أحمد رزق حسن - سقوط مدوٍّ..

ذات يوم قالت لي جدتي: الحكماء يبتلعون غضبهم كما تحب الدجاجة أن تبتلع حبة القمح، والله إنّ تصرفكم المؤلم هذا جعل من حبة القمح سنبلة يابسة عليّ بلعها! أقسم إنّني سأخبر جدتي بكل شاردة وواردة عندما تستيقظ، آه لقد تذكّرت... لماذا أنت يا جدتي نائمة عند العصر على غير عادتك؟! الباب مغلق والنسوة تنادي عليك! يا أمّة الصلاة ماذا يحدث هنا؟!... أتبع رجلاً لم أره قطّ يحمل شال جدتي القرمزي ويسير مبتعداً عن الحشد، أرى ناراً متقدة بزاوية الدار، يرمي هذا الشخص الغريب الشال فوق جذوة النار، اللعنة! هذا الشال كم لفّني وأشعرني بالدفء حين كنت أغفو على ساعد صاحبته! أخشع وغمامة الفقد تظلني؛ لا ألوي على شيء!
خذوا هذا الصغير، تنعبُ امرأة تريد أن تقوم بالواجب، تُردف لنفسها: لا يجوز أن يبقى هذا الصغير هنا، أُفلت معصمي من يديها وأهرع للنار المتقدة، ثياب جدتي الباقية تلوكها ألسنة اللهب وقلبي يلوكه شعور مفعم بالرهبة والخوف، أيّتها البليدة لماذا تلحقين بي؟! من قال لك إنّ الصغار لا يحق لهم مشاهدة طقوس الفقد، ما رأيك أنني رأيت بل وصافحت الموت حين مسكتْ سلوى سلك الكهرباء الممزق؟! لقد ارتعشت ثم نامت بجواره، كان وجهها أزرق وجسدها ساكناً سكون الليل البهيم والسماء تغسل شعرها السابل بسخاء، بعد أيام جدد والدها شبابه بعد أن قبض تعويضاً مجزياً من مؤسسة الكهرباء، وفرح آه وألف آه عليك يا فرح! تلك الطفلة التي لم ترَ الفرح يوما، مات أبوها على يد أخوالها لأنّه ضرب أمها ضرباً مبرحا، لقد أحضر الأولاد لفرح الشبس والبيبسي والبسكويت بعد أن شاهدوها تقف مشدوهة تحاول تركيب المشهد الجنائزي أمامها، كانت تقلب شفتها السفلية في محاولة بائسة للبكاء، عمها لقّم مسدسه وانطلق قاصداً ثأره، وأمها كانت تُجرّ من شعرها بساحة الدار، وحدي من بين الأطفال الذي لم يقدم لفرح شيئا، لكنني اقتربت منها وطبعت قبلة على جبينها ثم وشوشتها بصوت خافت: "سلامة رأسك" أين سمعت تلك الجملة لا أدري! لكنني فهمت أنّها تقال بطقوس الفقد، ابن الرقوبي السمّان نبقت عيناه كحبتي مشمش وهو يحاول مسح طولي بعد أن قلت له ذات الجملة يوم مات والده غرقاً في السد، ثم لماذا أنا أشرح ما لا يحتاج لشرح؟! ما أراه اعتدت على رؤيته، الموت يسكن بكل حارة في هذه القرية وكان لا بد لهذا الموت المحترم -من باب الوفاء-أن يمر ويسلم عليّ، أنا المشاهد الصامت لنتائج غدره وخيانته المعتادة.
مناسف "المليحي" تطير من فوق رأسي والأطفال تباشر بالطعام ومن أكواعهم يسيل السمن المذاب، ما أبشع نهمهم! في الحقيقة أنا جائع كثيراً و"المليحي" وجبتي المفضلة لكن شعور الفقد يكبّلني ووداع جدتي لا يشبهه أيّ وداع.
بقيتُ رابضاً بمكاني أفكر بقارئة القصص الجميلة التي ستنام بالعراء بجوار سلوى وبجوار والد فرح، هناك خلف ذلك الطريق السريع الذي لا يحق للصغار اجتيازه، إنّ الجو قارس والسماء بها غيوم حبلى بالخير، لكن آه أيّ خير هذا! وكل ما في البيت يبكي رحيل صاحبته. تباً... لقد أخبرت المرأة اللعينة ابنها "العكروت" ليدخلني الغرفة التي يأكل بها الصغار حتى لا أرى أحد أهلي وهو يبكي، عليّ أن أهرب، "العكروت" يمسكني، أملص منه بقدرة قادر، أصعد السلم الخشبي، أنبطح وأبدأ أرمق بأسى ما يحدث في الأسفل، مناسف فارغة تخرج وأخرى ممتلئة تدخل، الحشد يكبر والصرخات تتعالى، أغمض عينيّ وأصدح كغوريلا جريحة: يا ربّ متى كانت الجدات ينمن وقت العصر؟!

أحمد رزق حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى