علي خليفة - موقف فاروق جويدة من الشخصيات التاريخية في مسرحه الشعري

لا شك أن هناك وجهات نظر مختلفة من التعامل مع الأساطير والأحداث التاريخية في المسرح، فهناك من المبدعين والنقاد من يَرَوْن أن المبدع له حرية التصرف في التعامل مع الأساطير والأحداث التاريخية حين يوظفها في أي عمل إبداعي له، مثل ألكسندر ديماس صاحب العبارة المأثورة(ما التاريخ؟ إن هو إلا مشجب أعلق عليه لوحاتي) في حين نرى فريقا آخر من المبدعين والنقاد لا يَرَوْن أنه يصح للمبدع أن يتجاوز جوهر الأسطورة، وحقائق التاريخ في تعامله معهما في أعماله الإبداعية كالدكتور لويس عوض.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك ما يمنع المبدع من أن يعيد النظر للأسطورة بالصورة التي يراها، فينظر إليها من خلال إظهار جوانب منها تناسب رؤيته فيها، كما فعل توفيق الحكيم في معالجته لأسطورة بجماليون في مسرحية بجماليون، أو يكتفي باستلهام روح الأسطورة دون أن يعرض تفاصيلها كما فعل برنارد شو مع أسطورة بجماليون في مسرحية بجماليون.
وأكبر مثال أذكره على حرية التصرف مع الأسطورة حين استلهام المبدع لها في أعمال أدبية يبدعها هو موقف كبار كتاب المسرح الإغريقي من أساطيرهم، فكانوا يعيدون النظر فيها، ويتصرفون تصرفات واسعة عند استلهامهم إياها في بعض مسرحياتهم، كما فعل سوفوكليس في استلهامه لأسطورة أوديب في مسرحية أوديب، وأيضا ما فعله يوربيديس في تعامله المختلف كثيرا مع هذه الأسطورة في مسرحية الفينيقيات عن تعامل سوفوكليس معها.
هذا عن الأسطورة، ولكن التعامل مع الأحداث التاريخية يستلزم الحفاظ على الخطوط العريضة لها، وكذلك الأمر حين التعامل مع الشخصيات التاريخية، فلا يجب تصويرها في الأعمال الإبداعية بغير ما عرفت به واشتهرت بعمله.
ونرى فاروق جويدة في مسرحياته الثلاث الشعرية يتصرف مع أحداث التاريخ تصرفات فيها تدخل كبير منه فيها، ويصل هذا التدخل لتغيير حوادث مهمة فيها، كما صنع في مسرحية دماء على أستار الكعبة، فقد عرفنا من بدايتها أن الأحداث التي فيها تحدث في مكة في عصر الدولة الأموية، ولكنه مع تتابع بعض المشاهد فيها أظهر هذه الأحداث التي تجري فيها على أنها تحدث في مصر، وبالطبع هذا لا يجوز خاصة أن ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق للقضاء على عبد الله بن الزبير وأتباعه حدث معروف في التاريخ ومشهور أنه كان في مكة في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان، فلا يجب تغيير هذه الأحداث لأي داعٍ فني.
وتصرف فاروق جويدة مع الشخصيات التاريخية في مسرحه أشد من تصرفه مع الأحداث التاريخية فيها، فهو يعدل في الشخصيات التاريخية التي يستعين بها بشكل كبير حتى إنه قد يصور بعض هذه الشخصيات بصورة مخالفة تماما لوضعها في التاريخ، كما فعل في تصويره شخصية ولادة في مسرحية الوزير العاشق، فولادة في هذه المسرحية امرأة نبيلة فاضلة، كانت تحب ابن زيدون، وتعجب بشعره، وكانت في الوقت نفسه تأمل في توحيد دويلات الأندلس قبل أن تبتلعها مملكة الأسبان، وإن كانت ترى هذا الأمر صعبا للغاية، وتبدو ولادة في هذه المسرحية صوت المؤلف الذي يعبر عن رأيه في التاريخ والواقع من خلاله، في حين أن صورة ولادة في كتب التاريخ التي عرضت لها تختلف كثيرا عن ذلك، فقد وصفت بأنها ماجنة مستهترة، وكان لها عاشقون كثيرون، وقد أغضب هذا الأمر ابن زيدون منها، ويذكر أنها من شدة مجونها كانت قد كتبت على ثوب لها من شعرها:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها
وكذلك رأينا ابن زيدون في هذه المسرحية في صورة مخالفة بعض الشيء عن صورته في التاريخ، فهو في هذه المسرحية لا يهتم بكونه شاعرا، ولكن كل ما يهمه هو الوصول للسلطة، وتوحيد دويلات الأندلس تحت زعامته، وهو يرى أن ولادة بنت الخليفة المستكفي آخر خلفاء الأمويين في الأندلس يمكن أن تكون بذلك النسب وسيلته لتحقيق أهدافه السياسية؛ ولهذا يبدو حبه لولادة فيه نفعية، وهذا ما كانت ترفضه منه في هذه المسرحية، أما ما تذكره بعض كتب التاريخ عن ابن زيدون فأنه كان شاعرا كبيرا قبل أن يكون سياسيا ووزيرا، كما أنه لم يعرف عنه تطلعه ليكون حاكما على كل دويلات الأندلس، بل كل لا يطمع فيما هو فوق منصب الوزارة على خلاف ما جاء عنه في مسرحية الوزير العاشق.
وكذلك كان حال فاروق جويدة في تصرفه الكبير مع شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي في مسرحية دماء على أستار الكعبة، فقد صور الحجاج بن يوسف الثقفي فيها مثالا للحاكم الطاغية الذي يسرف في القتل والعقاب الوحشي دون محاكمة عادلة، واستعان المؤلف ببعض الأخبار المكذوبة التي تلصق بالحجاج ميله للبطش وحب الدماء من صغره، ومن ذلك أنه رفض ثدي أمه في فترة رضاعه، فأوصاها عراف بأن تسقيه دم أفعى أو دم شاة، ولما سقته ذلك الدم قبل ثديها، ويقال في هذا الخبر إنه نشأ على حب سفك الدم من صغره.
والحق أن بني العباس قد شوهوا سير كبار رجال بني أمية ومنهم الحجاج، ولا شك أن الحجاج كان فيه بطش وشدة وتسرع في سفك دماء مخالفيه، ولكن الأمر لا يصل لما تصوره تلك الأخبار عن إسرافه المبالغ فيه في سفك الدماء بدون وجه حق، ويكفي الحجاج أن الفتوحات الإسلامية قد وصلت لأكبر امتداد لها خلال كل العصور في مشرق العالم الإسلامي خلال حكمه للعراق وتسييره الجيوش منها لتلك الفتوحات، كما أنه كان كثير الإثابة والتقدير لحفظة القرآن الكريم، وأيضا كان شديد الغيرة على نساء المسلمين حتى ليروى عنه حكاية شبيهة بحكاية المرأة التي أساء لها بعض الجنود الروم فقالت: وامعتصماه، فجهز المعتصم جيشا وأغار به على تلك البلاد التي أهينت فيها تلك المرأة المسلمة.
وفي مسرحية الخديوي التي فيها أحداث قريبة نسبيا نرى فاروق جويدة مضطربا فيها في حكمه على الخديوي إسماعيل، فهو يراه على لسان الخديوي في بعض الأحيان سبب ما وصلت إليه مصر آنذاك من اضطرابات بإسرافه ومجونه وسوء سياسته، وأحيانا نراه يجعله على لسانه بريئا من أي فساد حدث في عصره، وأن بطانته كانت هي السبب في كل ذلك، وأنه كان يسعى بكل جهده لتحديث مصر، ونرى في هذه المسرحية أيضا اضطراب فاطمة في حكمها على حكم أبيها الخديوي إسماعيل، فأحيانا تبرئه من أي عيب ونقص وتقصير، وأحيانا تجعله سبب ما حل بمصر من اضطرابات أدت للتدخل الأجنبي فيها.
وهذه الصورة المتذبذبة من المؤلف نحو الخديوي إسماعيل نراها في كتب التاريخ، وكان على المؤلف أن يكون له موقف منها لا سيما على لسان الشخصيات الأساسية فيها، لا أن نراها توجه آراء متناقضة في حكمها عليه، ويأتي هذا التناقض من شخصية واحدة أحيانا كما رأينا ذلك في موقف فاطمة من والدها الخديوي إسماعيل في تلك المسرحية.

علي خليفة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى