د. سيد شعبان - الطيب صالح مدلسا!

تصدر تحذيرات بأن شيئا ما يهدد سكان المدينة وما يتبعها من علب الصفيح؛ سأدخل تلك المغارة مجبرا؛ لم يعد لدي ترف الاختيار؛ حين جلست عند شاطيء النهر وجدت واحدة يدلف إليها ثعبان كبير؛ فالبيات الشتوى اقترب موسمه، في بلادنا مائة عام من العزلة لا تكفي، علينا أن نبقى في باطن المغارة بأمر الأخ الأكبر الذي يرى ذلك أنسب لنا؛ فهو يحتاط يقرأ من كتاب أصفر حكايات الجن والبشر؛ حتى قيل إن لديه خزائن الأسرار، في المرة القادمة حين يأتي زمن الخروج الكبير ستبدو ملامحنا مثيرة للسخرية؛ أنوفنا ستكون موضع عيوننا مؤكد أن الكائنات المختزنة لمئات السنين تتغير اهتماماتها، لا حاجة بها للأقلام أو الأوراق إنه يدري بما هو أجدى لهم.
هذه ليست فكرة سخيفة؛ فالشتاء يلتهم الكائنات الصغيرة ولربما تغيب الشمس دون أن تقدم اعتذارا، لن أفعل ما يثير غضبه؛ يفكر ليل نهار لهؤلاء القابعين في السرداب الجبري.
وصلات التفكير يمسك بها أحد حراسه؛ تعطي ومضات تشي بخطر مربك؛ هؤلاء ينتهي أجلهم حين تعطي اللمبة الحمراء إنذرا بخطر ما؛ يحلم بأن يسكن المجرة التى تهرب من الثقوب السوداء؛ يغطي واجهة المدينة بغلالة من سحب فضية.
لم تعد أسرار تخفى عليه؛ جنوده من النمل تأتيه بما نختزنه في جحورنا من غلال؛ لم تعد به حاجة أن يهب هؤلاء الساكنين في غاره حبوب الطعام؛ تنتشر شائعات أن تمساحا كبيرا اخترق إحدى حواجز السد الكبير.
لن تكفي المائة عام التي حكى ماركيز تفاصيلها؛ عالمه يختلف كثيرا عن سردابنا الذي نقبع فيه؛ لا مكان لأية صورة مغايرة لما يريد الأخ الأكبر أن يضعنا في إطارها، يمسك بالمشرط والمقص يتخلص من زوائدنا العلوية التي ترغي وتزبد، والسفلية التي تأتي بالصغار الذين يبحث وسطهم عن طفل يخوفونه من عصاته.
لن تفلح محاولات أرسولا أن تخرج كل هذا الكم من البشر من السرداب الحجري؛ يربض سبع الليل عند مدخله؛ يخترق الحواجز ولن تفلح كل الجبال أن تعصمنا من فوهة البركان؛ مؤكد أن هؤلاء جوعى من صنف آخر يتلمسون ضوء النهار في عتمة المتاهة، يتحايلون علي الأخ الأكبر ليهبهم نسمة الحياة التي تتسرب من بين قضبان الزنازين الصخرية؛ يعلمون أن الهواء مختنق الأنفاس بل ثقيل مصاب بالعفونة المقيتة، تنكسر أعواد المشانق في أحلامهم نكون متسعا للجنة التي يرجونها.
أرى على الحوائط بقع دم متجمد، قلوب تنغرس فيها سهام؛ يوما ما كتب أحدهم إلى أرسولا قصيدة جميلة يتغزل في عينيها؛ يوميء إلى ذكرى لقاء عابر وراء حواجز الزمن الجميل، ورد يتدلى من سيقان أطلقت عليها كلاب متوحشة؛ أقلام وفرشاة وممحاة وصور جميلة، يبدو أن الجنرال كان يرسم للمسيح طريق الآلام قبل العشاء الأخير؛ انتظر طويلا حتى تجهز له المائدة؛ أشفقت السماء فأطعمتهم مائدة مما يشتهون.
تتصدع الأرض من تحت أقدام الماركيز فالحب في زمن الكوليرا لا بقاء له؛ يحاصره الموت من كل مكان، لا يجد قلوبا تصلح ليسكنها؛ يغطي الضباب كل المدن؛ دائما ما ينصاع الجميع لأوامر الأخ الكبير؛ أراه أفضل من أمسك بوصلات عقلي؛ أتماهى مع شاراته إذ يمتلك حكمة لقمان ومهارة جن سليمان؛ لا حاجة بنا إلى الأوراق والمحابر ولا قصائد نزار الآثمة حيث لا تجدى في متاهة يجيد عزف سيمفونيتها الجنرال.
في المائة عام قيل الأخيرة لا حاجة به لهؤلاء الذين يمدهم بالغلال؛ يحمدونه إذ يسكنهم جوف المتاهة العميقة، على طرفها تتدلى حيات سمان ما تترك من شيء إلا عضته بتلك الأنياب التي دمغها الجنرال في زهو.
لقد دلس علي الطيب صالح حين أقنعني بأنه يمكنني أن أهاجر إلى بلاد الشمال؛ فالفاتنات يعدن رجلا مثلي يصلح للحجرات العبقة بالبخور ورائحة الصندل الإفريقي؛ جين موريس كانت تقول دائما: للرجل الأسود إغراء لا يقاوم.
يولد من رحم مريم طفل طاهر؛ يحمل بشارته فيخرج من عينيه نور، يمسك بعصا موسى تتراقص الأفاعي، يقولون في المائة الأخيرة من العزلة التى فرضها الجنرال سيبطل السحر حيث أتى، يسبح في جوف الحوت سيدنا الخضر؛ كل المتاهات تخرج ما ضل فيها؛ يبكي الماركيز ويتأوه؛ تمد إليه أرسولا حبل النجاة؛ يسبقها شيطان أسود الوجه، يقهقه في انتشاء لا مثيل له، تتسع فوهة المتاهة التي تزحف إليها جموع تلك الديدان التي وشمت بعلامات غريبة، السبع العجاف في مائة الجنرال لن يدونها أي ماركيز آخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى