د. رسول محمد رسول - الاعتباطيّة في نشأة التنوير

في مطلع القرن العشرين كان فردينان دي سوسير (1856 - 1913) من أصحاب اعتباطيّة العلامة وهو القائل: "إن العلامة اللغوية اعتباطيّة". ويظهر ذلك في كلام الناس. والكلام (Parole) عندهم يختلف من شخص إلى آخر، وذلك هو مصدر الاعتباطيّة (Arbitrary).
وعندما نشر ديفيد إنغليز وزميله جون هيوسون كتابهما (مدخل إلى سوسيولوجيا الثقافة) في سنة 2003، تأكَّد لهما اعتباطيّة الثقافة فقالا: "إن الثقافة هي نتاج النشاط الإنساني وليست فعلاً من أفعال الطبيعة؛ لذلك فهي معرّضة للتغير إذا ما تغيّرت ظروف الحياة للمجموعة" (ص 18). وفي ضوء هذه الاعتباطيّة، هل يمكن لنا أن نصف حراك التنوير بأنه اعتباطي؟
التنويري الشخص
من جانبي أقول: نعم؛ فعلى رغم أن التنوير ماهيّة يمكن أن تمثل رؤية شخص ما بعينه لكن هذا الشخص يبقى ذاك الذي تختلف رؤاه عن غيره في قول التنوير، وهنا مكمن الاعتباطيّة في ماهية التنوير لكون هذا الأخير هو فرد أو شخص بعينه يمكن أن تتجاور ماهية التنوير متسعها إلى نظرائه التنويريين فيصبحون جماعة تنويرية، ومن ثم أقليّة تنويرية تتفق في أفكارها التنويرية، وبالتالي أكثرية تنويرية تتفق في خطابها التنويري في المجتمع، وهذه الاتفاقات بين هؤلاء تبقى اعتباطيّة المنحى، فكم تنويرية أقليّة في مجتمع تختلف عن أخرى؟ وكم تنويرية أكثريّة في مجتمع ومن ثم في أمة تختلف عن نظيرتها في مجتمع آخر، وفي ثقافة أخرى، وبالتالي في أمّة معينة، وكل الفروق تأكيد لاعتباطيّة التنوير لديها، وهو ما يدل على أن ماهية التنوير ليست مطلقة، إنها ابنة التاريخ الإنساني الفردي فالشخصي.
تراني هنا أذهب إلى أن ماهيّة التنوير هي نتاج للنشاط الإنساني، وأنا هنا أشاطر ديفيد إنغليز وزميله جون هيوسون فيما قالاه عن اعتباطيّة الثقافة، لأنني اعتقد، وكما بينت ذلك في محاضرتي عن "ماهيّة التنوير"، إن هذه الماهيّة ليست منزّلة من عالم خارجي على عالم الإنسان، فهي ليست ماورائية ولا ميتافيزيقية وليست المثال على طريقة أفلاطون تطلب التحقيق في أرض الواقع، نعم ماهية التنوير تروم تحقيق ذاتها في أرض الواقع التاريخاني الإنساني فهذا وكدها الذي لها، لكنها تبقى متأتية من صميم هذا الواقع التاريخاني لا من غيره المتعالي أو المفارق.
وعندما تكون ماهية التنوير متأتية من هذا الواقع التاريخاني، لا سيما التاريخاني الإنساني، فهي تحمل اعتباطيّة مسارها لأنّ هدفها هو الإنسان ووسيلتها هو الإنسان نفسه وفي آن واحد. ولأن الإنسان هو موجود يتحرَّك ضمن اعتباطيّة وجوده، فالتنوير عنده يمتح اعتباطيته من الحراك الاعتباطي للإنسان في نظرته إلى الحياة والوجود والطبيعة والمجتمع والماضي والراهن والغد، لأن التنوير ليس فعلاً من أفعال الطبيعة؛ بل هو الفعل الإنساني ضمن صيرورة معينة يكون الإنسان هو اللعب الرئيس فيها.
إن العبط في اللغة العربية هو الخالص أو النقي، والعبط من الدم: الخالص الطري، لكن من بين اللغة القاموسية قد يخدمنا ونحن نتحدّث عن الاعتباطيّة سواء في علم اللغة أو الثقافة أو التنوير لكون الاعتباطيّة قد تعني ذلك الشخص الذي عرف الديار توهماً فارتادها، وهنا تحضر الصدفة وما أشبه لتخلق الدلالة. ومع ذلك ترانا نعود إلى أول معجم للغة العربية؛ إذ قديماً قال الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 170 هجرية) في كتابه (العين): "اعْتُبِطَ فلانٌ: مات فَجْأَةً من غيرِ علّةٍ ولا مَرَضٍ. وقولهم: يَعْبطْ نَفْسَهُ في الحَرْبِ إذا ألقاها فيها، غير مُكْرَه". ولنا أن نلاحظ ملفوظ "فجأة"، وكذلك ملفوظ "ألقاها" في الحرب.
ويواصل الفراهيدي ليقول: "واحد العُبُطِ: عبيط والرّجلُ يعبط الأرض عبطاً، ويعتبطها إذا حفر موضعاً لم يحفره قبل ذلك. ومات فلان عبطة، أي: شابّاً صحيحاً". ولنا أن نركز على عبارة "موضعا لم يحفره قبل ذلك".
ويقول الفراهيدي: "ولحم عبيط: طريّ، وكذلك دم عبيط. وعَبَطَتْهُ الدّواهي، أي: نالته من غير استحقاق لذلك". ولنا هنا أن نركز على عبارة "وعَبَطَتْهُ الدّواهي، أي: نالته من غير استحقاق لذلك".
حكاية
وأسوق الحكاية الأتية: في صيف حار، وعندما كنتُ أمشي على نهر المدينة، اكتشفت وجود شبه غرفة مبنية من خوص النخيل على حافة النهر، وكان درجة الحرارة مرتفعة، فجلست فيها لساعات ريثما انخفضت درجة الحرارة، وتركتها عائداً إلى منزلي. وبعد عام اكتشفت أن الناس أطلقت اعتباطاً على هذا المكان عبارة "خيمة الفيلسوف"، والمقصود هنا أنا الفيلسوف، وصدرت هذه التسمية اعتباطاً كما قلتُ، فلو سكن في الخيمة هذه فلاحاً أو صائداً للسمك لكانت التسمية "خيمة الفلاح" أو "خيمة بائع السمك"، وهكذا يتم إطلاق التسمية اعتباطًا.
الأستاذ التنويري
كان أحد الأشخاص التنويريين ترك منزله في وسط المدينة ليعيش في أطرافها أو هامشها بما يبعد نحو خمسين كلم، فاختار سكنا له، وبعد أن استقر راح يجلس في مقهى يجلسُ فيه بعض الشباب مساء كل يوم، وفي خلال ثلاثة أسابيع صار للضيف أصحاباً من شباب القرية يجلسون معه في المقهى، وراحوا يتحدّثون، وأطلقوا عليه صفة "الأستاذ التنويري". لكن شاباً من روّاد المقهى الشعبي سأله مرّة: "ما هو التنوير؟". راح الأستاذ يشرح ويبين لهم عن ذلك، وطاب الحديث للمرتادين من حوله حتى طلبوا منه أن يلقي عليهم سلسلة محاضرات عن التنوير. وفي غضون شهر واحد كان الحديث يشتد ويتعمّق عن ذلك فيما بينهم فأصبح حديثهم الرئيس. وهكذا كانت الصدفة قد جمعتهم على موضوع واحد هو التنوير، وكانت هذه الصدفة اعتباطيّة فيما بينهم، فلولا مجيئ الأستاذ من مركز المدينة إلى الهامش، ولولا وجود المقهى واللقاء عندها صدفة ما كان لحديث التنوير أن يوجد ويكون في توسع، وبالتالي صار الحديث عن التنوير تتوالد فيه رؤى مختلفة لأن روّاده أخذوا يشترون الكتب من المكتبات في المدينة، ويتبادلون قراءتها فخلقوا تقليداً فيما بينهم وفي ذلك اعتباطية، وراحت الأفكار التنويرية تختلف بقدر ما تتوافق اعتباطاً فيما بينهم، وبعد فترة اضطر صاحب المقهى الشعبي إلى تغيير اسم مقهاه إلى "مقهى التنوير"، ولولا مجيئ الأستاذ التنويري من المدينة، وسكنه في القرية، والتام روّادها حوله، وولادة الأحاديث عن التنوير الذي جرى اعتباطاً ما كان تغيير اسم المقهى. وبعد سنة كاملة تقدّم التنويريين إلى رئيس البلدية في القرية بإنشاء مكتبة محلية تحمل اسم "المكتبة التنويرية"، فكان لهم ذلك. لكن بعض التنويريين كانوا في اختلاف فكري وأيديولوجي، فمنهم من اليسار الشيوعي، وغيرهم كان على موضة الغرب الأمريكي، فبدأ الصراع الفكري فيما بينهم، وكل ذلك ظهر اعتباطاً، وكل منهما كان يعبِّر عن اعتقاده ويقينه الإيديولوجي. وفي هذه الأثناء تحصَّل "أستاذ التنوير" على دعوة للعمل في جامعة بالمدينة ليرحل عن القرية إليها في حفل بهيج، ويعود إلى مسقط ولادته في قلب المدينة، وكل ذلك جرى اعتباطًا.
وبعد عام، طلبت إدارة الجامعة من الأستاذ عقد مؤتمر فكري حول التنوير يشارك فيه نحو خمسة وعشرين مشاركاً، فكان رأيه دعوة بعض التنويريين من كل الاتجاهات الفكريّة، وكان خياره استدراج بعض شباب القرية، فتمَّ اللقاء وانعقد المؤتمر، وكانت النقاشات ثرية ومفيدة لكل الأطراف من حيث اختلاف الرؤى التي تقدَّم بها المشاركون، وهو ما كان مدعاة ثراء متعدِّد متنوّع، وتمَّ ذلك اعتباطاً من كل النواحي.
إن التنوير هو فكر إنساني تتعدَّد مشاربه بتعدُّد الناس، وكذلك تتعدّد الرؤى فيه وتختلف من شخص إلى آخر، ومن أقليّة إلى أخرى، ومن جماعة إلى أخرى، ومن قوم إلى غيره، ومن أمة إلى أخرى في بناء رؤيوي اعتباطي. وهذا التعدُّد لا يعني أن يغرق التنوير في جزئيات متشبرقاً لا رابط يجمعه في ماهيته وخطابه وقوله؛ إذ يبقى التنوير يعلي من شأن الإنسان بوصفه إنساناً لدى جميع التنويريين باختلاف الأمكنة الخاصة بهم في العالّم، وهذا التعدُّد هو موئل تعدُّد التأويل لديهم، فالاعتباطية تولِّد التأويل؛ بل هي من شرائطه، وكل تأويل يدخر اعتباطيته.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى