علي خليفة - مسرحية قرافة العربات لفرناندو أرابال

قلما نرى في المسرح قبل العصر الحديث جرأة على المقدس فيه، بل نرى في تلك العصور القديمة الكتاب المسرحيين يغذون في كتاباتهم تقديس المقدس، كما نرى مثالا على ذلك في مسرحية دون جوان لموليير، فقد جعل موليير نهاية دون جوان مأساوية في هذه المسرحية لإلحاده ولجرأته على الدين، أما في العصر الحديث فإننا نرى بعض الكتاب يتجرءون على المقدس، ولا ينالون عقابهم في تلك المسرحيات على ذلك، كروزمر في مسرحية بيت آلِ روزمر لإبسن الذي يتحول من كونه قسا لداعية للإلحاد، ويواجه مجتمعه بإلحاده وبدعوته للإلحاد، فيرى أنه لا يستطيع تلك المواجهة، فينكفئ على نفسه في دعوته هذه، وأيضا نرى رجال الدين ينال منهم في بعض مسرحيات جون سينج، كمسرحية زفاف السمكري، ومسرحية بئر القديسين، بل الأغرب من ذلك أن نرى بعض كتاب المسرح الحديث يمجدون الشيطان - وهذا يذكرنا بشعر لبشار بن برد مجد فيه الشيطان وأعلى قدره على آدم عليه السلام، ورد عليه صفوان الأنصاري المعتزلي بشعر أفحمه فيه، وأكد فضل آدم ودناءة الشيطان - كما نرى في مسرحية تلميذ الشيطان لبرنارد شو.
أما كتاب مسرح العبث، فكانوا أكثر جرأة على المقدس من غيرهم من كتاب المسرح في العصر الحديث؛ لأنهم لا يؤمنون بشيء، ويرون العالم نوعا من العبث فرض عليهم، ورأوا أن يتعاملوا معه بأسلوبه الذي يفتقد المنطق في رأيهم.
وفرناندو أرابال من أكثر كتاب مسرح العبث جرأة على المقدس، ونراه في مسرحية الناسك يتصور العالم يقوم على الشر، ويكون من الغريب أن يحاول الإنسان أن يكون خيرا فيه، ويجعل الشخصين اللذين يظهران في هذه المسرحية يقرآن آيات من الكتاب المقدس بشكل غير لا ئق.
أما عن مسرحية قرافة العربات فالظاهر لي فيها أن أرابال جعل الشخصية الرئيسة فيها وهي إيمانو صورة من المسيح - حسب اعتقاد النصارى فيه - فإيمانو قد ولد في حظيرة بين بعض الحيوانات، وكان يحاول التسرية عن الناس البسطاء بعزفه على الترومبيت، وصدر حكم بالقبض عليه لحب الناس له ولعزفه، وخانه صديقه توبي عازف الكلارنيت بأن أبلغ على مكانه حتى يحصل على المكافأة التي تقدم لمن يدل عليه، وصديقه الآخر فودير الأخرس تنصل من معرفته له؛ حتى لا يقبض عليه مثله، كما تنكر بعض تلاميذ المسيح له بعد القبض عليه - حسب اعتقاد النصارى - وتم في هذه المسرحية جلد إيمانو حتى سال دمه، وصلب بعد ذلك على دراجة.
وهذا التشابه الذي نراه بين شخصية إيمانو والمسيح ليس الغرض منه التأسي والوعظ والتبجيل، بل إن المؤلف يقصد عكس ذلك تماما، فهو يظهر إيمانو شخصا مدعيا أنه يحاول عمل الخير، ويبدو حافظا لعبارة تدل على أنه يسعى لعمل الخير حتى يشعر براحة النفس والضمير وأنه يسير في ركاب المثل الأعلى، ونراه أحيانا يحاول أن ينطق بهذه العبارة فينسى بعض أجزاء منها.
والتقلب سمة واضحة في الشخصيات في مسرح العبث؛ ولهذا نرى إيمانو متقلبا في هذه المسرحية، والخير عنده قد يعني أحيانا أن يقوم بقتل بعض الناس حتى يريحهم من متاعب الحياة، كما أنه يرى فعله للجريمة سلوكا طيبا؛ لأنه يتعامل مع الحياة بما يتناسب معها من وجهة نظره ووجهة نظر كتاب العبث.
وبالنظر لشخصية إيمانو بكل جوانبها فإننا نراها شخصية تفتقد القيم، وتصنع لنفسها قيما تبيح الشر والجريمة، وما أبعد هذه الشخصية عن المسيح عليه السلام؛ولهذا فإن محاولة الكاتب رسم صورة لإيمانو تتفق مع المسيح في بعض الأمور كانت نوعا من النيل من المقدس كما رأينا ذلك.
ولا تقتصر هذه المسرحية على النيل من المقدس ضمن أفكار كتاب مسرح العبث، ولكنها أيضا تظهر مظاهر القسوة على أنها الواقع والطبيعي، فنرى ميلوس النادل يضرب زوجته ديلا بوحشية حين لا تنفذ أي أمر شاذ من أوامره، كأن ترفض أو تتلكأ في معاشرة أي شخص من ساكني العربات في قرافة العربات القديمة، ونرى أيضا إيمانو يضرب بوحشية في هذه المسرحية ويصلب في ختامها.
ومشاهد الجنس السافرة هي أيضا من عناصر مسرح العبث عند بعض كتاب مسرح العبث، مثل آرابال، ونرى مشاهد منها في هذه المسرحية.
وأرى أن شكل هذه المسرحية في تصويره لأشخاص يعيشون داخل عربات قديمة في مكان تجمع فيه هذه العربات - فيه إثارة، ولكن الأفكار التي عرضها المؤلف في هذه المسرحية تصدم المؤمنين الذين يحرصون على الفضيلة.

علي خليفة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى