رسائل الأدباء رسالة من فاروق وادي الى محمود شقير

الصّديق العزيز محمود شقير

تحياتي،

منذ أن انتهيت من قراءة "حليب الضّحى"، وأنا أتهيّأ للكتابة إليك. غير أنني بقيت أخشى من أن أبدأ رسالتي بكلمة "انتهيت"، كما أنا فاعل الآن. وكنتُ قبل أيام أتحدّث مع ابراهيم نصر الله حول "حليب الضّحى"، فقلت له إنه يبدو لي كتابًا بلا نهاية، مثلما أن مقطوعاته الصّغيرة لم تكن في غالبيتها تحفل بالنّهايات. فما أن قرأت السّطر الأخير في الصّفحة الأخيرة للكتاب، حتى وجدت نفسي أعود إلى صفحته الأولى، وأشرع بالقراءة من جديد. إنّها قراءة دائريّة إن إردت، لن يبلغ فيها القارىء خواتيم النّص، أو هكذا هيىء لي.
وربما كان الكتاب ينطوي أيضًا على غواية توريط القارئ بكتابة نصوصٍ مشابهة أو موازية، في رأسه أو على الورق أو بالحديث مع الآخرين. فلا تلومنّ أيّ قاريء إن فعلها وروى لك أحداثًا لم تكتبها!
شيء واحد تمنيته بعد القراءة الأولى، وهو أن تتوافر لي نسخة ورقيّة، حتّى أشعر بأنني أكثر قربًا من الكتاب والشّخصيّات التي عادت إلينا بعد أن توارت طويلًا في أحداث لم تقع لـلثلاثيّة.
مرّة أخرى، نحن نقف أمام عملٍ يستعصي على التّجنيس، وقد لا أكون معك إذا ما ذهبتَ إلى تجنيسه كـ "قصص قصيرة جدًّا". فأنا أحيانًا، كنت أشعر أنني أمام أبيات من الشِّعر الرّقيق. هكذا قال لي الإيقاع الموسيقي الدّاخلي في عديدٍ من المقاطع، ولو كنتُ أتقن تقطيع بحور الشِّعر لفعلت، ولحدّثتك بعد ذلك عن ديوانك الشّعريّ الجديدّ، أو عن قصائد عذبة قرأتها في الكتاب!
وفي لحظات أخرى، كنت أشعر بأنني أقرأ جملةَ طويلةً في رواية قصيرة، أو جملة نسيت نفسها ولم تذهب إلى إحدى صفحات واحدة من وقائع حياة العائلة، فالمقطع (ولا أقول القصص القصيرة جدًا)، امتلك من تلقاء نفسه حريّته واستقلاله ومزاجه الخاص، وقد بلغت به شهوة الحريّة أن أصرّ على أن يطرح نفسه من دون أن يحفل بالبحث عن شكلٍ يشبه الشّكل، أو عن نهاية تشبه النّهايات، فظلّ نّصًّا مختالًا بتفرّده وبانفتاحه على المدى وكلّ احتمال.
متعة النّص، هي الشيء الذي أثق بأنّه تحقّق في هذه المغامرة الكتابيّة النّاعمة، فائقة الجمال.
هل هو نضج الكاتب وبلوغ الأسرار الخفيّة للكتابة بعد الثّمانين؟! وماذا أبقيت لمن لم يُغلقوا بعد عقدهم الثّامن من مساحات المغامرة والتّجريب وفضّ مغاليق أسرار الكتابة، واكتشاف أصقاعٍ جديدة لم يصلها كاتب!؟
وماذا ستكتب لنا بعد أن تنضج أكثر ويصلبّ عودك الأدبيّ عندما تبلغ التّسعين، كما نرجو ونأمل ونتمنى.
لك أمنياتنا الغالية، مع بالغ التّقدير والمحبّة والاحترام..
وإلى لقاء نرجو أن لا يطول الوقت ليتحقّق.

فاروق وادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى