عبدالرزاق دحنون - الثورة السودانية في كتاب البروفيسور أحمد إبراهيم أبو شوك

لفتت نظري صورة ألفتُ حُسنها وتألقها على غلاف كتاب صدر حديثاً عن "سلسلة التحول الديمقراطي" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من تأليف البروفيسور السوداني أحمد إبراهيم أبو شوك تحت عنوان "الثورة السودانية (2018 ـ 2019): مقاربة توثيقية ـ تحليلية لدوافعها ومراحلها وتحدياتها"، هذه الصورة التي جاءت من قلب الثورة السلمية السودانية في وقفة شامخة متحدية لفتاة جسورة اسمها "آلاء صلاح" طالبة هندسة معمارية في جامعة الخرطوم، وتحولت في لحظتها الجميلة الفارقة إلى أيقونة ثورية انتشرت بشكل واسع عبر وسائل الإعلام العربية والعالمية. "آلاء صلاح" هتفت بحميَّة وحماس وعفوية خلال التظاهرات، وهي تقف على ظهر سيارة بيضاء تقود الحشود خارج مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم.

نعم، هذه الفتاة فادحة الخطورة، فدائية حرة، عالية الهمَّة، منتصبة القامة، صلبة العود، شامخة الأنف، فصيحة اللسان، غير هيَّابة ولا مُتخاذلة. وقفت تُعلن في الجموع بيانها الفصيح، والذي عبَّر عن تطلعات أهل السودان في الحرية والانعتاق. وقفت في ثوبها الأبيض وقرطها الذهبي لتعلن للعالم أجمع أن الحرية هي أختنا التي نكتب اسمها في هواء الشوارع والساحات، وعلى دفاترنا المدرسية وعلى مقاعد صفنا وأغلفة كتبنا، وعلى صفحة ماء النيل الأزرق وعلى نخلاته الباسقات الندية، وعلى الرمل والحيطان الصخرية، وعلى نجمات الجنرال الأحمق، على الصوت الهامس، وعلى كسرات الخبز اليابس، وعلى الليل والرمش الناعس، وعلى الصرخة والسيل الهادر وعلى أجساد المظلومين، وعلى عتبات بيوت البسطاء والفقراء والعُصاة المحرومين، وعلى شبابيك سجون الطُغاة.

تظاهرات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 اتسمت بالسلمية والمشاركة الشبابية الواسعة من الجنسين، وتصميم الثوار على إسقاط النظام -تسقط بس- وتأسيس نظام ديمقراطي مستدام يلبّي استحقاقات الحرية والسلام والعدالة. الثوار مارسوا في ساحات الاحتجاجات في مدن وأرياف السودان، لتحقيق هذا الهدف المزدوج، ضروبًا شتى من الكفاح اليومي، شملت المظاهرات، والمواكب، والإضراب عن العمل، والاعتصام في الساحات العامَّة، على الرغم من العنف المفرط الذي مارسته الأجهزة الأمنية ضد المحتجين. وقام تجمع المهنيين السودانيين تحت إشراف تنسيقية قوى الحرية والتغيير بدور مهم في تنظيم المظاهرات اليومية، وتسيير المواكب الدورية ذات الشعارات السياسية والمطلبية المبتكرة، والجاذبة لتطلّعات الشباب الثائرين من الجنسين. وفي ظل هذا التحدي المتصاعد، كانت رؤية الحكومة حبيسة النظرة الأمنية، ورهينة المطمع الشخصي المرتبط باستبقاء البشير في سدة الحكم؛ لذلك عجز صنّاع القرار السياسي والحزب الحاكم عن تقديم أي حلول سياسية مقنعة إلى المتظاهرين.


شجعتني صورة "آلاء صلاح" التي جاءت على غلاف الكتاب في قراءته من الإنترنيت والانتهاء منه في يومين. لقد حاول البروفيسور أحمد إبراهيم أبو شوك في مؤلفه أن يقدّم مقاربةً توثيقية ـ تحليلية لثورة "ديسمبر 2018"، التي أسقطت الرئيس، عمر حسن البشير، وبعض رموز نظام الإنقاذ، الذي حكم السودان نحو ثلاثة عقود منذ عام 1989، وذلك في 11 نيسان/ أبريل 2019، عندما أعلنت اللجنة الأمنية العليا انقلابها على رأس النظام وانحيازها إلى الثورة.

يقول الدكتور الباحث عزمي بشارة، في تقديم الكتاب: إن الثورة السودانية افتتحت الموجة الثانية من الثورات العربية؛ إذ تبعتها ثورة الجزائر، والحراك الثوري في لبنان، ورافقها، مستمرًا مِن قبلها إلى ما بعدها، الحراك الثوري ضد نظام المحاصصة الطائفية والفساد في العراق، وإنّ للسودان تجربته الخاصة والفريدة عربيًّا لناحية مروره بتجارب ديمقراطية برلمانية حقيقية متكررة لم تحقق تداولًا سلميًّا للسلطة، بل تبعتها انقلابات عسكرية. ويمكن اعتبار النظام الحزبي الراسخ في السودان، وعهد أجيال من السودانيين بالحرية السياسية شواهد على هذه التجارب. لكن ـ مع ذلك ـ لا بأس بأن يستفيد السودانيون من تجارب الثورات العربية، فهي مفيدة، وتحتوي راهنيتها على عناصر لم تكن قائمة في التجارب السودانية.

يعرض الكتاب وقائع المفاوضات التي جرت بين القيادة الثورية (قوى إعلان الحرية والتغيير)، وقيادة اللجنة الأمنية العليا، الممثلة آنذاك في المجلس العسكري، وكيف أنّ تلك المفاوضات أفضت إلى إنجاز الوثيقة الدستورية التي أضحت تشكِّل المرجعية القانونية لهياكل الحكومة الانتقالية وأولوياتها السياسية، واختصاصاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وينظر الكتاب، من جهة أخرى، إلى التحديات التي تواجه الفترة الانتقالية (2019 ـ 2022)، مقارنةً بتجارب الانتقال الديمقراطي السابقة لها في السودان، وكذلك في ضوء الواقع المعقد سياسيًّا وعسكريًّا، والمهدد بمحاولات بعض القُوى الإقليمية ـ المتصارعة، والطامعة في فرض نفوذها السياسي عبر بوابة الأزمة الاقتصادية التي يعانيها أهل السودان.

في الفصل الأول يُقدّم المؤلف تحت عنوان: "الإنقاذ والثورة والفاعلون الثوريون" مقاربةً تحليلية عن حكومة الإنقاذ (1989 ـ 2019)، ومرتكزاتها الفكرية والسياسية، والأسباب غير المباشرة التي أدّت إلى اندلاع الثورة الشعبية السودانية في كانون الأول/ ديسمبر 2018، ودور الفاعل الثوري وآليات نضاله السلمية ضد نظام الإنقاذ الحاكم آنذاك. ويفند المؤلف الدوافع التي شكَّلت البيئة الحاضنة والمساعدة لاندلاع الثورة السودانية، وأبانت عجز النظام عن مواصلة إحكام قبضته على الشارع العام بالطريقة التي اعتادها، وأبرزت تصاعد السخط الجماهيري العام ضدّ النظام بصورة غير مسبوقة، وأكدت أن الحرمان النسبي بشقّيه المادي والمعنوي شكّل القاسم المشترك بين القوى الثورية.

في الفصل الثاني يعرض: "يوميات الثورة: لحظة الاندلاع وتداعياتها" أحداث الثورة السودانية منذ اندلاع شرارتها الأولى في مدينة الدمازين في ولاية النيل الأزرق، من 13 كانون الأول/ ديسمبر 2018 حتى نهاية الشهر نفسه، الذي شكّل خطًّا فاصلًا بين الاحتجاجات العفوية للثورة، وإعلان قوى الحرية والتغيير في 1 كانون الثاني/ يناير 2019. يقول المؤلف: "أثبتت الثورة أن الظلم، أو الفساد، أو الاستبداد، لا ينتج وحده ثورةً، لكن الوعي بهذه المظالم السياسية، والإحساس بالحرمان النسبي والسخط العام ضد النظام الحاكم هي عوامل تصنع الثورات، وتوجّه مسارها تجاه تطلّعات الثائرين. ويتنامى مثل هذا الوعي عندما يعجز أهل السلطة الحاكمة عن تقديم أي طروحات موضوعية لحل المشكلات الآنية المتعلقة بضرورات الحياة الإنسانية الكريمة، أو عندما يستخف صُنَّاع القرار السياسي بعقول الجماهير المطالبة بحقوقها، ويقدمون إليها وعودًا فطرية لا تحمل بين طياتها سوى المراوغة السياسية واستدرار العواطف الدينية، أو حينما يزعم دعاة السلطة، ونصحاء السلطان، في العلن، أن الثائرين "خونة" و"مرتزقة"، و"عملاء موساد إسرائيلي"، وشرذمة من المندسين لتخريب مقدّرات البلاد ومؤسسات العباد، أو عندما يستغفل الحاكمون عقول المحكومين، ويحثّونهم على أكل صفق الشجر، في وقت يبيحون لأنفسهم أكل المال العام".

إثر ذلك، أوضح المؤلف في الفصل الثالث: "الثورة وخطاب السلطة (1 كانون الثاني/ يناير - 6 نيسان/ أبريل 2019)" أن تظاهرات ثورة ديسمبر 2018 اتسمت بالسلمية والمشاركة الشبابية الواسعة من الجنسين، وتصميم الثوار على إسقاط النظام (تسقط بس)، وتأسيس نظام ديمقراطي مستدام يلبّي استحقاقات الحرية والسلام والعدالة.

يقدّم الفصل الرابع: "الاعتصام أمام القيادة العامة" مقاربة تحليلية عن تحول موكب "السودان الوطن الواحد"، في 6 نيسان/ أبريل 2019، إلى اعتصام ثوري أمام مقر القيادة العامَّة لقوات الشعب المسلَّحة، بهدف إزاحة الرئيس البشير من سدة الحكم، من دون شرطٍ أو قيد. ويجيب هذا الفصل عن جملة من الأسئلة المحورية: كيف تحوّل الموكب إلى اعتصام؟ وما الأجندة السياسية الجديدة التي طرحها المعتصمون؟ وما التحديات التي واجهت المعتصمين في الميدان؟ وما القيم السياسية والاجتماعية التي أرساها أدب الاعتصام على أرض الواقع؟ وما مظاهر الحياة اليومية والأنشطة المصاحبة لها داخل أرض الاعتصام؟ وما المسوغات التي دفعت المجلس العسكري الحاكم آنذاك إلى فض الاعتصام بالقوة، قبل يومين من عيد الفطر، أي في 3 حزيران/ يونيو 2019؟ يؤكد المؤلف: "أوضحنا أن المبادرات التي طُرحت كانت بينها قواسم مشتركة ونقاط اختلاف ذات حمولات أيديولوجية، لذلك لم تتمكن القوى السياسية والمهنية المعارضة من توحيدها في مبادرة واحدة ترضي طموحات ألوان الطيف السياسي كلها"

يتناول الفصل الخامس: "المبادرات والمفاوضات: أين يكمن الحل؟" المبادرات التي قدَّمتها شخصيات وكيانات سياسية ومهنية قبل إسقاط نظام حكومة الإنقاذ، ثم يحلل خلفياتها السياسية والمهنية والجوانب المشتركة التي تجمع بينها من حيث المحتوى والغايات السياسية، والتحديات التي واجهت إمكان صوغها في مبادرة واحدة، والصعوبات التي اكتنفت عملية تطبيقها على أرض الواقع. ويتناول هذا الفصل، أيضًا، مسيرة المفاوضات بعد إسقاط النظام والتعقيدات التي مرّت بها إلى تاريخ فض الاعتصام. يقول المؤلف: "أوضحنا أن المبادرات التي طُرحت كانت بينها قواسم مشتركة ونقاط اختلاف ذات حمولات أيديولوجية، لذلك لم تتمكن القوى السياسية والمهنية المعارضة من توحيدها في مبادرة واحدة ترضي طموحات ألوان الطيف السياسي كلها. لكن الكفَّة بقيت راجحة لمصلحة قوى إعلان الحرية والتغيير التي اشترطت تنحّي رئيس الجمهورية، ولذلك رفضت الحكومة خيار التنحي -تسقط بس- لأنه كان خيارًا صفريًا بالنسبة إليها، وطرحت من جانبها خيارًا صفريًا آخر، يتمثل في الاحتكام إلى صندوق انتخابات عام 2020 كذريعة لاستبقاء الرئيس البشير في سدة الحكم "تقعد بس".

يناقش الفصل السادس: "المفاوضات بعد فضّ الاعتصام: التحدي والاستجابة"، مسيرة المفاوضات بعد أحداث فض الاعتصام، ودور ممثل الاتحاد الأفريقي في تقريب وجهات النظر بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، وإقناع هذه الأطراف بالعودة إلى طاولة المفاوضات التي أفضت إلى توقيع الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، ثم تأسيس هياكل السلطة الانتقالية واختصاصاتها.

من ناحية أخرى، يتطرق الفصل السابع: "الحكومة الانتقالية وتحديات الانتقال الديمقراطي" إلى أجهزة الحكومة الانتقالية واختصاصاتها وسلطاتها، وفقًا لنصوص الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 وكيف تمَّت إجراءات تشكيلها بحسب المصفوفة الزمنية المرفقة مع الوثيقة الدستورية التي وافق الطرفان عليها، وطبيعة التحديات التي تواجهها. ويخلص المؤلف إلى أن التحديات التي ذُكرت سابقًا تشكّل، من دون جدال، جملة من العوائق أمام تحقيق الانتقال الديمقراطي السلس، وإلى أنّ تجاوز مثل هذه التحديات يحتاج إلى رؤية استراتيجية وطنية، تُبادر إليها الحكومة الانتقالية، وتتفق عليها القوى الاجتماعية والكيانات السياسية الفاعلة في المجتمع السوداني؛ "لأن إشراك القوى المجتمعية الفاعلة في وضع الحلول العملية المناسبة، يُشعِر الجميع بأنهم شركاء في المسؤولية التضامنية التي تُحصِّن الفترة الانتقالية من خطر الانشقاقات والانقسامات السياسية، وتدفعها بقوة صوب القضايا المحورية التي تهيّئ المناخ السياسي والاجتماعي العام لإحداث انتقال ديمقراطي مستدام في السودان".

أخيرًا، تركز خاتمة الكتاب على الفترة الانتقالية الحالية (2019 ـ 2022)، ومقارنتها بالفترتين السابقتين لها (1964 ـ 1965 و1985 ـ 1986)، وأوجه الشبه والاختلاف بينها، وكيفية الإفادة من الأخطاء السابقة وتوظيفها في تجاوز تحديات الفترة الانتقالية الماثلة، فضلًا عن طبيعة التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية، والكيفية التي يمكن من خلالها تجاوزها لتحقيق وضع أفضل في سبيل التحول الديمقراطي المستدام، على أنّ الخاتمة لا تتطرق إلى أداء الحكومة الانتقالية بعد تشكيل مؤسساتها الدستورية (مجلس السيادة، ومجلس الوزراء) أي إنّ الكتاب ينتهي زمنيًا مع نهاية عام 2019.

يمكن قراءة الكتاب من الرابط:
الثورة السودانية (2018-2019): مقاربة توثيقية - تحليلية لدوافعها ومراحلها وتحدياتها
  • Like
التفاعلات: آدم بشير تاور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى