أ. د. أبو الحسن سلام - تقنية الإخراج المسرحي بين التحصيل النظري والتأصيل التطبيقي - دراسة في منهجية البحث المسرحي -

مقدمة الدراسة:
كلما انكمشت القراءة والتحصيل المعرفي والمعلوماتي المتجدد عند طالب العلم الذي ينشد بعد حصوله على الدراسة التمهيدية العليا أن يسجل لدرجة الماجستير أو الدكتوراه ؛ ظهر عجزه عن اختيار موضوع أو إشكالية ملتبسة في حقل تخصصه الفني لينطلق منها بخطة منهجية لتسجيل بحثه ؛ خاصة في فرع من فروع الإبداع المسرحي في النص أو في العرض أو فرع من الفنون أو حول حقل متصل بالإبداع المسرحي نقدا أو تاريخا أو إدارة وتخطيطا وإنتاجا وتسويقاوترويجا.
أهمية الدراسة:
ولأنني لاحظت سطحية ملحوظة في أكثر خطط طلاب الدراسات المسرحية المتقدمين لتسجيل مشاريع خططهم البحثية سواء للماجستير أو للدكتوراه ؛ مع غياب جدية التدقيق على أهمية جدة العناوين والخطط المطروحة على المجالس العلمية ؛ قياسا على غلبة العامل الشخصاني لبعض أعضاء هيئة التدريس في السيمنار المنعقد لمناقشة المشاريع المقدمة ؛ خاصة في تجاوزات بعض صغار المدرسين ؛ أمام آراء شيوخ التخصص المسرحي ؛ في ظل غياب القيم الجامعية وغيبة صرامة التمسك بالأصول العلمية وفق التخصصات الدقيقة تبعا للتدرج في المراتب الوظيفية الأكاديمية ؛ بدءا من قصور نظر الدولة عن رؤية صادقة ومدققة لدور العلم والبحث والتعليم المتخصص بدءا من السبعينيات وما جري من انحدار للعملية التعليمية في كل مراحلها .
إشكالية البحث:
ورغبة مني صادقة في معاونة طلاب الدراسة العليا؛ أطرح هنا بعض العناوين البحثية التي تعد من القضايا الملتبسة في حقل الفنون الأدائية في إنتاج العرض المسرحي تمثيلا وإخراجا وسينوغرافيا وكريوغرافيا.
الإخراج والرؤى التأويلية
في عروض المسرح المصري
فن الإخراج المسرحي بإعتباره صلب عملية إنتاج العرض المسرحي ؛ سواء تأسس العرض علي نص مسرحي حواري في أي مدرسة من المدارس المسرحية ؛ أو تأسس علي سيناريو تشكل الصورة فيه العمود الفقري للعرض ؛ يتأسلب بأسلوب فني مسرحي ؛ قد يتوافق مع أسلوب النص المسرحي وقد يتجاوزه ليتوصل إلي أسلوب مغاير لأسلوب النص المسرحي الذي نذر نفسه لإنتاجه . وهذا ينفي المقولة التي ترددت فيما كتب كل من المخرجين الرائدين : الأستاذ سعد أردش ، والأستاذ أحمد زكي ، وما فتئا يرددانه حول ضرورة التزام أسلوب المخرج المسرحي بأسلوب النص الذي يقوم بإخراجه ؛ وهو الأمر الذي لم يلتزم به إخراج أحدهما به مطلقا؛ فيما أخرج من مسرحيات إلا فيما ندر !
ومن الأمثلة الدالة علي ذلك إخراج الأستاذ سعد أردش لمسرحية بريخت ( ماهوجوني) التي كانت آخر ما أخرج للمسيح المصري ؛ وآخر عرض له قبيل رحيله عن عالمنا ؛ غاير أسلوب إخراجه لها أسلوبها التغريبي الذي هو العمود الفقري للمسرح الملحمي ؛ فأسلوب الأداء التمثيلي في ذلك العرض كان إندماجيا ؛ وفق منهج ستانيسلافسكي المحتفي بالصفات الذاتية الداخلية والخارجية للشخصية ؛ في حين يتمثل منهج التمثيل التغريبي الملحمي في إعادة تصوير الممثل للصفة الاجتماعية التي تنتمي إليها الشخصية التي يمثلها من منظور طبقته ؛ متوجا بروح عصر الممثل ؛ ومعني هذا أن على ممثل دور الشخصية في المسرحية الملحمية أن يؤدي الدور من وجهة نظرعصره وهو ما يعني تقديمها خلال رؤية أو تصور نقدي. وهذا ما نصت عليه نظرية التغريب الملحمي تحت عنوان : ( التأريخانية) وهو لكي يقدم الشخصية من منظور نقد عصراني ؛ عليه تشخيص دوره المسرحي مدعما بما نصت عليه نظرية التغريب متمثلا في تقنية ( الرائع والمشوة) وهي ثنائية جدلية الشئ ونقيضه أو القيمة ونقيضها ؛ وهو ما يتأكد في أداء الممثل يتشخيص دور الشخصية تأسيسا علي احتمال حدوث فعلها الدرامي لا باعتباره حدثا حتما ما كان للشخصية أن تفعل غيره بالطريقة التي ظهر بها فعله . ومعني التصوير المحتمل للشخصية في أداء الممثل لدور وفق منهج التغريب ؛ أن لا يكون علي الممثل إقناع الجمهور بمصداقية الشخصية التي يقوم بتمثيلها ؛ وهذا يعني عدم إندماجه في تمثل مشاعر افتراضية للشخصية ؛ لأن الشخصيات هنا هي صفات وليست من لحم ودم ، لأنها تشخيص لصفة اجتماعية ؛ فالشخصية تنوب عن طبقتها الاجتماعية ئ؛ ومن أمثلة ذلك في مسرحية. ( القاعدة والإستثناء) لبريخت فشخصية العامل تنوب عن طبقة العمال ، وشخصية الدليل تنوب عن الطبقة المتوسطة ، وشخصية ( التاجر لانجمان) تنوب عن طبقة الرأسمالية الجديدة - رأسمالية الاحتكارات - حتى قضاة المحكمة صفات لانحراف نظام العدالة في المجتمع الرأسمالي .
ولم تكن قراءة سعد أردش في إخراج ذلك النص الملحني البريختي محققا لمنهج التغريب الذي اعتمده دستورا لمنهج الإخراج الذي قدم به النصوص التي أخرجها ؛ فأسلوب إلنص لم يتحقق إذا في منهج الأداء التمثيلي في إخراج الأستاذ سعد أردش للمسرحية الملحمية البريختية : ( ماهوجوني) التي أخرجها للمسرح القومي المصري.
وإذ تعتمد الصورة المسرحية في عروضةالمسرح الملحمي علي الإضاءة المسرحية البيضاء غير الملونة ، مع البعد عن التركيزات الضوئية ، بما هو أقرب إلي الإنارة منه إلي الإضاءة الدرامية الإيهامية المؤثرة والدالة على مصداقية عناصر الصورة من ديكورات وإكسسوارات وأزياء . جاءت الصورة المسرحية في إخراج الأستاذ سعد أردش إيهامية ؛ فابتعدت عن منهج التغريب الذي كان العمود الفقري لنص بريخت ؛ الذي يستخدم قطع الديكور دون زخرفة أو توكيد لصدقها في الواقع الحياتي المعيش ؛ ؛ بمعني تشغيل قطع الديكور بطبيعتها الخام دون زخرفة لكرسي العرش أو لعمود في ديوان أو قاعة عرش ملكية ، كذلك المصاحبات الموسيقية ؛ ولا أقول المؤثرات الموسيقية والصوتية وحيل التنكر ومصداقية الماكياج بل يعتمد موسيقي مناقضة للحالة أو للموقف الدرامي ، كأن تستخدم مقعزوفة موسيقية حزينة في موقف فرح وموسيقي مبعدة وفرحة أو راقصة في مأتم أو جنازة.
وهو منهج التغريب الذي لم ينتهجه التصور الإخراجي الذي قدم به سعد أردش مسرحية بريخت .
إذا لم يتطابق ما نظر له في كتاباته مع تطبيقاته.
وقد فعل الاستاذ أحمد زكي ذلك أيضاً .. ومن أمثلة ذلك إخراجه لمسرحية د. عبد العزيز حمودة ( الظاهر بيبرس) التي عرضها إخراج أحمد زكي علي المسرح الحديث في منتصف الثمانينيات بعنوان ( ابن البلد)
بطولة عبد الله غيث ، عفاف شعيب ، والسينوجرافيا لسينوجراف إنجليزي . أسلوب النص دراما شعبية تأسست على إحدي بابات ابن دانيال ، بابة ( طيف الخيال) التي حققها د. إبراهيم حمادة . إذا كان بناء ذلك النص نسجية درامية لحدث مستلهم من تاريخ السلطان المملوكي الذي انتصر علي المغول وقطع دابرهم . حيث ركز الحدث الدرامي علي علاقته بالشعب المصري ، حيث جعل لب الصراع متمثلا بين الزعيم الشعبي الممثل للشعب المصري أمام السلطان الذي يسكن قلعة صلاح الدين بالقاهرة منفصلا عن الشعب المصري ؛ غير أن أسلوب تصميم الديكور جاء بعيدا عن أسلوب الواقعية التي تمثل في أسلوب التمثيل ، فقد اعتمد السينوجراف الانجليزي علي أسلوب الترميز ؛ ففي الخلفية مبني إسطوتني ضخم لا يشبه بناء منارة القلاع ؛ بل هو أقرب إلي فنظاء الجاز في معامل تكرير البترول ، كما يغطي حفرة الأوركسترا في مقدمة المنصة ويبني فيها علبا خشبية متدرجة الأحجام والمساحات ونيجعا لها نوافذ مضاءة تواجه مقاعد الصفوف الأمامية في صالة جلوس الجمهور ؛ ليحرك عليها المخرج عسكر السلطان وعسسه ؛ كما يدور عليها الصراع بين رموز مقاومة جبروت السلطان . كما خلط أسلوب الإخراج بين واقعية التمثيل الاندماجي وتعبيرية حركة الممثلين فوق مساكن الشعب المصري ( العلب المضاءة في مقدمة فضاء المنظر المسرحي ) والتمثيل الاستايليزي ( تمثيل الأسلبة التشخيصي- الميلودرامي الأثر)
إذا فقد خرج أسلوب إخراجه لنص درامي شعبي يجمع بين فن خيال الظل والدراما الاجتماعية السياسية ( الذي يتناسب مع توظيف الإخراج للتوفيق بين أسلوب تمثيل المعايشة الاندماجية وأسلوب التشخيص ) كما خلط بين الأسلوب الرمزي في تصميم المنظر المسرحي والأسلوب التعبيري في تحريك الممثلين علي مساكن الشعب المصري . وتعمد فتح الستار ليلغي الحائط الرابع ، وتسليط أشعة ضوء في أعين الجمهور ما بين فترة زمنية وأخري علي مطار زمن العرض ، بما يعني توظيف عنصرين من عناصر التغريب الملحمي .
فأين خلط الأساليب هذا من تنظيره الداعي لوحدة أسلوب الإخراج مع أسلوب النص .
والخلاصة هي أن قضية الزعم بضرورة التزام المخرج بأسلوب النص الذي يقوم بإخراجه هي قصية مخادعة ، لأن التطبيق عند من أثاروا تلك القضية مناقض لتنظيذاتهم .

أ. د. أبو الحسن سلام



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى