"سيدي الأستاذ
قرأت قصتك القيمة الممتعة فأحب أن أهنئك بما ظفرت به من توفيق ونجح. ففي قصتك جمال وروعة لا شك فيهما مصدرهما دقة الملاحظة والتحليل وهذه الحياة القوية التي بثثتها في الأشخاص وفي الطبيعة من حولهم ثم صدق اللهجة وحسن الأداء. وما من شك في أن للأديب حقه الكامل في الحرية الفنية التي تتيح له نقد الحياة الاجتماعية وما فيها من أوضاع لا بد من أن تنقد بين حين وحين ومن أن يعنف نقدها أحياناً لتصلح وتستقيم.
وما من شك في أنك قد اصطنعت حقك في هذه الحرية كاملاً موفوراً فنقدت من أوضاع الحياة الاجتماعية هذه الإلفة التي تفرض على قوم لم يخلقوا ليأتلفوا. وهذه الخلطة التي يفرضها الزواج على قوم ليس بين أمزجتهم وطبائعهم ما يتيح لها هذه الحياة الهادئة الرحيمة التي ينبغي أن تكون مصدر خير للذين يحيونها أولاً وللذين يعيشون من حولهم ثانياً وللحضارة الإنسانية بعد هذا كله.
ومن قبلك حاول الكتّاب والأدباء والمصلحون ان يغيروا من هذه الأوضاع فلم يبلغوا مما حاولوا إلا قليلاً. ولكن على الأديب أن يؤدي واجبه للحق والخير والجمال لا يفل من عزمه اخفاق من سبقه ولا يحد من همه اشفاقه أن يصيبه ما أصاب الذين سبقوه كلهم.
ولا بد من شكوى الى ذي مروءة يسليك أو يسليك أو يتوجع.
ولكن مع ذلك أستأذنك في أن تعيد النظر في قصتك فقد تجد فيها هنا وهناك تعبيرات لعلها قد أسرفت في الجراءة. ولعل من حقها ان ترد الى بعض القصد من دون ان يضعف ذلك من قوتها أو يصرفها عن غايتها التي قصدت اليها. فقد توصف الجماعة بالطغيان وقد توصف بإسرافها في المحافظة وقد توصف بأنها صماء لا تسمع وعمياء لا تبصر وبأن قلوبها قد قست، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ولست أرى بذلك بأساً ولست أرى للجماعة ان تحد من حرية الأديب في نقدها مهما يكن هذا النقد قاسياً عنيفاً. ولكن الرفق في اللفظ أجدر ان يبلغ من القلوب ما لا يبلغه العنف وإيثار القصد والاعتدال حين تتحدث عن الخالق وعما بينه وبين الناس من صلة وعن الدين وما له في نفوس الناس من تأثير. أحرى أن يلائم الذوق وما ينبغي لهذه المعاني السامية من رعاية وأن يعطف عليك قلوب القراء وينفعهم بما تريد أن تؤدي اليهم من المعاني.
وأنت بعد ذلك خليق أن تقرأ القصة مرة أخرى فقد تجد فيها هنا وهناك لفظاً يحتاج الى التقويــم وخطأ لغوياً يحتاج الى الاصلاح.
ولولا اني على جناح سفر لأحصيت لك بعض هذه الهنات التي ما أرى إلا انها نتيجة لإسراع الخاطر في الاملاء وإسراع القلم في الكتابة كما ان ما لاحظت من جموح ليس فيما أعتقد إلا نتيجة لشباب الكاتب واندفاعه مع هذا الشباب وإسرافه في الثقة بالنفس والاعتداد بالرأي. وهذه كلها خصال تحمد ولكن من الخير ان ترد الى شيء من الاعتدال.
فتقبَّل تهنئتي خالصة ولا تضق بهذه الملاحظات التي لم أهدها إليك إلا لأني واثق بأن لك في الأدب وفي القصص مستقبلاً أرجو أن يكون رائعاً وأحب له من أجل ذلك ان يكون بمأمن من بعض هذه الخصال التي إذا لم تصلح في ابان اصلاحها لم يسهل التخلص منها فيما يستأنف من الأيام.
ولك أصدق التحيات وأخلص الأماني.
24 مايو 1947
-----------------------------------------
* في العام 1947 وجّه الكاتب طه حسين رسالة الى كاتب لبناني شاب يدعى هنري غالب الأشقر يعرب فيها عن رأيه في رواية مخطوطة عنوانها"وداد أو المرأة"كان أرسلها الأشقر اليه بغية الوقوف عند ملاحظاته. إلا أن الرواية والرسالة نامتا نحو 58 سنة الى أن صدرت الرواية قبل أيام في طبعة أولى، متضمنة رسالة طه حسين. وكان الأشقر رحل في 1998 عن 88 سنة. تنشر"الحياة"الرسالة التي تلقي ضوءاً على الرواية وعلى طريقة الكاتب المصري الكبير في توجيه الملاحظات النقدية.
قرأت قصتك القيمة الممتعة فأحب أن أهنئك بما ظفرت به من توفيق ونجح. ففي قصتك جمال وروعة لا شك فيهما مصدرهما دقة الملاحظة والتحليل وهذه الحياة القوية التي بثثتها في الأشخاص وفي الطبيعة من حولهم ثم صدق اللهجة وحسن الأداء. وما من شك في أن للأديب حقه الكامل في الحرية الفنية التي تتيح له نقد الحياة الاجتماعية وما فيها من أوضاع لا بد من أن تنقد بين حين وحين ومن أن يعنف نقدها أحياناً لتصلح وتستقيم.
وما من شك في أنك قد اصطنعت حقك في هذه الحرية كاملاً موفوراً فنقدت من أوضاع الحياة الاجتماعية هذه الإلفة التي تفرض على قوم لم يخلقوا ليأتلفوا. وهذه الخلطة التي يفرضها الزواج على قوم ليس بين أمزجتهم وطبائعهم ما يتيح لها هذه الحياة الهادئة الرحيمة التي ينبغي أن تكون مصدر خير للذين يحيونها أولاً وللذين يعيشون من حولهم ثانياً وللحضارة الإنسانية بعد هذا كله.
ومن قبلك حاول الكتّاب والأدباء والمصلحون ان يغيروا من هذه الأوضاع فلم يبلغوا مما حاولوا إلا قليلاً. ولكن على الأديب أن يؤدي واجبه للحق والخير والجمال لا يفل من عزمه اخفاق من سبقه ولا يحد من همه اشفاقه أن يصيبه ما أصاب الذين سبقوه كلهم.
ولا بد من شكوى الى ذي مروءة يسليك أو يسليك أو يتوجع.
ولكن مع ذلك أستأذنك في أن تعيد النظر في قصتك فقد تجد فيها هنا وهناك تعبيرات لعلها قد أسرفت في الجراءة. ولعل من حقها ان ترد الى بعض القصد من دون ان يضعف ذلك من قوتها أو يصرفها عن غايتها التي قصدت اليها. فقد توصف الجماعة بالطغيان وقد توصف بإسرافها في المحافظة وقد توصف بأنها صماء لا تسمع وعمياء لا تبصر وبأن قلوبها قد قست، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ولست أرى بذلك بأساً ولست أرى للجماعة ان تحد من حرية الأديب في نقدها مهما يكن هذا النقد قاسياً عنيفاً. ولكن الرفق في اللفظ أجدر ان يبلغ من القلوب ما لا يبلغه العنف وإيثار القصد والاعتدال حين تتحدث عن الخالق وعما بينه وبين الناس من صلة وعن الدين وما له في نفوس الناس من تأثير. أحرى أن يلائم الذوق وما ينبغي لهذه المعاني السامية من رعاية وأن يعطف عليك قلوب القراء وينفعهم بما تريد أن تؤدي اليهم من المعاني.
وأنت بعد ذلك خليق أن تقرأ القصة مرة أخرى فقد تجد فيها هنا وهناك لفظاً يحتاج الى التقويــم وخطأ لغوياً يحتاج الى الاصلاح.
ولولا اني على جناح سفر لأحصيت لك بعض هذه الهنات التي ما أرى إلا انها نتيجة لإسراع الخاطر في الاملاء وإسراع القلم في الكتابة كما ان ما لاحظت من جموح ليس فيما أعتقد إلا نتيجة لشباب الكاتب واندفاعه مع هذا الشباب وإسرافه في الثقة بالنفس والاعتداد بالرأي. وهذه كلها خصال تحمد ولكن من الخير ان ترد الى شيء من الاعتدال.
فتقبَّل تهنئتي خالصة ولا تضق بهذه الملاحظات التي لم أهدها إليك إلا لأني واثق بأن لك في الأدب وفي القصص مستقبلاً أرجو أن يكون رائعاً وأحب له من أجل ذلك ان يكون بمأمن من بعض هذه الخصال التي إذا لم تصلح في ابان اصلاحها لم يسهل التخلص منها فيما يستأنف من الأيام.
ولك أصدق التحيات وأخلص الأماني.
24 مايو 1947
-----------------------------------------
* في العام 1947 وجّه الكاتب طه حسين رسالة الى كاتب لبناني شاب يدعى هنري غالب الأشقر يعرب فيها عن رأيه في رواية مخطوطة عنوانها"وداد أو المرأة"كان أرسلها الأشقر اليه بغية الوقوف عند ملاحظاته. إلا أن الرواية والرسالة نامتا نحو 58 سنة الى أن صدرت الرواية قبل أيام في طبعة أولى، متضمنة رسالة طه حسين. وكان الأشقر رحل في 1998 عن 88 سنة. تنشر"الحياة"الرسالة التي تلقي ضوءاً على الرواية وعلى طريقة الكاتب المصري الكبير في توجيه الملاحظات النقدية.