صديقي الدهري أحمد
اخترت من بين الكثيرين الذين احبهم من الشعراء والكتّاب ان اكتب اليك عبر "الحياة" لكي اطمئن من خلالك على ما تبقى من حلم فلسطين وطفولة فلسطين وقصائدها المشغولة بوجع القلب ورعشة الأنامل وقصاصات الأعمار. أكتب اليك لأن المسافة التي تفصلني عنك هي المسافة نفسها التي تفصل بين جنوب خارج من الأسر وجنوب يتدرب على المذبحة كما يتدرب الحبر على القصيدة والطائر على نشيده الصباحي. كأن كل قصائد العرب الحديثة تهجر بحورها الستة عشر لتنتظم في ذلك الايقاع المتناغم الذي يصل بحر غزة ببحر صور قبل ان تردم الجرافات العبرية الزاحفة ما تبقى لأيامنا من ذبالات ولوجوهنا من مياه.
إن رسالة قصيرة ومحدودة المساحة يا أحمد لن تفلح مهما أوتيت من فنون البلاغة والايجاز ان تختصر ثلاثين عاماً من الصداقة بين شاعرين مثخنين بالرغبات المجهضة والحنين الكسيح ولكنني أحاول ما أمكن ان أسترد صورة لقاءاتنا الأولى على أرصفة بيروت السبعينات وما هيأته لنا من قصائد وصبوات. ففي عالم عربي خلا وفاضه من الثورات ورياح التغيير وخلت بيوته الموصدة من الشرفات ورئتاه من الهواء النظيف كانت بيروت هي الهامش الوحيد الذي اتسع للصداقة والخصومة، للمعان البنادق وصراخ السجالات الحادة، لعيون النساء وعيون العسس لرصيف علي فودة وجثة غسان كنفاني، ولشهوة الحياة كما لشهوة الموت.
قبل ان اعرفك وجهاً لوجه كنت قد قرأت قصائدك في "الآداب" مذيلة بتوقيعك وباشارتك الى مدينة حمص التي لم أكن أعرف من جغرافيتها سوى البحيرة ومن تاريخها سوى ما يذكّرني بسيف خالد بن الوليد وبطيف ديك الجن المسدل كدموع تخثرت على جثة "ورد". عجبت يومها، كما تذكر، كيف تستطيع مدينة قابعة في الظلال ان تمدك بأجمل ما كتبته من قصائد وان تقودك رياحها المنسية بعيداً من الحواضر الكبرى كدمشق وبيروت والقاهرة وبغداد. وحين وقعت انا في اسر تلك المدينة، بعد ذلك بعقدين من الزمن، ادركت السبب الذي جعلك تجود بأعذب اشعارك من "عيني يا عيني يا وطني" مروراً بصرختك المؤثرة "يا كربلاء تلمّسي وجهي بمائك تلمسي عطشي القتيل" و"شعرها الأسود من ليل المخيم/ فتحة العينين يا دين النبي!". تلك المدينة المشرعة على الغموض والحب والرياح السوداء هي نفسها التي قادتني الى بساتين الميماس وضفاف البحيرة المسكونة بأكثر من شيطان ودفعتني الى كتابة "ليلة ديك الجن الأخيرة" و"رياح متخيلة لانكسارات نون النسوة"، وهي نفسها التي ينحني شجرها لهبوب الريح وشعراؤها لهبوب القصائد.
حين التقيتك في تونس، أواخر الثمانينات، كان الولد الفلسطيني المفعم بالمشاكسة والتمرد قد اخلى مكانه للكهل الذي تعب من الترحال وضجر من رطوبة المكاتب وقسوة المنافي وصقيع الغرف المغلقة. يومها كان خوفي عليك وعلى نضارة شعرك لا يعادله سوى شعوري اليقيني بأن الجذوة التي اشتعلت في بدايات تجربتك لن تأخذ طريقها الى الانطفاء وستعرف بما أوتيت من قوة الموهبة وصلابة العزيمة كيف تضرم تحتها نار الشعر من جديد وكيف يمكن للعاصفة في هبوبها الثاني ان تستعيد ما خبا من الحرائق. وحين سمعتك في عمان، أوائل التسعينات تقرأ قصيدتك المؤثرة "الى شارع السلط بعد عشرين عاماً" تيقنت تمام اليقين من ان الولد الفلسطيني لا يلزمه سوى الاقتراب من فلسطين لكي ينفض عن جسده غبار المنافي ويعيد القصيدة الى نصابها والغناء الى مجراه.
يوم عدت الى غزة خفت عليك من جديد. ذلك ان الوطن الذي عدت اليه لم يعد اليك الا على شكل مربعات مقسومة بحراب الاعداء، ومغلولة اليدين بالقيود المفرطة وجمالية النقصان. كنت اعرف ان الوطن المسترد لا يشبه بحال من الأحوال صورة الوطن الذي حولته الذاكرة الى اسطورة او فردوس. لكن هذه الهوة الفاغرة بين الصورتين والتي اتسعت لانتفاضتين وعشرات المذابح هي نفسها التي وفرت للابداع الفلسطيني سبيل الكتابة الأعمق وهيأت له المناخ الملائم لافتراع المعنى وسبر غور القصيدة والسرد. فالعبارة الأجمل لا تكتب الا في ضوء الغياب وتحت قبة الهواء الناقص. انه القدر الذي يأخذ بيد لكي يعطي باليد الأخرى. والقدر الذي أخذ من الواقع هو الذي دفع المجاز في السنوات الأخيرة الى أقصى تخومه وأتاح للرواية والشعر الفلسطينيين ان يتعمدا بمياه غير مألوفة وان ينفذا الى اعمق ما في التراب المدمى من غوامض وأسرار. قد لا يتسع المجال في هذه العجالة لكي اعدد الاسماء والكتب والنتاجات لكن ما قرأته لك ولأقرانك الكثر من اعمال يؤكد ان اليد الفلسطينية لا تزال تحسن التصويب عبر الحجر والطلقة ومفردات التعبير ولا تزال قادرة على رجم هذا الظلام الدامس بكل ما تملكه من قوة المنازلة وارادة البقاء.
أعرف يا أحمد ان الرأس قد اشتعل بالشيب والجسد بالأمراض والقلب بالحسرات ولكنني أعرف ايضاً اننا لن نتنازل قيد أنملة عن هذه الحياة الآخذة بالتناقض واننا سننفق اعمارنا المتبقية حتى القطرة الاخيرة، واننا لن ندع للموت حين يجيء ما يأخذه معه الى قبره الفارغ.
اخترت من بين الكثيرين الذين احبهم من الشعراء والكتّاب ان اكتب اليك عبر "الحياة" لكي اطمئن من خلالك على ما تبقى من حلم فلسطين وطفولة فلسطين وقصائدها المشغولة بوجع القلب ورعشة الأنامل وقصاصات الأعمار. أكتب اليك لأن المسافة التي تفصلني عنك هي المسافة نفسها التي تفصل بين جنوب خارج من الأسر وجنوب يتدرب على المذبحة كما يتدرب الحبر على القصيدة والطائر على نشيده الصباحي. كأن كل قصائد العرب الحديثة تهجر بحورها الستة عشر لتنتظم في ذلك الايقاع المتناغم الذي يصل بحر غزة ببحر صور قبل ان تردم الجرافات العبرية الزاحفة ما تبقى لأيامنا من ذبالات ولوجوهنا من مياه.
إن رسالة قصيرة ومحدودة المساحة يا أحمد لن تفلح مهما أوتيت من فنون البلاغة والايجاز ان تختصر ثلاثين عاماً من الصداقة بين شاعرين مثخنين بالرغبات المجهضة والحنين الكسيح ولكنني أحاول ما أمكن ان أسترد صورة لقاءاتنا الأولى على أرصفة بيروت السبعينات وما هيأته لنا من قصائد وصبوات. ففي عالم عربي خلا وفاضه من الثورات ورياح التغيير وخلت بيوته الموصدة من الشرفات ورئتاه من الهواء النظيف كانت بيروت هي الهامش الوحيد الذي اتسع للصداقة والخصومة، للمعان البنادق وصراخ السجالات الحادة، لعيون النساء وعيون العسس لرصيف علي فودة وجثة غسان كنفاني، ولشهوة الحياة كما لشهوة الموت.
قبل ان اعرفك وجهاً لوجه كنت قد قرأت قصائدك في "الآداب" مذيلة بتوقيعك وباشارتك الى مدينة حمص التي لم أكن أعرف من جغرافيتها سوى البحيرة ومن تاريخها سوى ما يذكّرني بسيف خالد بن الوليد وبطيف ديك الجن المسدل كدموع تخثرت على جثة "ورد". عجبت يومها، كما تذكر، كيف تستطيع مدينة قابعة في الظلال ان تمدك بأجمل ما كتبته من قصائد وان تقودك رياحها المنسية بعيداً من الحواضر الكبرى كدمشق وبيروت والقاهرة وبغداد. وحين وقعت انا في اسر تلك المدينة، بعد ذلك بعقدين من الزمن، ادركت السبب الذي جعلك تجود بأعذب اشعارك من "عيني يا عيني يا وطني" مروراً بصرختك المؤثرة "يا كربلاء تلمّسي وجهي بمائك تلمسي عطشي القتيل" و"شعرها الأسود من ليل المخيم/ فتحة العينين يا دين النبي!". تلك المدينة المشرعة على الغموض والحب والرياح السوداء هي نفسها التي قادتني الى بساتين الميماس وضفاف البحيرة المسكونة بأكثر من شيطان ودفعتني الى كتابة "ليلة ديك الجن الأخيرة" و"رياح متخيلة لانكسارات نون النسوة"، وهي نفسها التي ينحني شجرها لهبوب الريح وشعراؤها لهبوب القصائد.
حين التقيتك في تونس، أواخر الثمانينات، كان الولد الفلسطيني المفعم بالمشاكسة والتمرد قد اخلى مكانه للكهل الذي تعب من الترحال وضجر من رطوبة المكاتب وقسوة المنافي وصقيع الغرف المغلقة. يومها كان خوفي عليك وعلى نضارة شعرك لا يعادله سوى شعوري اليقيني بأن الجذوة التي اشتعلت في بدايات تجربتك لن تأخذ طريقها الى الانطفاء وستعرف بما أوتيت من قوة الموهبة وصلابة العزيمة كيف تضرم تحتها نار الشعر من جديد وكيف يمكن للعاصفة في هبوبها الثاني ان تستعيد ما خبا من الحرائق. وحين سمعتك في عمان، أوائل التسعينات تقرأ قصيدتك المؤثرة "الى شارع السلط بعد عشرين عاماً" تيقنت تمام اليقين من ان الولد الفلسطيني لا يلزمه سوى الاقتراب من فلسطين لكي ينفض عن جسده غبار المنافي ويعيد القصيدة الى نصابها والغناء الى مجراه.
يوم عدت الى غزة خفت عليك من جديد. ذلك ان الوطن الذي عدت اليه لم يعد اليك الا على شكل مربعات مقسومة بحراب الاعداء، ومغلولة اليدين بالقيود المفرطة وجمالية النقصان. كنت اعرف ان الوطن المسترد لا يشبه بحال من الأحوال صورة الوطن الذي حولته الذاكرة الى اسطورة او فردوس. لكن هذه الهوة الفاغرة بين الصورتين والتي اتسعت لانتفاضتين وعشرات المذابح هي نفسها التي وفرت للابداع الفلسطيني سبيل الكتابة الأعمق وهيأت له المناخ الملائم لافتراع المعنى وسبر غور القصيدة والسرد. فالعبارة الأجمل لا تكتب الا في ضوء الغياب وتحت قبة الهواء الناقص. انه القدر الذي يأخذ بيد لكي يعطي باليد الأخرى. والقدر الذي أخذ من الواقع هو الذي دفع المجاز في السنوات الأخيرة الى أقصى تخومه وأتاح للرواية والشعر الفلسطينيين ان يتعمدا بمياه غير مألوفة وان ينفذا الى اعمق ما في التراب المدمى من غوامض وأسرار. قد لا يتسع المجال في هذه العجالة لكي اعدد الاسماء والكتب والنتاجات لكن ما قرأته لك ولأقرانك الكثر من اعمال يؤكد ان اليد الفلسطينية لا تزال تحسن التصويب عبر الحجر والطلقة ومفردات التعبير ولا تزال قادرة على رجم هذا الظلام الدامس بكل ما تملكه من قوة المنازلة وارادة البقاء.
أعرف يا أحمد ان الرأس قد اشتعل بالشيب والجسد بالأمراض والقلب بالحسرات ولكنني أعرف ايضاً اننا لن نتنازل قيد أنملة عن هذه الحياة الآخذة بالتناقض واننا سننفق اعمارنا المتبقية حتى القطرة الاخيرة، واننا لن ندع للموت حين يجيء ما يأخذه معه الى قبره الفارغ.