علي خليفة - أنساق القيم في مسرح نجيب محفوظ

على الرغم من طبيعة التجريد والغموض التي تتراءى لنا في أكثر مسرحيات نجيب محفوظ فإننا نرى في بعضها دعوة تأتي بشكل غير مباشر للتحلي بالقيم الحميدة، وأن هناك عقوبة سماوية ستنال كل من يتجاوز هذه القيم، أو يمسها بسوء.
وهذا الحس الخلقي وذلك الشعور الديني في مسرح نجيب محفوظ يؤكد ضرورة مراجعة من يتسرع لإطلاق أحكام تمس تدين نجيب محفوظ بالسلب، كما أن هذا الحس الخلقي وذلك الشعور الديني فيها يدل على إيمان عميق لدى نجيب محفوظ بوجود الثواب والعقاب من الله عز وجل على أفعال الناس في الدنيا والآخرة.
وقد تكون مفارقة بالفعل في أن أكثر روايات نجيب محفوظ لا تقدم رؤية واضحة عن موقفه من أمور تتعلق بالدِّين، وإنما تقدم رؤية شخصياتها التي لا تمثل بالضرورة رؤية نجيب محفوظ نفسه، ولكننا نرى في أكثر مسرحياته حسا أخلاقيا واضحا، وشعورا دينيا بارزا، ويتضح هذا من مواقف الشخصيات فيها، ومن سير الأحداث بها، وسأعرض هنا بعض النقاط التي تدل على قوة الحس الأخلاقي والشعور الديني في مسرح نجيب محفوظ.
النصح والعظة يأتيان قبل وقوع العقاب
وهذا المبدأ في أهمية أن تكون هناك عظة وأن يكون هناك نصح قبل وقوع العقاب عن الغافلين أو المسيئين هو مبدأ مهم في الدين، وأكد عليه الله تعالى في قوله(وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا)، ونرى نجيب محفوظ يعرض في مسرحية المهمة مثالا واضحا لهذا المبدأ، ففي هذه المسرحية نرى شابا يراقبه رجل غريب طوال يوم وهو يقوم بعمل بعض الأخطاء التي اعتاد على عملها، ولا ينتبه ذلك الشاب لخطورة مراقبة ذلك الرجل له وهو يقوم بتلك الأخطاء، بل إنه ينهي يومه بلقائه بفتاة في مكان بعيد عن العمران، ويظهر له ذلك الشخص الذي كان يراقبه طوال ذلك اليوم، ويظهر له نفسه خلال مراقبته له، وتجري الفتاة من ذلك المكان، ثم تحدث لهذا الشاب حوادث غريبة، فيختفي ذلك الشخص الذي كان يراقبه، ويظهر له أربعة أشخاص غريبي الهيئة، ويقوم شخصان منهما بمحاكمته، ويأمران بتنفيذ العقاب عليه خاصة لأنه لم يتعظ في هذا اليوم الأخير رغم الإشارات التي أرسلت له بمراقبة ذلك الشخص الغريب له طوال هذا اليوم، واستمر في تماديه في عمل أخطائه، وهنا يقوم الرجلان الآخران بتوقيع العقاب عليه.
توقيع العقاب يقع على من يتمادون في غوايتهم
وأيضا نرى في الإسلام أن الله يمهل العبد عساه أن يتعظ، فإذا أصر على معاصيه أخذه الله بعقابه، ولم يفلته، ونرى مسرحية التركة تعطينا مثالا حيّا لهذا الأمر، ففي هذه المسرحية نرى شابا عاصيا تمرد على والده الصوفي الذي يشفي الناس من ضلالهم بتبصيرهم بنور الإيمان، ولكن ابنه أعرض عن هذا النور، وتمادى في غيه، وظن أنه سينعم بما تركه له أبوه من تركة بعد موته.
ويأتي هذا الشاب لبيت أبيه بعد سنوات طويلة من مغادرته له، واصطحب معه عشيقة له، وحين يقدم له غلام من تابعي أبيه تركته التي تركها له، لم يهتم بالكتب التي فيها، واهتم بالمال الذي تضمنها، وعزم على أن يستغل ذلك المال في عمل ماخور كبير بدلا من تلك الخمارة الصغيرة التي يديرها وتساعده عشيقته هذه فيها.
ويعاقب ذلك الشخص في الموقف نفسه الذي استلم فيه هذه التركة، فيهجم عليه في بيت أبيه شخص غريب، ويقيده هو وعشيقته، ويسلب منه تلك الثروة المادية، ويكون هذا عقابا له على سوء نيته في استغلال ثروة أبيه المادية واستهانته بثروته المعنوية المتمثّلة قي كتب الدين التي أراد أن يورثها له وينتفع بها عسى أن ينصلح حاله.
عدم اتعاظ الإنسان وعودته لما سلف من الأخطاء
ومن طبائع كثير من الناس أنهم لا يتعظون من المواقف الصعبة التي يقعون فيها، وينجيهم الله منها، بل إنهم بعد أن ينقذهم الله من تلك المواقف الصعبة يعودون لسابق أمرهم في ارتكاب الأخطاء نفسها التي تسببت غضب الله عليهم.
ونرى مثالا لذلك في مسرحية الشيطان يعظ، ففي هذه المسرحية وقع العقاب على مدينة تسمى مدينة النحاس - وقد استوحى نجيب محفوظ أحداث هذه المسرحية من إحدى قصص كتاب ألف ليلة وليلة - بسبب كفرهم وظلمهم لا سيما ملكتهم التي ادعت الألوهية، وكان عقابهم بأن دمر الله هذه المدينة وأهلها.
ويطلب أحد الرجال الصالحين إلى جني أن يعيد هذه المدينة التي دمرت وهلك أهلها منذ عشرين ألف سنة للحباة، وينفذ طلبه، ويحاول ذلك الرجل الصالح، وشخصان معه وعظ أهل هذه المدينة بألا يرتكبوا الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي، ولكنهم لا يفلحون في ذلك، ويتمادى أهل هذه المدينة مع ملكتهم في ظلمهم، فتهلك هذه المدينة مرة أخرى، ويقضى على كل أهلها إلا هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين رغبوا في وعظ أهلها بألا يكرروا الأخطاء التي كانت سببا في هلاكهم وهلاك مدينتهم في الماضي.
خطورة إن يكلف أشخاص أنفسهم بمحاكمة الناس وعقابهم بعيدا عن سلطة الدولة
ولا شك أنه يكون من الخطورة أن يكلف بعض أشخاص أنفسهم بمحاكمة الناس وعقابهم بعيدا عن سلطة الدولة، كما يقوم بذلك بعض الجماعات المتطرفة التكفيرية؛ لأن هؤلاء الأشخاص يحكمون على الناس من خلال رؤية ضيقة، وينتج عن ذلك حدوث خلل كبير في المجتمع.
ويعرض نجيب محفوظ لهذا الأمر في مسرحية الجبل، وفي هذه المسرحية يرى خمسة أشخاص ينتمون لحي شعبي أن هناك في حيهم أشخاصا أشرارا لا يطالهم القانون، ويقررون أن يقبضوا على هؤلاء الأشخاص، واحدا بعد الآخر، ويستدرجوهم لمكان مهجور عند جبل المقطم، ويحاكموهم سريعا، ويقتلوهم.
ويظهر نجيب محفوظ فساد هذه الجماعة، فقد قتلوا أحدهم حين رأوا فيه رقة قلبه، وخشوا أن يبلغ عليهم، ثم تناحروا فيما بينهم، وتقاتلوا، ولم يبق منهم إلا زعيمهم الذي لا يرمز للحكمة ولكن للقوة المادية التي حكمتهم.
دعوة لبث الروح والهمة لأخذ الحق المسلوب
ومبدأ مهم في الخلق والدين ألا يسكت الإنسان عما سلب منه بدون وجه، لا سيما لو كان ذلك المسلوب جزءا من الوطن، وعلى الإنسان أن يتصدى لهذا المعتدي الغاصب، ولا يثنيه عن ذلك مغريات الدنيا وتباهي المغتصب بقوته، ويقول تعالى في ذلك( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ونرى مثالا واضحا على هذا الأمر في مسرحية يميت ويحيي، ففي هذه المسرحية نرى شابا قد أهينت كرامته من شخص معتد بقوته، وتحاول فتاة ترمز لمتع الدنيا أن تثني ذلك الشاب عن مواجهة ذلك الشخص الذي أهانه، وتحاول أن تغريه بالبقاء بجوارها، ويتردد ذلك الشاب بعض الوقت فيما عليه أن يفعله، ثم يقرر مواجهة ذلك الشخص الذي أهانه هو ومن يحتمي به، وهنا تظهر أشباح أجداد لهذا الشاب، وتعينه على هؤلاء الذين أهانوه وسلبوا منه بعض حقوقه.
والرمز القريب لهذه المسرحية هو دعوة المصريين لمواجهة المحتل الإسرائيلي بعد حرب ٦٧ - وقد كتبت هذه المسرحية بعد حرب ٦٧ وقبل حرب ٦ أكتوبر- والرمز البعيد لها هو مواجهة كل معتد متباه بقوته وأعوانه، لا سيما لو كان الأمر يتعرض للدفاع عن الأرض والعرض.
وهكذا رأينا أن الحس الأخلاقي والشعور الديني واضحان في بعض مسرحيات نجيب محفوظ، وهذا يؤكد تدينه، وإن كان هذا لا يمنع من أنه قد مر بفترات شك وارتياب في بعض مراحل من حياته، ورأينا آثار ذلك في بعض رواياته وقصصه.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى