سعد محمود شبيب - نورة الدقاقة وشموس والجني عبدوس!

في مطلع عام 1995 ، اجتاحت الصحف الخليجية بشكل خاص والعربية عموما قصة عجيبة مدهشة لمغنية كويتيه أسمها (نوره الدقاقة) ، وهي (مطربة) متخصصة باقامة الأعراس النسائية للعوائل التي ترفض مبدأ الاختلاط في الحفلات .
وخلاصة القصة أنّ نورة وعند يوم استراحتها ، اتصلت بها احدى السيدات ودعتها لاقامة حفل عرس لابنتها ، وحين رفضت الأمر في البداية نظرا لاجهادها وكونها مصابة بصداع ودوار شديدين ، أغرتها السيدة بمبلغ مالي كبير ، فتقبلت الأمر على مضض واستشارت معاونتها المدعوة شموس فأبدت القبول ، ثم انطلقن مع الفرقة النسائية نحو موضع الحفل ، وهو دار كبير يقع ضمن منظقة راقية وسط العاصمة الكويت .
وتقول القصة أن نورة ومساعدتها شعرن بأجواء عرس غريبة مفعمة بعدم الراحة ، وأنّ النسوة المدعوات كنّ بوجوه شاحبة تشعّ حرارة وهن يقبّلن نورة ورفيقاتها ، فضلا عن كون القاعة مكتظة بمدعوين لا حصر لهم وهم يتزايدون تباعا ، فغطى ضجيجهم صوت الفرقة وكأنهم غير مكترثين بوجودها ، وقد كانوا خليطا من الجنسين حتى استغربت الطقاقة من وجود رجال في محفل يفترض أن يكون نسويا خالصا .
ثم تتصاعد الأحداث وتبلغ ذروتها حين تشعر مطربتنا بالنعاس وتصعد نحو الطابق الثاني كي تستريح ، فتجده شبه خربة مهجورة ، لكنها مع ذلك تلج احدى الغرف وتستلقي على فراش قديم ، غير أنها وما أن تغفو حتى تصحو على كابوس مرعب فتفتح الباب لتهرب وتحاول الهبوط الى الطابق الأرضي ، لكنها تعجز عن الحراك حين يمسك بها رجل قويّ من كتفيها ويقول لها وهو يقف وراءها : ( غنّ يا نوره ، غنّ لي ، فقد ذبت بصوتك حبا !!) وحين تسأله عن شخصه الذي تعجز عن رؤيته وهو يقيدها من الخلف ، يجيبها بأنه عبدوس ، ملك الجان من كفرة ومجوس ، وأنه وان عاش ألفي سنة ، الاّ أنه لم ياسره صوت مثل صوتها وصوت رفيقتها شمس الشموس (!!) .
فتدرك لحظتها أنّ الحفل بأسره هو حفل للجن وأنها وقعت في فخ محكم ، لتضطر للغناء له وحده ، لكنها وما أن تنتهي من أغنية الاّ وطلب منها الأخرى، وما ان تنتهي من الأخرى الاّ وأراد سواها ، فأدّت جميع اغاني عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد ألأطرش وجاسم الأسمر وساجدة عبيد ورشيد القندرجي ، لكنه مع كل ذلك لم يقتنع ويريد المزيد ، عندها يئست من النجاة تماما وأدركت أنها سوف تموت تعبا وخوفا ان لم تتدخل الرعاية الالهية لانقاذها ، حتى تعالى صوت أذان الفجر الذي حوّل عبدوس والجان في الحفل الى صخور صمّاء ، فهربت وفرقتها من هذا الدار (المسكون) تاركات كل مقتنياتهن، دون أن يتلفتن للخلف من شدة الهلع والرعب !!
ومما يبدو لنا ، فأنّ السيد عبدوس لم يكن ملكا للجن ، بل للتفاهة وقلة الذوق والفجاجة ، فهو ورغم كونه قد جاوز الألفين عمرا ، الاّ أنه ترك مطربات عملاقات مثل رابعة العدوية وألمز ومنيرة المهدية وأم كلثوم وفيروز ، وذاب عشقا وهياما بمغنية أعراس من الدرجة العاشرة ، تحمل الدفّ وتتلفّت يمينا وشمالا وهي تهدي الجميع نظرات ثاقبة حاقدة ، وكأنها عشماوي وهويتصفح وجوه المحكومين بالاعدام قبل تنفيذ الحكم !!
أما الجزء الأكثر طرافة من القصة ، فهو قيام السيدة الدقاقة بتكذيب جميع ما ورد في هذه الحادثة جملة وتفصيلا ، واقامة دعوى قضائية على محرر الخبر الذي ادعى قيامه بتحقيق صحفي وهمي معها ، كما واتّصلت بزوجة أمير الكويت الشيخ جابر الصباح ، ورفعت المظلومية عن طريقها للأمير لما سبّبه الخبر من ازعاج ومتاعب لا حصر لها ، فأمر بطرد الصحفي ( العربي الجنسية) من أرض الكويت ومنع دخوله لها بشكل مطلق ، وذلك بعد مثوله أمام المحكمة و فرض غرامات مالية قاسية عليه وعلى الصحيفة التي نشرت التحقيق !
ولعل هذه الحادثة ، لا تعدّ شيئا يذكر قياسا لما عرف عام 1989 بقصة رشدي دولار ، تلك التي شغلت الرأي العام بمصر وصارت اشهر من نكسة حزيران ، وصاحبها أعظم صيتا من حسني مبارك والأمير سلمان ، حين قام أحد المواطنين ويدعى طارق كمال رشدي ، بنشر اعلان في صحيفة الاهرام المصرية يؤكد فيه عثوره على مبلغ من المال مقداره (مليون دولار) ملقى عند أحد الطرقات ، وأنه ينتظر من صاحب المال الاتصال به هاتفيا كي يصف له الحقيبة والمال ، ليسلمه له دون أن ينتظر أية جائزة سوى الأجر والثواب !!
وقد كاد صاحبنا الأمين أن يموت ضحكا وهاتفه لم يكفّ عن الرنين ، اذ اكتشف أنّ جميع رجال الأعمال في مصر قد فقدوا هذا المبلغ ، ومعظم أصحاب معارض السيارات والموظفين والسمكرية وصباغي الأحذية وبياعي الخضار ، وكذلك السيدة رباح حين كانت بصحبة صديقتها نجاح، والحاجّة زينات التي فقدت مليون دولار وربع كيلو ذهب في زنقة الستات !!
كما وكان الأخ رشدي في أقصى مراتب السعادة وهو يجد سمعته الطيبة قد بلغت عنان السماء ، وكيف أصبح محطّ احترام الكبير والصغير ، تنسج من حوله قصص البطولة وتصاغ عنه أحاديث الكرامات ، ويتعامل معه الجميع كعملة انسانية طاهرة نادرة يصعب أن تجد لها مثيلا في عالمنا هذا .
غير أنّ أمرا عظيما لم يخطر له على بال قد حصل ، جعله يصحو من أحلامه الزاهية العذبة ومن سعادته بالشهرة الى كابوس مرعب حقيقي ، حين تم استدعاؤه الى مركز شرطة الخليفة ، ومثوله أمام وكيل النيابة الذي طالبه بتسليم هذا المبلغ الطائل للدولة ، لعدم وجود أيّ معنى كي يحتفظ به ، وأنّ صاحب المال الحقيقي لو ظهر ، فيمكن له مراجعة الدوائر المختصة بتسليم المفقودات ليستعيد حقه بعد أن يثبت شرعية مصدره ..
وعبثا حاول صاحبنا التملص من (التسليم) مصرٌا على اعادة المبلغ لصاحبه دون تدخّل من أحد ، الا ان جميع محاولاته ذهبت أدراج الرياح، حين أمر وكيل النيابة بحجزه أربعة أيام على ذمة التحقيق ، موجها له تهمة خيانة الأمانة، والمتاجرة بالمبلغ الكبير في تهريب المخدرات !!
وعند مثوله أمام المحكمة ، انهارت أعصابه تماما وهو يجد نفسه محشورا بقفص مع عتاة المجرمين ، أمام قضاة شداد ووسط أجواء رهيبة ، فلم يعد يحتمل ما لقي من عناء وسجن وضرب ، وسماع مزيد من تهم وتجريح وكيل النيابة ، فقاطعه صارخا غير آبه بتنبيه القاضي :
(( يا بيه ، هو انت عاوز تودّيني فداهيه عشان تستريح والاّ أيه ، والله العظيم لا في مبلغ ولا أي شي وأنا قلت ده ومحدّش صدقني، يا بيه انا فاشل، ومن عيلة فاشلة ، حتى بابا الله يرحمو مات وعندو الفشل الكلوي ، ده انا تافه وكنت عاوز أي شي يرفع مقامي بين الناس واشوف شغل ومكنتش عارف ان الأمر يوصل لكده ، بالذمه ده منظر واحد عندو مليون دولار وهو معندوش للشاكتة زرار ؟؟ ده أنا حتى فلوس الاعلان استلفتها من صاحبي اللي متنيل على عينو وساكت أسطه محروس المدوحس ، اسألوه وهو يعرف أنا عايش ومتدهول أزاي ، جتو خيبه وهو ساكت وعامل زي الجردل اللي ملوش لازمه )) !!
ويقال أن رئيس المحكمة ومن معه من القضاة قد علت ضحكاتهم لأول مرة وهم يعتلون المنصة ، فطيّب القاضي مسامع المتهم رشدي محاولا تهدئته وقد بدا مقتنعا بكلامه ، ثم حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهم النصب وتضليل العدالة ، قضاها وخرج منها مرفوع الرأس بعد تغيير لقبه من رشدي الأمين الى الدجال التخين !!
ومن هنا ، فقد صدقت الحكمة التي تقول : لا تصدّق نصف ما تراه ولا جُلّ ما تسمع به ، فكم من مشهورٍ لا أصل له ، وكم من دخان بلا نار وقصة بلا أصل وأحداث بلا وجود حقيقي ، وقصص بلا وزن تحتل على أرض الواقع أضعاف ما تحتلّه الأحلام في عالم اليقظة ..
كم من زعيم خالد تغنينا ببطولاته وأمجاده وصولاته على العدو ثم تبين لنا أنه عميل ، وعميل بدرجة حمار ، لأن العميل يتجسس لصالح العدو ويقبض الثمن ، وهذا الزعيم يتجسس للعدو ويدفع الثمن ، وكم من شاعر تذهلك دواوينه وهو يغرق في قطرة من بحر شعر ، وكم من كاتب كبير ، ما ان ينتهي من اصدار مجموعته المذهلة السادسة ، حتى يقيم احتفالية لصدور السابعة ، ومع ذلك فهو لا يفرق واقعا بين الألف كحرف والألف كعدد ، وكأن أحد العفاريت قد كتب له قصصه المذهلة وهو شبه أمي سارح في ملكوت الله ، يتخبط خبط شعواء في عالم الأدب !!
وكم من سياسي يرتدي زي الزاهدين ، ويبكي بكاء العارفين ، ويتلفظ بأقوال الصالحين ، وتشاع عنه كرامات فاقت كرامات العالمين ، وهو الذي لو دخل الجنة لسرق كحل حور العين ، وأباريق الغلمان المخلدين ..
ان العراق يحفل بقصص شهيرة لا أصل لها ، وأوغاد أدعياء للخير أشد قساوة وجهلا من أبي لهب وامرأته حمالة الحطب ، جعلوا الشعب على يقين من أنهم سيبيعون أسد بابل بحجة انقاذ القابع تحته ، وملوية سامراء لأنها خطرة على حياة الأطفال والنساء ، والعراق كله بحجة أنه دعا عليه ألف من الأنبياء ، فأتحفنا بمخلوقات حيرت الشيطان نفسه ، لعل أعجبهم حمامة المسجد عبد الفلاح ، الذي عُدّ زاهد عصره وراهب زمانه ، وقد كانت له لفرط كرامته أجنحة من نور ، طار بها وهو يحمل خمسة مليارات من الدولارات ، واستقر بقصره في لندن وصار يسأل خادمه كل لحظة ، ان كان لحم الخروف قد ذبح حلالا ، أو أن فيه شبهة مال مغصوب ، من الملكة فيكتوريا ، حفظها الله ورعاها !!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى