أ. د. أبو الحسن سلام - جماليات الفنون..

# مفهوم الجمال:
علم الجمال علم فلسفي في الأصل لأنه نشأ في أحضان الفلسفة منذ نشأتها؛ حين كانت مثالية تعنى بعلاقة الإنسان بوصفه موجودا حاضرا بفعل الغائب المطلق المتعالي . ثم في تحولها بالتركيز على علاقة الإنسان بالكون وطبيعة الفاعل المادي فيه ؛ ثم تحولها بالتركيز على علاقة الإنسان بطبقته في خضم صراع الطبقات - الفلسفة الماركسية- أو بالتركيز على علاقة الذات الفردية بالذات الفردية الأخري- الفلسفة الوجودية المادية -
# ظل علم الجمال في العصور الوسطى وفي عصر النهضة فرعا من فروع الفلسفة.
# طل علم الجمال تابعا للفلسفة المادية ( الوجودية) بالتركيزةعلى علاقة الأنا بالآخر؛ وبالتركيزةعلى علاقة الصراع الطبقي بين العمال والرأسمالية( الماركسية)
# ظهر مفهوم علم الجمال لأول مرة عام ١٧٣٥ في كتاب: ( Reflections Poetry) للألماني ألكسندر بومجارتن Alexander Baumgarten حيث ظهر له أن هناك نوعا من المعرفة أو الإدراك في الشعر وفي الفنون الأخرى ؛ وأصبح مصطلحةعلموالجمال من المصطلحات الدائمة في قاموس الفلسفة بعد أن استبعد بومجارتن التأملات العقلية التي ظلت مسيطرة على علم الجمال حتى القرن الثامن عشر.
# تطور علم الجمال بعد بومجارتن فاعتمد على الخبرة الجمالية. مع العلم بعدم وجود نظرية واحد في الخبرة الجمالية.
# مثال حول الخبرة الجمالية:
من الشعر:
يقول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الناس جراها ويختصموا
ولمن لديه خبرات معرفية وتذوقية قدرة على أن يزن هذين البيتين بميزانهما . فالمعري مثلا يقول في تقديره لذلك : " أنا من نظر أدب أحمد " يقصد أحمد بن حسين الجعلي الكوفي المعروف بالمتنبي. فتلك خبرة بنسبه يعرفها المعري ومن تثقف بثقافة تاريخ الشعراء
أما الخبرة الجمالية فتكشف وجهها عند من يعرف أن المعري قد كف بصره بعد الرابعة من عمره على إثر إصابته بمرض الجدري.. والسؤال : كيف يبصر وهو مكفوف ؟ والإجابة تحيلناىإلى البصيرة لا البصر ؛ فهو نظر أدب المتنبي ببصيرته وهذا مناط الخبرة الجمالية
أما من ناحية البيتين الشعبيين فمناط الجمال الذي تكشف عنه الخبرة الجمالية هو انحراف الصورة الشعرية عن الظاهرة الحياتية التي تؤكد حقيقة أنه لاقدرة لكليب البصر على أن ينظر شعرا أو نثرا كما لا قدرة لأسم فاقد للسمع على أنةيسمع شعرا من المتنبي أو غيره لانحراف الصورة إذا لمخالفتها للحقيقة التي لا يأتيها الباطل من أية جهة هو مناط الجمالية .. لأن الكذب تقنع بقناع الحقيقة فأصاب متلقي البيتين بالبهجة ؛ فهو شعر صدقت فيه مقولة القدماء ( أكذب الشعر أصدقه)
# وانظر إلى بيت المعري :
كأن نجوم الليل زرق أسنة
بها من على ظهر التراب طعين
والخبرة الحياتية تبين لنا حقيقة مؤداها أن لا النجوم
قدرة للنجوم ولا إرادة في طعنوكل شيء على ظهر الأرض ؛ فلا توجد في حياة الكائنات ولا في الطبيعة نجوم لهاىالقدرة أو الرغبة في طعن شيء ما.
هي نجومةالمعري وحده ؛ لا أحد ولا شيء سواه هي نجوم موهومة إذن !! والخبرة التاريخية حول بواعث تشويهه لصورة النجوم ولسيرتها النيرة تتكشف أمام من يعرف أن مناط تشويهه لروعة النجوم هو إحساسه العميق بالفقد فالرجل كان يبصر الكون طفلا حتي كف بصره في الرابعة من عمره من ثم يشعر بالرغبة في التعويض عما لا يملك . فمناط الجمال آذن في التخييلىبما هو شديد الخصوصية ليتحول إلى صفة كونية ( الأرض وما عليها مطعون منىالنجوم التي حرمت ذاته الفردية من رؤيتها .
# مثال حول الخبرة الجمالية في السينما:
في نهاية الحلقة الأخيرة من مسلسل ( على باب زويله) من إخراج نور الدمرداش بعد اللقطة الأخيرة حيث محمد العربي ممثل (طومان باي ) مشنوقا على (باب زويله) بأمر السلطان العثمانلي (سليم الأول) صرخ الدمرداش" فركش" وشرع الفنانون والفنيون والعمال في جمع الأجهزة والإنصراف وفجأة صاح نور الدمرداش .. " لا.. نور" عاد الجميع وأضيئت أنوار اللوكيشن Location فلما عاد الجميع أعاد إخراج المشهد الأخير حيث تتأرجح جثة طومان باي على باب زويله أحد أبواب قلعة صلاح الدين بالقاهرة
ومن بين فتحة ساقي الجثة المعلقة في الهواء يلتقط الكاميرا ردود أفعال جماهير المصريين الفقراء من على الوجوه تأثرهم بمقتلة حاكمهم وبطلهم القومي الذي دافع عن وطنه مصر ؛ هكذا تتبين فروق الخبرة العملية عند المبدع بتحويل اللقطة إلى لقطة ذاتية تعكس شعور المخرج نفسه ومن ثم أضف على اللقطة جمالية ودلالة بلاغية عميقة.
# الخبرة الجمالية في المسرح الملحمي:
يعتمد الخبرة المعرفية النظرية والتطبيقية على ثنائية جدلية الشئ ونقوشا فس وحدة واحدة
# نخلص مما تقدم إلى أن علم الجمال علم نابع في الأصل من علم الفلسفة ؛ فلما اتخذ للجمال قياس بين علماء الاجتماع وعلماء النفس وتوسع القياس فاتصل بعمل الناقد الأدبي والناقد الفني ؛ اشتق مصطلح جماليات الفنون والآداب ؛ حيث دخل القياس حيز التطبيق العملي على المنتج الإبداعي أدبا أو فنا من الفنون . وكما تنوع منهج القياس النظري عند الفلاسفة القدامي وما تفرع من بعدهم فسار مسير ينسب الجمال أو القبح للشكل أو سار نسير نسبة اي منهما للموضوع أو مسير نسبته إلى الإحساس الذاتي للمتلقي أو نسبته للمادة التي تشكل منها المنتج الإبداعي أو كل ما هو منظور أو مسموع .
على أن القياس في كل وجه من وجوهه السابقة تلك توج نفسه بالمنهجية حتى يصبح قياسا في حياطة العلم .
وهذا " ول ديورانت (. ) " يقول عن القياس المثالي إن " المثالي يحتقر صدق الإحساس وينكره " ويعكي نثالا لذلك فيقول : " يتساءل الصوفي عن صلاحية العقل للاعتماد عليه "
( وول ديورانت، بهجة الفلسفة، ت: د. أحمد فؤاد الأهواني ، الاهرة ، الأنجلو المصرية ، ١٩٥٥ص٤١ )
ويردنا في تعقيبه على ذلك المثال الذي ضربه ليحلنا إلى استشهاد من الفيلسوف اليوناني القديم بروتاجوراس الذي يقول : " الإنساس مقياس الأشياء جميعا ؛ وهو يخلق معظم العالم الذي ندركه " ثم يدلي الأهواني برأيه مؤكدا به رأي بروتاجوراس فيقول : " الإحساس معيار الحقيقة ؛ ولكن العقل هو المكتشف لها " وهو بذلك يؤكد قولا لديورانت أيضاً حيث يقول : " الألوان فيك لا في الشئ الذي تراه "
ومعنى ذلك أن قياس الجمال حسي من بالنسبة للشكل وموضوعي بالنسبة للعقل ؛ فالإحساس بروعة الشئ أو تشوهه
تقدير ذاتي سابق على تقديرنا العقلي لموضوع ذلك الشئ ؛ فتقديرنا للشئ يمر بمرحلتين الأولى : حسية ذاتية تخص الوجدان - صدى ما تجده ذات المتلقي بإزاء الأشياء : مشاهدة أو سماعا أو شما أو تذوق أو لمسا - أما الثانية فإدراكية عقلية تكتشف وتقدر قيمة الأشياء وتحكم بجماليتها أو بقبحها بناء على ذلك .
ويتأكد ذلك التقدير عند فيلسوف الجدلية المادية الإغريقي " ديمقريطس " حيث يذهب إلى أن " ذاتية الصفات المستمدة من الحواس " فهو يقطع " بألا يكون اللون والصوت والثقل والحرارة والشكل والطعم والرائحة ، والألم موجودة في الأشياء التي نحسها بل في الكائن الذي يشعر بها . "
غير أن هناك توجه آخر مغاير يقول به " هوبز" الذي يرى " أن جميع الصفات التي تسمى حسية موجودة في الشئ الذي تنبعث منه حركات كثيرة للمادة ؛ تلك الحركات التي تضغط على حواسنا بشكل مختلف "()
( مقتبس في : ول ديورانت ، بهجة الفلسفة نفسه )
ومعنى ذلك أن الجمال أو القبح صفة في الشئ نفسه وأن تقدير جماله أو قبحه هو تقدير الحس الذاتي للمتلقي ، وأن الحس وحده هو الحكم ، وليس للعقل دور في ذلك . وهذا وجه الاختلاف بين " هوبز" وكل من "بروتاجوراس" و " ديورانت"
# مصادر الجمال في الإبداع الأدبي والفني :
تختلف مصادر رؤىة الفنان في تقدير القيمة الجمالية لإبداعه تبعا لاختلاف توجهه الأدبي إذا كان أديبا شاعرا أو روائيا أو قاصا أو كاتبا دراميا أو كان فنانا تشكيليا مصورا أو مثالا أو كان مسرحيا أو سينمائيا أو كريوجرافيا أو سينوجرافيا ؛ فالفنان الطبيعي أو الواقعي أو الرومنتيكي أو الملحمي أو السيريالي أو العبثي لكل منهم نظرة تجسد شروط المنبع الإبداعي الذي ينهل منه .. لذا تختلف نظرة كل توجه منها للشيء الواحد نفسه من فنانةإلى فنان آخر. لذا يمكنني القول إن :
- الفنان الطبيعي .. يرى الأشياء بعينها.
- الفنان الواقعي.. يرى الأشياء بعينه .
- الفنان الرومنتيكي.. يرى الآشياء بحسه.
- الفنان الانطباعي .. يرى الأشياء عدة أشياء.
- الفنان الملحمي.. يرى بعيون طبقته.
- الفنان التجريدي - التكعيبي- الرمزي.. يرى يرى جوهر الأشياء بفكره.
نخلص من ذلك إلى أن النظرة إلى الجميل تختلف من مبدع إلى مبدع آخر .
وتفصيلىماةتقدم ونقف عند جمالية الفن التكعيبي:
# جمالية الفن التكعيبي - بتعبير ( ما لبرانش) في الفكر ؛ يقول : " الحقيقة ليست في حواسنا بل في فكرنا؛ ويضيف .. أن " الحواس تشرد ؛ كما أن الفكر يبني "
# جمالية التكعيبية عند دافنشي في الفكر ؛ يقول : " إن الرسم شيء فكري"
# جمالية التكعيبية عند " سيرولا " مبعثها الفكر ؛ وهو يتمثل بالتكعيبية فهي عنده : " فن الفهم والاستيعاب فحسب ؛ لا فن الانفعال"
وعلى الرغم من تباين مصادر الجمال ومسارات تلقيه أو تقديره على نحو ما بينا ؛ فلم يكن الفكر معزولا عن عملية التقدير ؛ وذلك ما تنبه إليه عبارة كل من جلين وميتزنجر: " لا يصير العالم الواقعي مرئيا إلا بفعل الفكر " فالتقدير إذن عمل من أعمال الفكر .
# تكوين الصورة الجمالية :
يختلف المنظور الجمالي بين جهود تكوين الصورة الجمالية عند المؤلف عنهةعند المخرج وعند الممثل عنه عند المتفرج ثم عند الناقد ؛ فكل منهم يحقق الجمال من منظوره .
- المؤلف المسرحي ، يحقق الجمال خارج ذاته من خلال شخصياته التي يمثلها .
- المخرج المسرحي ، يخفق الجمال خارج ذاته عن طريق الممثلين والمصممين المتعاونين معه في إنتاج العرض.
- الممثل يحقق الجمال خارج ذاته من خلال الشخصية التي يمثلها .
- المتفرج يحقق الجمال داخل ذاته من خلال أفق توقعاته وقدرته على كشف انحرافات الصورة المسرحية عن حقيقتها الواقغية والتاريخية ونراوغتها انتصارا للحقيقة الفنية ودهشته من ذلك الانحراف .
- الناقد يحقق الجمال داخل ذاته بتحليل أو تفكيك نسق العرض وخطابه ليعكس القيم الفرجوية الإمتاعية والفكرية الإقناعية على وعي المتلقين بالقراءة قبل الفرجة غلى العرض المسرحي وبعدها بقدرته على إعطاء المتفرج أسبابا مقنعة لاستماعه بالعرض وإقناعه بمقولاته أو بما في الغرض من فجوات .
# تقدير الصورة الجمالية:
يختلف تقدير الصورة الجمالية فيتفرع في أربعة وجهات نظر أساسية - إذا أغفلنا نظرة فرويد الذي يرفض وجود ما يسمي بالجميل ؛ وهو ما أرى انه يترك تقدير ذلك لذات المتلقي وهو ما يعني عدم وجود ما يمكن أن يسمي جميلا أو قبيحا قبل تقدير تان المتلقى للتعبير أو للصورة -
# مستويات تقدير الجمالي : تفرعت مستويات التقدير إذن في أربع وجهات ؛ على النحو الآتي :
- وجهة ذاتية خاصة بذات المتلقي ( ثقافته وحالته النفسية والمزاجية ) فالدنيا والقبيح يكون كذلك وفق تقدير ذات المتلقى .
- وجهة موضوعية خاصة بتقدير المتلقي لموضوع الصورة أو التعبير الأدبي أو الفتي .
- وجهة تتعلق بتقدير المتلقي لشكل الصورة أو التعبير الفني أو الأدبي .
- وجهة تتعلق بمادة التصوير أو التعبير ؛ وهي وجهة خاصة بالمبدع في تقديره للمادة التي يتخيرها لتشكيل منتجه الإبداعي ؛ سواء أكانت مادة طبيعية أم كانت مادة مصنوعة أم كانت كلمات ؛ مثالها في رباعية صلاح جاهين :
" مرغم عليك واصبح معصوب ياليل
لا دخلتها برجلين ولا كان لي ميل
دخلت أنا للحياة شايفني شيل
وخرجت منها شايفني شيل "
-لاحظ كلمة " مرغم " فهي كلمة مركبة من كلمتين :
( المر) و( الغم ) وموطن الجمال في اشتمال كلمة واحدة على كلمتين لهما معنى واحدا فالغم هو القتامة والمرارة هو الشعور بالضيق بشئ ما والمغموم والممرور كلاهما يشعر بعدم الرضا عما يشعران به ؛ فما البال إذا اجتمع الشعور بالمرارة التى تصيب المرء بالغمة فتظهر الكآبة والحزن عليه وذلك بسبب اكتشاف الفنان لتبادل معنيين في كلمة واحدة هي " مرغم".
- ولاحظ جمالية الشكل في نسق الرباعية ، وفي أسلوب التكرار اللفظي مع تضاد الهدف من حركة الشيل دخولا للحياة واشتقاقات الصورة المستعادة عبر ذهن المتلقى لصورة حمل المولود في دخوله عالم الحياة محمولا بين ذراعي أمه بين فرحة الأهل ؛ واستعادة صورة حمله على محفة الموت حملا جماعيا حزينا ؛ فالترادف اللفظي في " شايليني شيل " ملازما للتناقض المعنوي في " دخلت ، خرجت " فالجمالية في وحدة البنية الفنية من خلال تكرار المترادف اللفظي ، متضافرا في نسق البنية مع تكرار المتناقض اللفظي في بداية الرباعية "مرغم ومغصوب" و"شايلني شيل " في حالة الدخول روحا في جسد والخروج جسدا بلا روح ؛ بين انعدام إرادة الوجود والحياة عند الإنسان مولودا وإنعدام إرادة فقده لتلك الحياة التي دخلها جبرا في كلا الحالين بعد أن صنع جوهر وجوده أو ساهم في صنعه خلال حياته- بوصفه إنسانا وجوديا -
## الجمالية بين الدرامية والدرامية الملحمية :
هل تختلف جمالية التعبير في المسرح الملحمي عنها في المسرح الدرامي الكلاسيكي أو الرومنتيكي أو الواقعي أو الرمزي أو العبثي أو السيرياليى، آو التعبير المسرحي المسقبلي ؟ أقول : نعم فاختلاف أنساق البناء الدرامي وتقانيات الأسلوب من نزعة أو مدرسة مسرحية وأخرى ينتج تباينا في الشكل وفي
خاصة مع اختلاف الهدف ما بين التطهير والتغيير .
فالصورة في المسرحية الملحمية لكي تجسد فكرة التغريب تجمع بين نقيضين هما ( الرائع والمشوه) - وفق نظرية برتولت برشت عن التغريب- أي ما هو جميل وما هو قبح معا في وحدة الصورة المسرحية ؛ وليست الصورة الدرامية التقليدية هكذا تماماً ؛ فقد تكون بين الصورة الدرامية والصورة الدرامية عناصر مشتركة .
ففي المرحلة الملحمية في إبداع برشتةالمسرحي ؛ تعتمد الصورة المسرحية على الديالكتيك ( المادية الجدلية) بوضع صورتين أو معنيين متناقضين وجها لوجه أي في حالة مواجهة غير مباشرة أمام المتلقي ؛ كما في لقاء ( جروشا) بحبيبها (سايمون) العائد من الحرب وكل منهما على جانب من جانبي ترعة نثرت على حافتي مياهها جثث الجنود القتلى من طرفي مواجهة قتالية بين فريقين ؛ الرائع الجميل متمثل في لقاء الحبيبين بعد غياب وفيما وراء ذلك اللقاء من أمل في ارتباط زوجية يعيشان به معا حياة آمنة في سلام
أما التشويه والقبح فيتمثل في طريقة اللقاء غير العادية حيثةتنتفي حميمية اللقاء بسببةالمسافة التبعيدية التي رسم بها برشت صورة اللقاء حيث المعتاد أن يكون اللقاء حميميا باحتضانه الحبيبين كلاهما للآخر ؛ غير أن اللقاء منزوع الحميمية ؛ تحقيقا لحالة التغريب ؛ التى تهمش مسألة تعاطف المتلقي مع الحبيبين المتعطشين للحب. ومن ناحية أكثر دلالة على التشويه التغريبي المقصود للقاء الحبيبين بعد غياب الحبيب (سايمون) في الحرب ، ماثل في وجود جثث الجنود على حافتي الترعة وفي مائها وهو رمز جريان الحياة ؛ وهنا يضع برتولت بريت في تلك الصورة المسرحية التغريبية فكرة ( الأمن والسلام) - المأمول الذي لا يقوم بدونه استقرار أسري أو اجتماعي - في مواجهة صور ماض قبيح ناتج عن الحروب .
وهنا يضع برشت المتلقي في وضع اتخاذ موقف - تبعا لنظرية التغريب الديالكتيكي- التى أفقدت الإنسان حقه في تقرير مصيره وفي امتلاكه لإرادته مسؤولا عن فعله ومتحكما فيما وسائل حياته ؛ فإما أن يكون مع السلام الاجتماعي والعالمي وإما يكون مع الحرب والدمار .
فإذا طلبنا الجمالية في صورة رومنتيكية في الموقف الغرامي الرومنسي بين روميو وجولييت فسنجد روعة الغزل البكر الذى لا يؤخذ بعض انحراف تعبير العاشق فيه عن المألوف أو ما ينسبه إلى التشويه :
" روميو: إذا كانت يدي الحقيرة قد مست تلك الكعبة المقدسة ودنستها ؛ وهذا إثم رقيق ؛ فإن شفتيى وهما تحجان إلى هذه الكعبة قد علتهما حمرة الخجل ، وهما على استعداد لإزالة اللمسة الخشنة بقبلة ناعمة .
جولييت : أيهاىالحاج الكريم ، إنك تظلم يدك كثيرا ؛ فلم أر منها إلا الإخلاص في العبادة والطهر والصفاء فإن أيدى الحجاج تلمس أيدي القديسات ؛ وفي تلامس الراحتين قبلة حج مقدسة .
روميو : أليس القديسات شفاها مثل شفاه الحجاج ؟
جولييت : نعم أيها الحاج .. شفاهىلا عمل لها إلا
الصلاة .
روميو : إذن أيتها القديسة العزيزة ؛ فلتؤد الشفاة
عمل الأيدي . إن شفاهي تصلي الآن
فاستجيبي لصفاتها وإلا ضاع إيماني و
ويئست .
جولييت : ولكن القديسات لا تتحرك ؛ حتى ولو
استجابت لدعوات المصلين .
روميو : إذن لا تتكرمي حتى أنال ثواب صلاتي ؛
فسوف تمسح شفتاك الخطيئة عن شفتي
(يقبلها) .
جولييت : إذن فقد انتقلت تلك الخطيئة إلى شفتي.
روميو : من شفتي أنا ؟ ما أعرب الإثم الذي تدعين
إليه ؛ ردي إلى خطيئتي . "
( وليم شكسبير، روميو وجولييت، ف ١، م٤. الأبيات من البيت ٢٥- البيت ١١٢)
من يقول إن هذا الموقف الدرامي الغزلي خاليا من إحراف في نسق هذا المشهد وفي خطابه !!
إن الإبداع الحقيقي لايحقق حالة الإمتاع والإلتذاذ دون قصدية المبدع إلى شئ من الإنحراف عما هو تقليدي ومعتاد في رسم الصورة أو التعبير الفني .
وشكسبير في تصويره الدرامي لهذه النسجية الغزلية الدرامية يشوه معنى القداسة ؛ غير أن روعة التعبير هناىكامنة في أنه يعطينا لونا جديدا للقداسة التي هي من ابتكاره ؛ فهو يعيد تصوير القداسة على صفحة ذهن المتلقي فوق صورتها القديمة التي رسخت عنده بالتواتر وحكم العادة ؛ حيث القداسة مرتبطة بالعبادة والصلوات ؛ غير أن رسم شكسبير هنا رسم جديد ناصع ومشرق على رسم تقليدي باهت لصورة القداسة
رسم التواصل العاطفي في هذا الموقف الغزلي بوصفه صلاة محبين كل منهما للآخر . وهذا تشويه لفكرة القداسة وللمرة الصلاة ؛ والغرائبية فيه ؛ في كونه يعطينا لونا آخر للقداسة ولونا آخر للصلاة .. صلاة نزق وضلال عن صلاة العبد لربه من هنا كانت
الصورة تشويها وفي الآن نفسه كانت روعة ؛ فقد ضمت الجمال والقبح ؛ جمال عند متلقي الشكل ؛ مع اختلاف القيمة عند متلقي المضمون ؛ فمن المتلقين من يرى جمالية في المضمون ئ، ومنهم من يجده قبيحا وربما يحمل تجديفا فيما هو مقدس وفق التراتبية الثقافية .
وهكذا استبق شكسبير برتولت برشت إلى نسجية التعبير الدرامي المحبوك بخيوط لحمة الروعة وسدى التشويه ؛ دون حاجة إلى استقراء " أورجانون كبير" أو إلي استذكار " أورجانون قصير "
وهذه النقطة الجديدة التي توصلت إليها في مقالتي البحثية تلك حول إطار جمالية الفنون مع إنها بمثابة إضافة في حقل البحث المسرحي المتوج لفن المسرح بإطار المنهج العلمي إلا إنني أراها كشفا لماةيطلق عليهةخبراء المرور بالنقطة العمياء التي لاةيرى عندها سائق المركبة المركبة التي تسرع منةخلف مرحلته . وفي البحوث والدراسات ، كما في المنتج الإبداعي ماةهو نقطة عمياء يمر عليها المبدع مرور الكرام دون أن وبصرها ؛ فيأتي أحد آخر يقرؤه فتلفت نظره ليبني عليهاةهدا فكريا أو إبداعيا جديدا ومبتكرة يضيف إلى ما سبق أو يعيد كتابتهةمن جديد .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى