محمد علي عزب - الشعر السريالى.. شعرية الهذيان الاٍرادى والكتابة الآليّة

السريالية كلمة فرنسية تعنى : "ما وراء الواقع", والسريالية اصطلاحا هى مذهب فنى يسعى اٍلى التعبير عن اللاشعور والعقل الباطن, وليست السريالية ( استسلاما سلبيا للهذيان والتحلل العقلى, بل هى اٍخلال متعقل بالحواس, أى انفلات من القيود اليومية التى تحيطنا بها حواسنا, ولكنه انفلات واع بذاته )1, فالسريالية تمزج بين الحلم والواقع والوعى واللاوعى والذات والموضوع, ( والشعر السريالى ناشئ عن دافع لا شعورى يبتدع القصيدة كما يُخلق الحلم )2, وعلى حد تعبير "أندريه بريتون" رائد الشعر السريالى : ( اٍن كل شئ, يتوقف فى نهاية الأمر, على مقدرتنا على الهذيان الاٍرادى )3, اٍذا فالشاعر السريالى عندما يعيش حالة الهذيان فى تجربته الشعرية, فاٍنه ينفلت من قيود العقل انفلاتا واعيا اٍراديا ليُخرج ما بداخله من مشاعر وأفكار مدفونة فى اللاشعور, ويعتمد فى ذلك على "الكتابة الآلية" أو "الأتوماتيكية" التى تشبه أسلوب "التحليل النفسي", فالشاعر يشبه المريض النفسى الذى يسترخى على الأريكة ويُخرِج ما بداخله دون تخطيط منطقى مسبق, فتخرج الكلمات والجمل وكأنها غير مترابطة لكنها تحمل رموزا واٍشارات وصور غريبة محملة بشحنات لا شعورية تعبر عن المدفون فى أعماق الذات, عَصية على الفهم المباشر, ( تتزواج أو تتنافر فيما بينها مؤلفة صورا وكاشفة عن واقع لم يقله أحد بالضرورة )4, وعلى القارئ أن يتفاعل مع هذه الرموز والاٍشارات التى تبدو ظاهريا غير مرتبطة, لكنها خارجة من منطقة "لا شعورية" واحدة تعبر عنها ذات واحدة, تتجه لقارئ يقوم يتنظميها والتفاعل معها وفَكّ شفراتها, كما فى هذا المقطع من قصيدة سريالية بعنوان "الفأس فى الغابة" كتبها "أندرية بريتون" سنة 1932م
أحد توفي منذ لحظة
لكنني إنا حي، ومع ذلك لم يعد لي روح،
لم يعد لي سوى جسد شفاف
في قراره يمامات شفافة
تلقي بنفسها على خنجر, تمسكة يد شفافة
أرى الجهد بكل جماله
,الجهد الحقيقي الذي لا يزنه أي شيء
قبيل ظهور النجمة الأخيرة
إن الجسد الذي أسكنه يشبه كوخا وبسعر مقطوع
بعيدا يمقت الروح التي كانت لي والطافية
هكذا نرى أسلوب التداعى الحر والكتابة الأوتوماتيكية حيث تبدو الكلمات والرموز الصور الغريبة للوهلة الأولى بلا رابط , لكنها خارجة من بؤرة لا شعورية واحدة, وهناك اٍشارات مبعثرة فى النصّ تربط بين هذه الصور الرموز والغريبة, يلتقط القارئ هذه الاٍشارات ويعيد تنظيم النصّ والربط بين صوره ورموزه, كما يلتقط المحلل النفسى الرموز والاٍشارات من بين كلمات الشخص الخاضع للتحليل النفسى, فالشاعر هنا يقف بين حالة الموت الفيزيقى باٍعلانه أن أحدا توفى منذ لحظة, ولكنه هو ـ الشاعر ـ ما زال حيّا,وتندفع بعد ذلك أفكار ومشاعر الذات الشاعرة من منطقة اللاشعور معبرة عن حالة تَموقُع الذات بين الموت واللاموت "إن الجسد الذي أسكنه يشبه كوخا وبسعر مقطوع, يمقت الروح التي كانت لي والطافية بعيدا" .
وهناك فرق بين "الهذيان الاٍرادى" الذى يميز الحالة السريالية الشعرية وبين ما يروق لى أن أسميه "اللعب باسم السريالية", فالأول حالة شعرية ينتقل فيها الشاعر من منطقة الوعى والشعور اٍلى الهذيان باٍرادته, للكشف عن المشاعر والأفكار المدفونة فى العقل الباطن واللاشعور الذاتى والتعبير عنها, وهو فى ذلك يعيش فى دور الحالم صاحب الرؤيا والكشف, أما فى اللعب باسم السريالية فاٍن الشاعر يحاول أن يحاكى بشكل مُصطنع حالة المريض النفسى المصاب بالعُصاب, المستسلم استسلاما تاما للهذيان والتحلل العقلى والجنون, ونتيجة لذلك يصبح النصّ مجرّد كلمات غريبة مفككة خالية من الانفعال الشعرى .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اٍدوار الخراط ـ ما وراء الواقع "مقالات فى الظاهرة اللاواقعية" ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ سلسلة كتابت نقدية العدد 86 ـ القاهرة أكتوبر 1997م ص 15
2 ـ المصدر السابق ص 15
3 ـ هربرت ريد ـ السرياليية والمذهب الرومانتيكى ـ ترجمة هيفاء هاشم ص 36
4 ـ المصدر السابق 38

* مقتطف من كتابى النقدى "مقاربة مفهومية فى المصطلح الشعرى المعاصر" ـ قيد الكتابة







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى