عاطف الدرابسة - حولَ قصيدةِ النَّثرِ ..

على الرَّغمِ من تقديريَ العظيمِ لكلِّ الدِّراساتِ التي تتعلَّقُ بقصيدةِ النَّثر، ومحاولةِ البحثِ عن تعريفٍ لها، أو حدٍّ لها، غيرَ أنَّني أرى أنَّ البحثَ في هذا الأمرِ هو ضَرْبٌ من العبثِ أو التِّيهِ، خصوصاً وأنَّ العقلَ النَّقديَّ الآن قد تجاوزَ قضيَّةَ الأجناسِ الأدبيَّةِ أو الأنواعِ الأدبيَّةِ، باعتبارِها من أعقدِ المشكلاتِ الجماليَّةِ، منذ أفلاطون وأرسطو إلى يومنا هذا، ولعلَّ السُّؤالَ الأكثر جدلاً هو ذلك السُّؤالُ الذي يتعلَّقُ بقصيدةِ النَّثرِ، ويمكن صوغُه على النَّحو التَّالي: هل نتعاملُ مع قصيدةِ النَّثرِ بحسبها جنساً أدبيَّاً أو عملاً أدبيَّاً أو نصَّاً أدبيَّاً ؟ وهذا السُّؤالُ يتناسلُ منه سؤالٌ آخر: هل ثمَّةَ فرقٌ بين - لفظةِ - ولا أقولُ (مفهومَ) جنسٍ أو نصٍّ أو عملٍ .

كلَّما تكاثرت الأسئلةُ ازدادت المشكلةُ تعقيداً، فكلُّ لفظةٍ هي إشارةٌ دالَّةٌ، ولكلِّ دالٍّ مدلولٌ، غير أنَّ هذا المدلولَ يرتبطُ بمرجعينِ: الأوَّلُ ثابتٌ، والآخرُ متغيِّرٌ ؛ فالثَّابتُ هو السِّياقُ اللغويُّ المرتبطُ بوجودٍ ذهنيٍّ، والمُتغيِّرُ هو المرجعُ المعرفيُّ، أو أُسمِّيه المرجعَ الابيستمولوجي .

إنَّ قصيدةَ النَّثرِ هي مفهومٌ - إن جازَ لي أن أُسمِّيه مفهوماً - هو مفهومٌ جدليٌّ، ينطوي على غيرِ ثنائيَّةٍ ؛ (الشِّعر - النَّثر، النِّظام - الفوضى، المُقيَّد - المُطلَق)، وهي ثنائياتٌ لا يمكنُ فصلُها عن: (كلاسيكي - رومانسي، واقعي - رمزي، عقلي - مُتخيَّل) .

وهنا يَمكننا على نحوٍ ما أن نضعَ قصيدةَ النَّثرِ في مواجهةِ ما هو منظومٍ، كما أنَّنا في الوقتِ نفسِه نفهمُ الرُّومانسيَّةَ باعتبارها ثورةٌ على القواعدِ والأصولِ والنِّظامِ، وثورةٌ على العقلِ وتحريراً له من هيمنةِ القواعدِ والأُصولِ باعتبارِها قيوداً، من هنا يُمكننا أن نُقابلَ تاريخيَّاً بين الرُّومانسيَّةِ بوصفها ثورةً على الكلاسيكيَّةِ، وقصيدةِ النَّثرِ بوصفِها ثورةً على القصيدةِ الموزونةِ سواءٌ كانت على مستوى البناءِ العروضي أو على مستوى التَّفعيلةِ .

إنَّ أيَّ مفهومٍ جدليٍّ له شروطُه التَّاريخيَّةُ، وله شروطُه المعرفيَّةُ، وقصيدةُ النَّثرِ لها جذورٌ مرتبطةٌ بالجذلِ الكلاسيكي والرُّومانسي، غير أنَّ هذه الجذورَ قد تمدَّدتْ نحو جدليَّةِ الواقعي والرَّمزي، ومع بداياتِ الرَّمزيَّةِ دخلت اللغةُ الشِّعريَّةُ عموماً في طورٍ تجريبيٍّ على مستوى النَّماذجِ، والأنساقِ الأُسلوبيَّةِ، وسلوكِ اللغةِ، ولعلُّه لا يخفى على أحدٍ أنَّ الرَّمزيَّةَ قد تزامنتْ مع ظهورِ الفرويديَّةِ، وهنالك بدأ الخديثُ عن تغريبِ اللُّغةِ، وعن مصطلحاتٍ مثل الإيحاءِ، والتَّكثيفِ، والصِّراعِ، والتَّخييلِ، والحلمِ .

إنَّ حضورَ الرَّمزيَّةِ بشكلٍ طاغٍ، وحضورَ علمِ النَّفسِ، وعلمِ النَّفسِ الأدبي، وعلمِ النَّفسِ اللغوي، وما صاحبَ ذلك من حضورٍ حادٍّ للسِّيرياليَّةِ، وحين نتحدَّثُ عن السِّيرياليَّةِ فإنَّنا نتحدَّثُ عنها بوصفها مرجعاً أصيلاً للتَّفكيكِ، باعتبارِها رؤية لتحريرِ النَّفسِ، والعقلِ، والاستفادة من تجلِّياتهما الخفيَّةِ .

إنَّ مفهومَ التَّحريرِ قد يكونُ على نحوٍ ما مُعادلاً دِلاليَّاً لمفهومِ التَّفكيكِ، ومُعادِلاً دِلاليَّاً لمفهومِ الهدمِ، وإعادةِ البناءِ، ومع السِّيرياليَّةِ بدأت الثَّورةُ على الشَّكلِ أو لنقُل تحريرَ الشَّكلِ، فحاول الرَّسامون هدمَ الصُّورةِ النَّمطية للفنِّ التَّشكيلي، كما حاولَ المسرحيُّون هدمَ الشَّكلِ التقليدي للمسرحِ، وكذلك كُتَّابُ الرِّوايةِ والقصَّةِ، ولعلَّ أفكارَ فرويد ويونغ المُتعلِّقة بمفاهيمَ الوعي، واللاوعي، والوعي الجمعي أسهمَ في ظهورِ مصطلحاتِ العبثِ واللامعقولِ، والعدمِ، وهي بدورِها أسهمتْ في ظهورِ مصطلحاتٍ من مثلِ: ما وراء اللُّغةِ، أو ما فوق الواقعِ، أو العمى والبصيرة، أو الخفاء والتجلِّي، أو الثَّورة وما فوق الثَّورة .

وهكذا بدأت تظهرُ علاقاتٌ أشدَّ تقابليَّةٍ، وأشدَّ تضادٍّ، ممَّا أدَّى إلى ظهورِ شبكةٍ من المفاهيمِ من الرَّوابطِ الدِّلاليَّةِ، تتَّصفُ بالتَّغريبِ والدِّلالاتِ البعيدةِ، والإيحاءاتِ العميقةِ، والتَّشكيلاتِ العنكبوتيَّةِ إذا جازَ لي التَّعبير التي جعلت العلاقةَ بين الدَّالِّ والمدلولِ أكثرَ تعقيداً، وأكثرَ تأويلاً، فاتَّسعت الفجوةُ بين الدَّالِّ والمدلولِ، وضاقت المسافةُ بين الشِّعرِ والنَّثرِ، فكانت قصيدةُ النَّثرِ أشبهَ بحالةِ انفجارٍ أصابَ بِنيةَ اللُّغةِ، هذا الانفجارُ أصابَ الأصواتَ، والمقاطعَ، والألفاظَ، والتراكيبَ النَّحويَّةَ، والأساليبَ البلاغيَّةَ.

وهنا لا بدَّ أن أخلُصَ إلى أنَّ قصيدةَ النَّثرِ ينبغي أن تُدرَسَ بعيداً عن الشَّكلِ، فالشَّكلُ متغيِّرٌ ومتحوِّلٌ، شأنُه شأنُ فيروس الكورونا كما يظهرُ لنا الآن، فقصيدةُ النَّثرِ باختصارٍ ينبغي أن تُدرَسَ وفقَ مفهومِ البِنيَّةِ الأُسلوبيَّةِ، فهي بِنيَّةٌ ذات مضمونٍ شعريٍّ بشكلٍ لا شعريٍّ .



د. عاطف الدرابسة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى