د. علي خليفة -· العرب والمسرح في العصور القديمة

(١)
بداية نقر أن شكل المسرح الذي توصل إليه الإغريق هو الشكل المسرحي الأشهر والأكثر رسوخًا وانتشارا في العالم، ولكن هذا لا يمنع من وجود أشكال مسرحية أخرى ظهرت وتطورت في بلاد أخرى خاصة في بلاد الشرق الأقصى، كاليابان والصين والهند، وأن هذه الأشكال من المسرح اعتمد بعضها على الرقصات والغناء أكثر من الاعتماد على الكلام، ومن ذلك مسرح النو ومسرح الكابوكي اليابانيين، وقد تأثر بعض كتاب المسرح الغربيين في العصر الحديث بهذه الأشكال من المسرح، ومزجوها بتجاربهم المسرحية الجديدة، كما نرى هذا في المسرح الملحمي لبريشت.
(٢)
وقضية عدم توصل العرب لشكل مسرحي في العصر الجاهلي يتشابه مع شكل المسرح الغربي المتوارث عن الإغريق أو لشكل آخر يتناسب معهم في العصر الجاهلي - هي قضية طرحت كثيرا، ولا يوجد ما يمنع من إعادة طرحها، وليس هدفنا من إعادة طرحها أن نغالي في شعورنا بآداب العرب القديمة، ونقول: إنهم كانوا في غنى عن التوصل لأي شكل من أشكال المسرح، وكذلك لا نقصد من إعادة النظر في هذه القضية أن نصدق أقوال بعض المستشرقين المغرضين - كرينان الفرنسي -الذين رأوْا أن عرقهم الآري هو وحده الذي يمتلك القدرة على الخيال والابتكار؛ ولهذا استطاعوا التوصل لشكل المسرح منذ أيام الإغريق في حين اتهم هؤلاء المستشرقون الشعوب الأخرى السامية والحامية، بأنها تفتقر للخيال، وللقدرة على الابتكار، فلم يستطيعوا - حسب ادعائهم - ابتكار أي شكل للمسرح عندهم قديما، حتى نقلوه عن الغرب في العصر الحديث.
وسأبدأ في نقاشي لهذه القضية بعرض وجهة نظر لي قد تكون صادمة وغريبة، وهي أننا لا نستطيع أن نجزم بأن العرب قد جهلوا أي شكل من أشكال المسرح في العصر الجاهلي؛ وذلك لأننا لا نستطيع التعرف على أحوال العرب في الجاهلية الأولى، وهي التي تمتد في التاريخ القديم إلى قبل ظهور الإسلام بمائتي عام، وهي فترة طويلة في التاريخ عاش فيها العرب داخل جزيرة العرب شبه منقطعين عما يجري في العالم خارج بلادهم، وكان عدم توصلهم لطريقة كتابة خاصة بهم في هذه القرون الممتدة في الزمن من أسباب عدم وصول تاريخ مدون لهم خاصة في قلب الجزيرة العربية، ومن المعروف أن العرب توصلوا لطريقة الكتابة التي يكتبون بها مع نهاية القرن الخامس الميلادي، وكانت طريقة الكتابة عندهم متأثرة بشكل واضح بالكتابة النبطية.
وفي هذا المقام أذكر أن علماء العربية ومؤرخي الأدب يصرحون بأنهم لا يعرفون المراحل التي مر بها الشعر العربي حتى استوى في صورة القصائد التي نراها لشعراء جاهليين، فبدايات الشعر الجاهلي مجهولة، وكل ما يقال في هذا الأمر نوع من التكهن.
وأغلب الظن عندي أن بدايات الشعر الجاهلي كانت متصلة بعقيدتهم الوثنية، وربما كانت بدايات قصائدهم القديمة فيها ذكر لهذه الآلهة وتمجيد لها، وطلب العون منها، ولكننا لا نكاد نرى في شعر العرب الذي وصلنا إلا إشارات قليلة لآلهتهم الوثنية، وهذا ليس بسبب أن شعرهم الذي وصلنا منحول عليهم، ولكن سبب ذلك يعود - في رأيي - إلى تطور نظرة العرب لعقيدتهم الوثنية قبيل ظهور الإسلام، فقد قلت حماستهم - أو حماسة أكثرهم - نحوها، وعبروا عن ذلك بقولهم -كما جاء في القرآن الكريم -: (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى).
وإذا كنّا كما نرى نجهل بدايات الشعر الجاهلي وتطوره حتى استوى في شكل القصيدة التي كان الشعراء يكتبونها بطريقة تتعدد فيها بعض الموضوعات، وتساق تقريبا هذه الموضوعات بترتيب موحد فيها - ولا ندري كيف اتفقوا على وضع هذه الموضوعات وترتيبها داخل القصيدة - فإننا أيضا لا نستطيع أن نجزم بأن العرب في الجاهلية - التي تمتد قبل الإسلام بعدة قرون وكان العرب في شبه عزلة عن العالم من حولهم فيها - لم يتوصلوا لأي شكل من أشكال المسرح يتناسب مع عقيدة الوثنية التي كان يُؤْمِن بها أكثر الناس في قلب جزيرة العرب.
وعلى الرغم مما قلته من جهلنا بما يمكن أن يكون عند العرب من فنون وآداب في تلك القرون التي تسبق ظهور الإسلام - فإنني لا أعتقد أنهم قد عرفوا شكلا ناضجا من المسرح فيها؛ لأننا لا نجد في النقوش القديمة التي تم العثور عليها في قلب جزيرتهم ما يدل على ذلك، وأغلب الظن أن أسلوب حياتهم الذي يقوم على التنقل والترحال بحثا عن سبل الحياة - خاصة الماء والعشب والزرع داخل جزيرتهم - كان من أهم الأسباب في عدم توصلهم لشكل مسرحي ناضج كالذي توصل إليه الإغريق قديما، فالمسرح يحتاج إلى استقرار في المدن، وبناء المعابد الضخمة التي تؤدى طقوس العبادة فيها، وتتحول فيها بعض هذه الطقوس لما يشبه التمثيل، وقد تتحول لتمثيل بعد ذلك.
إذا فسرعة تنقل العربي في الجاهلية داخل جزيرته، وافتقاده للاستقرار - وقد انعكس هذا التنقل على شعرهم فرأينا القصيدة الواحدة يتنقل فيها الشاعر في موضوعات عدة ، إلا قصائد قليلة لهم شمل كل واحدة منها موضوع واحد - كان السبب الأساسي في عدم وجود.شكل مسرحي ناضج لديهم.
ويضاف لهذا أن شعور العربي قببل الإسلام بالعقيدة الوثنية كان ضعيفا، ونحن نعرف أن كل اشكال المسرح التي عرفها الإنسان في كل بلاد العالم قديما كانت مرتبطة بعقائدهم، وما دام شعور العربي كان قببل ظهور الإسلام ضعيفا فإنه كان من المستبعد أن يتوصل لشكل ناضج من المسرح.
ولا شك أن الإسلام حين جاء عارض كل قيم الجاهلية المنحرفة، ونهى عن رواية الشعر الجاهلي الذي فيه ذكر للأصنام وعادات العرب السيئة، ولكن هذا النهي لم يمنع رواة العرب مع نهاية القرن الهجري الأول وفي القرنين التاليين من جمع ذلك الشعر أو ما بقي مرويا منه، كما فعل هذا ابن الكلبي في كتاب الأصنام.
وهذا الشعر القليل الذي وصلنا عن الجاهلية لا نرى حرارة قوية فيه فيما يخص عقيدتهم الوثنية؛ مما يدل بالفعل على أن العربي كان قبيل ظهور الإسلام ضعيف الإيمان بهذه الآلهة الوثنية، وأن أكثر من يؤمنون بها يجارون أسلافهم في الإيمان بها، فهم يعبدونها؛ لأنهم وجدوا أسلافهم لها عابدين، ولكنهم - أو كثيرا منهم - لا يشعرون بقداسة كبيرة نحوها، وكما قلت: إن هذا انعكس على شعرهم الذي وصلنا - وكان أكثره قد قيل قبيل ظهور الإسلام بسنوات قليلة - فلسنا نرى فيه حرارة إيمانهم بعقيدتهم الوثنية، أو وجود طقوس وعبادات مهمة يؤدونها فيها.
(٢)
أما السبب الأساسي الذي حال دون نقل العرب شكل المسرح في أثناء توهج حضارتهم في العصر العباسي الأول - فهو أن المسرح كان تقريبا قد اندثرت عروضه عند الرومان الذين لم يكونوا يهتمون بغير المصارعات الدموية، وكان أحيانا يقوم بعض كتاب الكوميديا مثل بلوتوس وتيرانس بتقديم بعض الملاهي خلال ذلك، وكانا يجدان صعوبة كبيرة في استرضاء الجمهور الذي يشاهد مسرحياتهما الكوميدية، وكان هذا الجمهور يستحثهما والممثلين الذين يمثلون مسرحياتهما على سرعة إنهاء عروضهما؛ ليشاهد المصارعات الدموية التي كان يعشقها.
إما مسرحيات سينيكا التراجيدية في العصر الروماني فلا يوجد أي دليل على أنها قد عرضت في ذلك العصر، وأغلب الظن أن سينيكا كتبها لتقرأ لا لتعرض في مسارح في ذلك العصر.
وإذا فلم ير العرب خلال اننفتاحهم مع الأمم المجاورة لهم في العصر العباسي مسرحيات يمكنهم محاكاتها.
ولأن المسرح الإغريقي مرتبط بعقيدة الإغريق ذات الميثولوجيا التي يصعب فهمها فإن المترجمين العرب لم يعرفوا مقصود أرسطو للتراجيديا والكوميديا في كتاب فن الشعر؛ ولهذا ترجمهما بعض المترجمين العرب على أن المقصود بهما المديح والهجاء.
ومن السبب الأهم الذي منع العرب من ترجمة آداب اليونان إلى جانب غموضها عليهم، وارتباطها بأساطيرهم وعقيدتهم الوثنية التي استغلق عليهم معرفتها - أن حركة الترجمة النشطة عند العرب التي كانت في القرنين الثاني والثالث الهجريين - كانت في الوقت نفسه الذي اشتد الصراع فيه بين العرب والشعوبيين - وهم بعض أبناء الشعوب التي فتحها العرب، كبلاد فارس وبلاد الشام، وكانوا يباهون بحضاراتهم وآدابهم القديمة العرب، ويرون أنهم أعلى منهم قدرا.
وبسبب نشاط الصراع الشعوبي العربي في ذلك العصر فقد كان هناك توجه - وربما توجيه ايضا من بعض الخلفاء العباسيين - بعدم ترجمة آداب الأمم الأخرى؛ حتى لا يدخل الأدب العربي في منافسات معها في ذلك الوقت الذي اشتدت فيه الخصومة بين أنصار العرب، وهؤلاء الشعوبيين.
ولا نستغرب في ظل هذه الأجواء الملتهبة بهذا الصراع أن نرى الجاحظ المعتز بعروبته والذي كان من أشد المواحهين للشعوبيين في عدة كتب له يقول: والشعر مقصور على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب.
ومستبعد أن يكون الجاحظ صاحب الثقافة العميقة بعلوم العرب وآدابهم وعلوم الأمم الأخرى- التي اتصل بهم العرب - وآدابها يجهل أن يكون لهذه الأمم شعر فيه موسيقى هو ايضا، ولكنها تختلف عن موسيقى الشعر العربي، ولكن الجاجظ تجاهل هذا الأمر في سبيل مواجهته للشغوبيين المحقرين لتراث العرب خاصة في الجاهلية.
ويضاف لما قلته من أسباب صرفت العرب عن ترجمة المسرحيات الإغريقية - التي لا شك أن بعض المترجمين العرب قرأوها مكتوبة باليونانية أو السريانية - أن العرب كانوا يرون شعرهم فنهم الأرقى الذي لا مثيل له، وكانوا منذ القدم يرونه ديوان حياتهم، وينظرون إلى الشاعر بينهم على أنه شخص عظيم القدر رفيع المكانة؛ لأنه يمجد بشعره مناقبهم، ويهاجم أعداءهم، وهذه النظرة من التقدير الكبيرة من العرب لشعرهم في تلك العصور القديمة هونت عندهم من قيمة آداب الأمم الأخرى، ولا شك أن الخسارة كانت كبيرة في ذلك؛ لأن هذا الأمر حال دون اطلاع العرب على آداب الأمم الأخرى خاصة الإغريق ومسرحهم.


1621970894622.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى