السيد جان دورميسون
باريس
صديقى العزيز،
مقالكم المهم جدا "خيانة الكتاب" أثار فى إهتماما عميقا. فى الحقيقة نحن نعيش فى عالم غاية فى الخطورة على الثقافة وعلى الأدباء الذين يتمنون أن يخدموا بحرية قضية القلم. أغلبية الكتاب يجدون أنفسهم هذه الأيام محاطين بالسياسة ومصنفين يساريين أو يمينيين بشكل حاسم وخصوصا فى العالم العربى والعالم الثالث.
بصفتى رئيس إتحاد كتاب مصر، أجد صعوبة فى ضم اليساريين واليمينيين فى منطقة مشتركة. وهذا يمكن أن يكون مقبولا إن بقت الأيدلوجيا كقناعة شخصية نقية. لكنها تصبح القلعة المحصنة للسلطة. اليوم يجب على الكاتب أن ينخرط سياسيا وإلا سيتم شجبه كسجين لبرجه العاجي، فكره الحر. خيانة الكتاب تأخذ إذا معنى مخالفا. الكتاب الأحرار من سطوة السلطة ينظر إليهم فى بلادهم كخونة. بالطبع أنا لا أتحدث فى فرنسا. لكن مقالك لا يوضح الفرق. لقد كتبت: "إنصياع الثقافة للسياسة تمثل الشكل الحديث لخيانة الكتاب". نعم لكن من وجهة نظر من؟ أوروبا الغربية بالطبع. لكن بالنسبة لأوروبا الشرقية هو العكس تماما: هناك خيانة الكتاب هى رفض انصياع الثقافة للسياسة وهذا مصدر الشر. كل توجه سيء من جهة وحسن من الجهة الأخرى. وهكذا هو صعب أن تبقى كاتبين واقفين على نفس الأرضية وأجد نفسى فى مواجهة موقف معقد ومؤسف فى إتحاد كتاب بلدي.
كيف أجد السبيل إلى جمع الكتاب من جميع البلاد حول عالمية مهمتهم من أجل تقدم الإنسانية؟ للأسف، حتى كلمة تقدم لم تعد تعنى شيئا واحدا. عندما نقول تقدميا نعنى شيوعيا. كيف إذا نعيد جمع الكتاب فى بلد واحد أو فى كل البلاد ونجعلهم يتكلمون نفس اللغة فى خدمة الإنسان، الإنسان باختصار، بعيدا عن تأثير السياسة. هذه هى المشكلة التى تشغلك من موقعك الإنسانى فى اليونسكو منذ سنين عديدة. اليوم لم تنس هذه المهمة النبيلة وتقترح على اليونسكو أن تتولى الأمر لإنشاء "مجلس حكماء" يمكن له أن يعيد إحياء روح التعاون الثقافى المتجرد من كل تبعات سياسية.
الكتاب الأحرار يجب أن يهنئوا أنفسهم على هذا الاقتراح. لكن لا يجب أن نحجب عن أنفسنا العوائق التى تهدد مبادرتكم. الكتاب أنفسهم ليسوا مجمعين على تعريف حريتهم.
مع شكرى لكم أضع نفسى تحت تصرفكم فى ما يخص أى مجهود تجاه تحقيق مهمتكم النبيلة وأدعوكم لتقبل صديقى العزيز مشاعرى المخلصة وصداقتى الوفية.
توفيق الحكيم
*****
* الرسالة الثانية
الصديق العزيز
مرة أخرى أشكركم على تعاطفكم بمناسبة موت ابنى الوحيد. لأسترخى بعض الشيء كنت قد خططت لرحلة. لكن بسبب الإرهاب ينصحنى أصدقائى بعدم ترك بلدى وخصوصا بعد إغتيال نائب رئيس إتحاد الكتاب والذى أنا رئيسه فى قبرص العام الماضي. كانت جريمته التى استحق عنها الموت أنه أنضم لمبادرة السادات وزيارته للقدس. أنا نفسى كتبت فى كل مكان للتصديق على هذه الزيارة واقترحت أيضا إنشاء مؤسسة إسرائيلية - عربية تحبذ الوجود المشترك للشعبين (جريدة لوبوان - ١٢ نوفمبر ١٩٧٧ و لونوفيل أوبزرفاتير - ٥ ديسمبر )
اليوم بعد السلام بين مصر وإسرائيل لابد من إقامة صداقة حقيقية بين الشعبين. لقد ذكرتُ فى راديو إسرائيل تسامح الشعب المصرى الذى لم يعرف أبدا التفرقة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين. وبالخصوص اليهود الذين يتم تشويه صورتهم بغير وجه حق فى بعض بلاد، حتى فى أوروبا، هؤلاء ننظر إليهم لدينا نظرة جيدة. لى صديق قديم يحدثنى عن أمانة واستقامة شركائه اليهود. حتى رئيس حزبنا، حزب العمل، نشر مؤخرا مقالا يذكر فيه تاريخ العلاقة الطيبة التى كانت تربط عائلته واليهود وأكد أن اليهود يستحقون كل ثقة. فى المجال الأدبى لن أنسى أبدا أن الزميل فى الأكاديمية العربية الذى كان يجلس بجوارى كان الحاخام الأكبر لليهود دكتور حايم إفاهوم والذى كان نموذجا يبعث على الإعجاب فى تمكنه العميق من جذور اللغة العربية. كثير من المصريين من جميع الطبقات وفى مختلف المجالات يحتفظون بأفضل الذكريات لأصدقاء ومعارف من اليهود.
كل هذا أثار غضب المتشددين والذين وضعونى على "القائمة السوداء". ماذا فعلت؟ هل الدعوة للحب والعدل بين شعوب المنطقة جريمة؟ رؤية الإسرائيليين والفلسطينيين مستقرين فى سلام، كل فى وطنه، أليس هذا حلم كل العالم؟
تخيل صديقى العزيز لأى درجة يرى كاتب فيها نفسه مهددا بالموت؟! الإرهاب الآن يطال الكتاب المساكين الذين لا يملكون إلا كلماتهم الصادقة ليقولوها! لقد كتبت العام الماضى مقالا أحث فيه السيد السكرتير العام للأمم المتحدة دكتور فالدهايم على أن يفعل كل ما فى وسعه ليخلص الإنسانية من هذا البلاء الحديث: الإرهاب والذى يمثل خطرا فظيعا على حرية الإنسان فى زمننا. وأنا المستهدف؟ ماذا يجب على أن أفعل؟ حياتى لا تعنيني! فى سنى هذا، ما أهمية أن أعيش بضع لحظات أطول؟ لكن للآخرين؟ دول شقيقة، دول عربية قطعت علاقاتها على التوالى مع مصر تحت التهديد بسبب السلام مع إسرائيل. وللكتاب، إنه لمخجل أن حضارة القلم تقف عاجزة فى مكافحة هذا الخطر العالمى فى نهاية قرننا هذا.
صداقتى الوفية
توفيق الحكيم
باريس
صديقى العزيز،
مقالكم المهم جدا "خيانة الكتاب" أثار فى إهتماما عميقا. فى الحقيقة نحن نعيش فى عالم غاية فى الخطورة على الثقافة وعلى الأدباء الذين يتمنون أن يخدموا بحرية قضية القلم. أغلبية الكتاب يجدون أنفسهم هذه الأيام محاطين بالسياسة ومصنفين يساريين أو يمينيين بشكل حاسم وخصوصا فى العالم العربى والعالم الثالث.
بصفتى رئيس إتحاد كتاب مصر، أجد صعوبة فى ضم اليساريين واليمينيين فى منطقة مشتركة. وهذا يمكن أن يكون مقبولا إن بقت الأيدلوجيا كقناعة شخصية نقية. لكنها تصبح القلعة المحصنة للسلطة. اليوم يجب على الكاتب أن ينخرط سياسيا وإلا سيتم شجبه كسجين لبرجه العاجي، فكره الحر. خيانة الكتاب تأخذ إذا معنى مخالفا. الكتاب الأحرار من سطوة السلطة ينظر إليهم فى بلادهم كخونة. بالطبع أنا لا أتحدث فى فرنسا. لكن مقالك لا يوضح الفرق. لقد كتبت: "إنصياع الثقافة للسياسة تمثل الشكل الحديث لخيانة الكتاب". نعم لكن من وجهة نظر من؟ أوروبا الغربية بالطبع. لكن بالنسبة لأوروبا الشرقية هو العكس تماما: هناك خيانة الكتاب هى رفض انصياع الثقافة للسياسة وهذا مصدر الشر. كل توجه سيء من جهة وحسن من الجهة الأخرى. وهكذا هو صعب أن تبقى كاتبين واقفين على نفس الأرضية وأجد نفسى فى مواجهة موقف معقد ومؤسف فى إتحاد كتاب بلدي.
كيف أجد السبيل إلى جمع الكتاب من جميع البلاد حول عالمية مهمتهم من أجل تقدم الإنسانية؟ للأسف، حتى كلمة تقدم لم تعد تعنى شيئا واحدا. عندما نقول تقدميا نعنى شيوعيا. كيف إذا نعيد جمع الكتاب فى بلد واحد أو فى كل البلاد ونجعلهم يتكلمون نفس اللغة فى خدمة الإنسان، الإنسان باختصار، بعيدا عن تأثير السياسة. هذه هى المشكلة التى تشغلك من موقعك الإنسانى فى اليونسكو منذ سنين عديدة. اليوم لم تنس هذه المهمة النبيلة وتقترح على اليونسكو أن تتولى الأمر لإنشاء "مجلس حكماء" يمكن له أن يعيد إحياء روح التعاون الثقافى المتجرد من كل تبعات سياسية.
الكتاب الأحرار يجب أن يهنئوا أنفسهم على هذا الاقتراح. لكن لا يجب أن نحجب عن أنفسنا العوائق التى تهدد مبادرتكم. الكتاب أنفسهم ليسوا مجمعين على تعريف حريتهم.
مع شكرى لكم أضع نفسى تحت تصرفكم فى ما يخص أى مجهود تجاه تحقيق مهمتكم النبيلة وأدعوكم لتقبل صديقى العزيز مشاعرى المخلصة وصداقتى الوفية.
توفيق الحكيم
*****
* الرسالة الثانية
الصديق العزيز
مرة أخرى أشكركم على تعاطفكم بمناسبة موت ابنى الوحيد. لأسترخى بعض الشيء كنت قد خططت لرحلة. لكن بسبب الإرهاب ينصحنى أصدقائى بعدم ترك بلدى وخصوصا بعد إغتيال نائب رئيس إتحاد الكتاب والذى أنا رئيسه فى قبرص العام الماضي. كانت جريمته التى استحق عنها الموت أنه أنضم لمبادرة السادات وزيارته للقدس. أنا نفسى كتبت فى كل مكان للتصديق على هذه الزيارة واقترحت أيضا إنشاء مؤسسة إسرائيلية - عربية تحبذ الوجود المشترك للشعبين (جريدة لوبوان - ١٢ نوفمبر ١٩٧٧ و لونوفيل أوبزرفاتير - ٥ ديسمبر )
اليوم بعد السلام بين مصر وإسرائيل لابد من إقامة صداقة حقيقية بين الشعبين. لقد ذكرتُ فى راديو إسرائيل تسامح الشعب المصرى الذى لم يعرف أبدا التفرقة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين. وبالخصوص اليهود الذين يتم تشويه صورتهم بغير وجه حق فى بعض بلاد، حتى فى أوروبا، هؤلاء ننظر إليهم لدينا نظرة جيدة. لى صديق قديم يحدثنى عن أمانة واستقامة شركائه اليهود. حتى رئيس حزبنا، حزب العمل، نشر مؤخرا مقالا يذكر فيه تاريخ العلاقة الطيبة التى كانت تربط عائلته واليهود وأكد أن اليهود يستحقون كل ثقة. فى المجال الأدبى لن أنسى أبدا أن الزميل فى الأكاديمية العربية الذى كان يجلس بجوارى كان الحاخام الأكبر لليهود دكتور حايم إفاهوم والذى كان نموذجا يبعث على الإعجاب فى تمكنه العميق من جذور اللغة العربية. كثير من المصريين من جميع الطبقات وفى مختلف المجالات يحتفظون بأفضل الذكريات لأصدقاء ومعارف من اليهود.
كل هذا أثار غضب المتشددين والذين وضعونى على "القائمة السوداء". ماذا فعلت؟ هل الدعوة للحب والعدل بين شعوب المنطقة جريمة؟ رؤية الإسرائيليين والفلسطينيين مستقرين فى سلام، كل فى وطنه، أليس هذا حلم كل العالم؟
تخيل صديقى العزيز لأى درجة يرى كاتب فيها نفسه مهددا بالموت؟! الإرهاب الآن يطال الكتاب المساكين الذين لا يملكون إلا كلماتهم الصادقة ليقولوها! لقد كتبت العام الماضى مقالا أحث فيه السيد السكرتير العام للأمم المتحدة دكتور فالدهايم على أن يفعل كل ما فى وسعه ليخلص الإنسانية من هذا البلاء الحديث: الإرهاب والذى يمثل خطرا فظيعا على حرية الإنسان فى زمننا. وأنا المستهدف؟ ماذا يجب على أن أفعل؟ حياتى لا تعنيني! فى سنى هذا، ما أهمية أن أعيش بضع لحظات أطول؟ لكن للآخرين؟ دول شقيقة، دول عربية قطعت علاقاتها على التوالى مع مصر تحت التهديد بسبب السلام مع إسرائيل. وللكتاب، إنه لمخجل أن حضارة القلم تقف عاجزة فى مكافحة هذا الخطر العالمى فى نهاية قرننا هذا.
صداقتى الوفية
توفيق الحكيم