أخي العزيز السنهوري
تحققت أمس انك اصبحت زعيما من زعماء التعليم أو قل الزعيم الثاني لشئون التعليم بعد معالي الوزير. فهممت ان ابرق إليك مهنئا ولكني استحيت من عامل البريد الفرنسي فان هذه الظروف التي نحن فيها لاتسمح للناس بأن يتبادلوا التهنئات مهما تكن اسبابها ومصادرها واكتفيت اذن بان أرسل إليك هذا الكتاب طائرا كما يقال ان كان الظروف العامة لاتزال تسمح للرسائل ان تطير وما اظنني في حاجة إلي ان أعرب لك عن اغتباطي بهذه التضحية التي فرضت عليك فلعل معالي الوزير يذكر اني اقترحتها عليه حين كان وزيرا للمواصلات أيام حكومة الوفد.
فانا اذن سعيد لأن أمنية من أماني قد تحققت وأنا أشد سعادة لأن أمور وزارة التعليم قد صارت آخر الأمر إلي النقاء وطهارة الضمير وهل يستطيع الانسان ان يتمني خيراً من ان يكون النقراشي باشا وزيرا للمعارف والسنهوري وكيلا لها.
وأنا أعلم ان النقراشي باشا لم يحسن إليك حين كلفك هذه المهمة فقد وضعك في بيئة ما أظنك تحبها حبا شديدا وقد حملك اثقالا ما أشك في انك كنت تفضل عليها اثقال الفقه القديم والحديث ولكن التضحية واجبة علي الاكفاء دائما وهي أوجب عليهم في هذه الظروف الخطرة التي تحيط بحياة الناس وكل ما أتمناه الآن هو ان تصلح الظروف العامة وأن يظل السيف والمدفع صامتين وان تظل الكلمة للعقل والقلب فيستطيع وزير المعارف ووكيلها في مصر ان يصلحا وان يصلحا كثيرا وان يصلحا في أشد مواطن الحياة المصرية حاجة إلي الاصلاح وما اشك في ان وزير المعارف ووكيلها يتمنيان ذلك ايضا ويقدران ان اساس الاصلاح التعليمي في كل مكان وفي مصر خاصة انما هو تقويم الاداة قبل كل شيء، تقويم الديوان ثم تقويم المعاهد التي تعد المعلمين فأما برامج التعليم ومناهجه فلأن العناية بها تأتي بعد ذلك ولكني اخشي ان اكون طفيليا وان اتحدث فيما ليس لي ان اتحدث فيه فانا رجل جامعي والجامعة مستقلة عن وزارة المعارف. ووزارة المعارف مستقلة أو يجب ان تكون مستقلة عن الجامعة كما كان يقال في البرلمان منذ اسابيع فتقبل اذن تهنئتي خالصة صادقة بمنصبك الجديد وان كانت وزارة المعارف أحق منك بهذه التهنئة.
اما أنا ياسيدي فمووس في فرنسا لا أدري كيف أخرج منها في هذه الظروف العصيبة. فنحن مهددون بالكارثة بين حين وحين وما ينبغي ان نركب السفينة الآن لنتعرض للخطر بعد يوم أو يومين ولست أنا بالذي يحسن الاجتهاد لنفسه ولأسرته ان حاق بالسفينة بعض الخطر فلا بدل اذن من البقاء هنا حتي تنجلي الأزمة ولكن هل تنجلي؟ وعلي أي نحو تنجلي؟ أما ان صارت الامور إلي السلم فاني عائد ان شاء الله وتارك كلود ليتم تعليمه في باريس واما ان صارت الامور إلي الحرب لا قدر الله فهذه عقدة العقد المعقدة تعقيدا كما كان يقال في بعض القصص التمثيلية المضحكة.
ولعلك تذكر اني كنت طلبت إجازة طويلة فرفضت فيظهر ان الاقدار تريد ان أمنح هذه الاجازة وما أظن ان الحكومة المصرية تأباها علي وان كنت لا أدري ماذا أصنع بها وقد تركت كتبي وسافرت سفر من قرر العودة وان كنت لا أدري ايضا كيف نعيش في فرنسا بما يبقي لنا من مرتبنا بعد الذي ننفقته منه آخر الشهر في اداء ما لابد من ادائه.
هذه هي الخواطر التي نعيش فيها منذ اسبوع وهي كما تري قاتمة مظلمة أشد الاظلام فلعل الله ان يصنع للانسانية وان يجنبها هذه الكوارث المنكرة. وأنا آخر الامر اريد ان اعتقد ان لي في مصر اصدقاء ولن ينسوني ولن يقصروا في الاحتياط لمصلحتي ان كان مالا نرجو ان يكون وأنا أهدي إليك وإلي السيدة الجليلة والآنسة نادية تحياتنا جميعا طيبة صادقة وتهنئاتنا جميعا عميقة خالصة وارجو ان تقرأ تحيتي علي صاحب المعالي الوزير. ولعل هذا الكتاب ان يصل إليك.
طه حسين
* عن جريدة اخبار الادب
تحققت أمس انك اصبحت زعيما من زعماء التعليم أو قل الزعيم الثاني لشئون التعليم بعد معالي الوزير. فهممت ان ابرق إليك مهنئا ولكني استحيت من عامل البريد الفرنسي فان هذه الظروف التي نحن فيها لاتسمح للناس بأن يتبادلوا التهنئات مهما تكن اسبابها ومصادرها واكتفيت اذن بان أرسل إليك هذا الكتاب طائرا كما يقال ان كان الظروف العامة لاتزال تسمح للرسائل ان تطير وما اظنني في حاجة إلي ان أعرب لك عن اغتباطي بهذه التضحية التي فرضت عليك فلعل معالي الوزير يذكر اني اقترحتها عليه حين كان وزيرا للمواصلات أيام حكومة الوفد.
فانا اذن سعيد لأن أمنية من أماني قد تحققت وأنا أشد سعادة لأن أمور وزارة التعليم قد صارت آخر الأمر إلي النقاء وطهارة الضمير وهل يستطيع الانسان ان يتمني خيراً من ان يكون النقراشي باشا وزيرا للمعارف والسنهوري وكيلا لها.
وأنا أعلم ان النقراشي باشا لم يحسن إليك حين كلفك هذه المهمة فقد وضعك في بيئة ما أظنك تحبها حبا شديدا وقد حملك اثقالا ما أشك في انك كنت تفضل عليها اثقال الفقه القديم والحديث ولكن التضحية واجبة علي الاكفاء دائما وهي أوجب عليهم في هذه الظروف الخطرة التي تحيط بحياة الناس وكل ما أتمناه الآن هو ان تصلح الظروف العامة وأن يظل السيف والمدفع صامتين وان تظل الكلمة للعقل والقلب فيستطيع وزير المعارف ووكيلها في مصر ان يصلحا وان يصلحا كثيرا وان يصلحا في أشد مواطن الحياة المصرية حاجة إلي الاصلاح وما اشك في ان وزير المعارف ووكيلها يتمنيان ذلك ايضا ويقدران ان اساس الاصلاح التعليمي في كل مكان وفي مصر خاصة انما هو تقويم الاداة قبل كل شيء، تقويم الديوان ثم تقويم المعاهد التي تعد المعلمين فأما برامج التعليم ومناهجه فلأن العناية بها تأتي بعد ذلك ولكني اخشي ان اكون طفيليا وان اتحدث فيما ليس لي ان اتحدث فيه فانا رجل جامعي والجامعة مستقلة عن وزارة المعارف. ووزارة المعارف مستقلة أو يجب ان تكون مستقلة عن الجامعة كما كان يقال في البرلمان منذ اسابيع فتقبل اذن تهنئتي خالصة صادقة بمنصبك الجديد وان كانت وزارة المعارف أحق منك بهذه التهنئة.
اما أنا ياسيدي فمووس في فرنسا لا أدري كيف أخرج منها في هذه الظروف العصيبة. فنحن مهددون بالكارثة بين حين وحين وما ينبغي ان نركب السفينة الآن لنتعرض للخطر بعد يوم أو يومين ولست أنا بالذي يحسن الاجتهاد لنفسه ولأسرته ان حاق بالسفينة بعض الخطر فلا بدل اذن من البقاء هنا حتي تنجلي الأزمة ولكن هل تنجلي؟ وعلي أي نحو تنجلي؟ أما ان صارت الامور إلي السلم فاني عائد ان شاء الله وتارك كلود ليتم تعليمه في باريس واما ان صارت الامور إلي الحرب لا قدر الله فهذه عقدة العقد المعقدة تعقيدا كما كان يقال في بعض القصص التمثيلية المضحكة.
ولعلك تذكر اني كنت طلبت إجازة طويلة فرفضت فيظهر ان الاقدار تريد ان أمنح هذه الاجازة وما أظن ان الحكومة المصرية تأباها علي وان كنت لا أدري ماذا أصنع بها وقد تركت كتبي وسافرت سفر من قرر العودة وان كنت لا أدري ايضا كيف نعيش في فرنسا بما يبقي لنا من مرتبنا بعد الذي ننفقته منه آخر الشهر في اداء ما لابد من ادائه.
هذه هي الخواطر التي نعيش فيها منذ اسبوع وهي كما تري قاتمة مظلمة أشد الاظلام فلعل الله ان يصنع للانسانية وان يجنبها هذه الكوارث المنكرة. وأنا آخر الامر اريد ان اعتقد ان لي في مصر اصدقاء ولن ينسوني ولن يقصروا في الاحتياط لمصلحتي ان كان مالا نرجو ان يكون وأنا أهدي إليك وإلي السيدة الجليلة والآنسة نادية تحياتنا جميعا طيبة صادقة وتهنئاتنا جميعا عميقة خالصة وارجو ان تقرأ تحيتي علي صاحب المعالي الوزير. ولعل هذا الكتاب ان يصل إليك.
طه حسين
* عن جريدة اخبار الادب