أظافر" مطولة كما أخبرت الصديق الشاعر صالح قادربوه من الجزائر لكني لم أكتبها ظلت بداخلي تتنازعني شهوراً وبدل الكتابة تحولت لأظافر تنهش روحي،لربما التماثيل في غزة منصوبة منذ زمن بعيد ولكنني كواحدة من المشاهدين لم أبصرها بالدقة التي أراها الآن وبمدى تبجحها في وجه الآخر أصبحت أكثر حدة مع نفسها وأضحت كما يحلو لها تحذف وتحرر نصوص الآخر،الآخر الذي كان شريك النص المتناثر فوق الأرصفة كمتسول وحيد ينتظر جمهوراً يصفق له وشاعر آخر يمتدحه أصبح الآن في مرآته وحيداً مع جوقته لا يرى سوى صورته برداء الملك وصاحب النص المعجزة ..

أنا لا أعتب على أحد فالساحة تمتلئ وتنقص تنفض الغبار عن نفسها وتهادن متمرديها لكنها باقية ونحن المتغير الوحيد فيها ،صحيح أنني فقدت الإيمان بالكلمة لكثرة ما رأيت من إجحاف العابرين على الساحة الثقافية فتارة تجد من يمجد فلان ويرنو به للبعيد في أفق يستدير وكأنه القمر وبنصوصه المذهبة ويسارع المقربون منه وله لتسليط الضوء عليه وعلى نصوصه حتى بات كأنه الوحيد في الوطن المذبوح شاعر وغيره رعاة فهل نغضب…؟؟!!

إذا كان هنالك كاتب له أكثر من خمسة مؤلفات في نفس الفترة الزمنية وغيره لا فهل نغضب

السفر لمؤتمرات وأمسيات في الخارج لفئة معينة ومقربة ..فهل نغضب
حتى هؤلاء الذين كانوا بيننا مستهم النار فنفخت أوداجهم فلم يبصروننا كسابق عهدهم أصبحوا كبار الشعراء وعظمائهم كما صور لهم ..
فهل يا صديقي أبصرت ولمست قروحنا المنتقاة في هذا الوسط الذي "يهز" لطبول القبيلة فينا .. أصبح من الحكمة أن نصمت في زمن الشلل وعصابات المديح المطرز بخيول ذبحت على أعتاب بغداد وأصبح الانقلاب مرجعاً لكل شيء فينا كحالنا المائل نراه مستقيما..!

نشرت ديواني الأول وكان غريباً وشريداً ووحيدا ولم أرى من الراقصين احد ولا حتى أشهر سيفه أحد المتفلسفين أو دعاة التفرد بما يصح ولا يصلح وكغيري ممن ليس له ظهر يستندون إليه لم أكثرت فالساحة تنتظر عناصرها الطبيعية والوحيدة لتصفق لها بالنعال .. فهل أغضب
ولأننا في أرض محتلة ومتشبعة بالاحتلال مارسنا قهرنا اليومي على غيرنا عمدنا إلى صنع مجموعات تشبهنا فمن لا يشبهك يستثني من اللعبة ويترك في أرضه المنعزلة إلا إذا كان يهوى مكاناً آخر يحلق فيه مع سرب يشبهه فيكون في مأمن إذ لا يشكل خطرا على الآخرين من ذئاب القطيع ..
ولأن في مشهدنا الثقافي الكثير من التودد على حسابات كثيرة ومصالح متعددة وسط أيدي تتحسس نصوصهم لإثراء المشهد والزج به في أسماء وحيدة ومكررة برتابة قاتلة ..

لا يختلف المشهد "الإنترنيت" كثيراً فالساحة بنفس الشخوص تدور على نفسها ..بمن ينصب من نفسه حارساً أو أميرا للشعر مرة واحدة..
هذا هو حالنا مع اختلاف بسيط لأصوات جميلة لم تتلوث بهم ولم تنسحق تحت أقدامهم المهترئة
حالياً جميعنا محاصرون ومحصورين في بقعة جغرافية واحدة ومع ذلك هنالك تفرد ومسرحيات لا تنتهي كان آخرها منذ فترة وجيزة ..عبثية كانت لكنها أدرجت كنوع من الضحك الهزلي ليتابع الممثلين دورهم في الغزو بطريقة مسرحية وبطريقة مبتذلة لنصب أنفسهم ولاة ..

قس على ذلك مدى الإجحاف بحق الكتاب والشعراء من قبل المعنيين لإظهار كتاب على حساب كتاب آخرين ..أدرك بأن هذا ما يحصل في جميع البلدان البليدة على الفكر والمستعصية على الانتباه لهذا القتل الجماعي ولكن لم أفهم بعد ولم أستوعب لماذا تنتحر الخيول بيد الخيول وتعد موتها مسبقاً في بلادنا …؟؟!!

لماذا ترسم بدمها منطقة الهواء الوحيدة وتبتسم حين موتها..
لتبدأ المراثي والقصائد للخيل المنتحرة أتراها صفقة مجهزة في السر بين القاتل والقتيل
بين النص الجاهز للرثاء وبين القاتل.

هذا قليل القليل في القدح "الكأس"أما في الروح فأحاول أن أدعها كما هى أجنحة طير لم تلوث

ويأتي المشهد من هناك "كما جاء في وكالة معا كتب عايد عمرو..وقال كامل جبيل مسؤول الثقافة في بلدية رام الله ان البلدية تعلن من خلال هذا اللقاء عن تبنيها لطباعة كتب وإقامة امسيات وعمل ورشات عمل ومسابقات ثقافية دعما للمبدعين والمثقفين الفلسطينيين، وطالب المثقفين الاعتماد على النص الوطني والغير مؤطر للارتقاء ب! الذائقة الابداعية في فلسطين.

سننظر بحسرة لهذا الخبر وأيضاً سننتظر طويلاً معاً "غزة والضفة"ليثبتوا لنا الفعل لا مجرد القول …

أنا الآن أرثي حال غزة وكاتباتها وغزة الأخص بيتمها وبأوضاعها المتكدسة بهموم المواطن العادي وهموم كتابها وصحافتها وفنانيها فأين ستكون المرأة في المشهد الثقافي المنزلق علينا كحبر على ورق،وسط إجماع بتحريم صوت المرأة وصورة المرأة بحسب حراسها الجدد في دائرة المأزق الثقافي الممزق،وكحالهم أيضاً هم محررو المواقع يكتبون تحت جناح كتب محرر الموقع " .." فيكتب ما في القلب المعدم بوح شخصي باسم مستعار ليزيح عن نفسه تساقط المرايا ولأن الحدث الخراب أكبر من قامته أصبح يكتب بوجوه عديدة و أقنعة متعددة أرثيه أيضاً لأن البياض تكوم على أرضيته وشاع السواد إذ ليس من العدل أن يبتكر حكايا من نسج الخيال أو بإضافات سحرية لندين الطرف الآخر وندين قتله لنا.

السياب شامخاً بهدوئه ونحن تماثيلنا الخشبية تعجز عن هذا الهدوء والمهادنة تنجرف نحو نار موقدة بأعماقنا تقلب المشهد لصور عدة وتبادر بأن المشهد بألف خير بأبوابه ونوافذه وبالديكور الآدمي المميز والمسرح المجهز لكل مسرحياتنا، فقط ما علينا سوى التأكد من أننا لم نتحول بعد لعرائس تحرك بالخيط أو تصنع من سكر يتقاسمه نمل أسود يتهاوى المسرح وتبقى الثماثيل على حالها المشروخ فلسنا بعمق السياب لنبقى إذ أننا ببساطة اكتشفنا أننا نعانق أنفسنا بدل معانقة الوطن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى