بيني وبين الرسائل حكاية عمْر وشوق كامن في الورق لا يعتق، وإن آل الورق إلى عِتْق وشحوب دهري. بعض الرسائل أخذتْها الرياح مني، على حين غفلة، وأخرى غافلتُها – أنا نفسي – فألقمتُها البحر أو النار. رسائل أخرى ذابت، مع الوقت، مع تبدّل المدن، وتبدل البيوت، وتبدّل الأمزجة.
وإذا كان ثمة احتمال، ولو قليل جداً، أن يكون الأمر له علاقة بالدماء العاطفية الحارة المتوارثة، فأنا أنحدر من عائلة شكّلت الرسائل – وما زالت – جزءاً بنيوياً من وجودها النفسي والعاطفي.
كنتُ في أول خلْقي حين تلقيتُ أول رسالة خُطَّت من أجلي. كتبها جدّي لي حين وصلته صورتي وأنا في الشهر الخامس من عمري، بدسامة حليبيّة مكدَّسة في جسدي الخروفي وعضاضة الأسنان في فمي. انتظرتُ عشرين عاماً قبل أن أفتح الرسالة، بناء على وصية جدي، لأقرأ كلماته التي حاكها بحبر أزرق سائل على ورق فلوسكاب لحقَه الترقّق والاصفرار وغبرة الوقت في مخبئه طيلة عقدين من الصبر. تمنّى جدّي لي – أنا أولى حفيداته – طول الحياة، حلوها ويسرها وسلاستها، تمنى لي الأمل والعلم. تمنى لي أعظم الأمنيات: الحب؛ مستشهداً بعلاقة الحب التي جمعت والديّ. أرادني أن أقع في "الغرام" وقعةً غير مؤلمة، كأنه كان يستشرف أنني سأجمعُ حطام حبّي بعد سنوات! كان جدي قد مات حين استلمتُ رسالته، فلم يتسنَّ لي أن أكتب له. لكن حبره الذي يشبه عينيه الزرقاوين الداكنتين ظل يسندُ قلبي.
ويبدو أن الرسائل شيء عظيم دائماً. أدركتُ ذلك لاحقاً، إذ لطالما حاصرتني غبطة الزملاء وحسدهم المبطَّن حين كانت الرسائل تهب عليّ هبوباً عاطفياً، ناعماً حيناً وعاصفاً في أحايين كثيرة. لم يكن الزملاء يقرأون رسائلي، لكنّهم كانوا يقرأون تأثيرها في وجهي، في ضحك عيني، في مراوحتها بين الاتساع والضيق، وفي بكائها المخنوق. وكنت أشعر بهم يودّون جداً التلصص على الكلمات التي تأتيني بخطوط متلونة المشاعر، لكن اللباقة المصطنعة تردعهم عن التطفل. كنت حديثة العهد في العمل الصحفي في جريدة عربية عندما خالف زملائي بروتوكول الزمالة القاضي بتجنب الخوض في الشخصي حينما وضع المراسل مكتوباً أزرق يحمل طابعاً بريدياً فوق مكتبي. باعترافهم، لفتهم الخط المبالغ في رسمه. على ظهر المكتوب لاحت أربعة سطور مستقيمة بالرصاص الفاهي؛ كتُب على السطر الأول اسمي الرباعي بحروف "نسخية" الطابع، مع بعض التشكيل المنمَّق. تلاه على السطر الثاني اسم الصحيفة ورقم صندوق البريد ورمز المنطقة، فيما ارتكز على السطر الثالث اسم الدولة واسم المدينة، وجاءت في السطر الرابع عبارة: (شكراً لساعي البريد). كان الخط دليلي إلى كاتب الرسالة، فأضاءت عيناي. اقترب الزملاء غير قادرين على لجم فضولهم. تفتحت عيونهم على استفسار جلي. "رسالة من جدّتي"، أجبتهم.
منذ ذلك اليوم، "علا شأني" وسط الزملاء و"تعلّت مراتبي"، أحدهم طلب القهوة "على حسابه" للموظفة التي تردها رسائل من جدتها، وآخر دار بالظرف المغلق على مكاتب الزملاء في الأقسام الأخرى، حتى صارت سيرة "الزميلة التي تكتب لها جدتها رسائل" على كل لسان. (بل إن البعض جاء "يتفرّج" عليّ!)
لكن عصر الرسائل "الورقية" انقضى حين راح بيتي ومكتبي وشارعي في حرب مباغتة. ولّى عصر الرسائل بالنسبة إليّ قبل أن تقصيه الإيميلات قسراً. أنقذتُ ما استطعتُ من الرسائل، ظللتُ لسنوات أحملها معها في مدنٍ شتّى أوتْني مرغمة. في الطريق، سقط بعضها، وفي أوقاتِ العمر المُرّة والمريرة أحرقتُ بعضها الآخر، دون أن يتمكن سيل الدموع الذي جرف عواطف الأيام الراحلة من إطفائها.
لسنوات، ظللتُ أحنُّ إلى رسائلي البهية. كدتُ أعترفُ بانقراضها أخيراً، حين استدعيتُها ذات عاطفة متقدة. استدعيتُ الخطوط البعيدة، المتعجِّلة والمتمهِّلة، واستدعيتُ المكاتيب الزرقاء، المربعة والمستطيلة، يوم فارقتني ابنتي تطلب العلم والحياة بعيداً عني. فقد ابتكرتُ كتابةً خاصة لها؛ رسائل أطلق عليها "تقارير عائلية" أو عاطفية، تتراوح بين ألف وألف وخمسمائة كلمة للرسالة الواحدة، أكتبها لها بمعدل مرة في الأسبوع وأرسلها لها عبر البريد الإلكتروني الشخصي، متعكزةً على خط "كمبيوتري" غير جامد وغير فظ، أودعُ فيها كل ما يعنّ على بالي من أفكار وحكايات ومشاهد وتعليقات ونميمة ثرية وحب ووله وعتب أحياناً. قد يحدث أنْ أتأخّر في إرسال رسالتي الأسبوعية التي تنتظرها، جراء ضيق اليوم ومشاغل الحياة، فتكتب لي ابنتي "زعلانة" لأنني تأخرتُ عليها: "وين رسالتك يا ماما؟" تقول لي إن رسالتي أجمل الأشياء التي تدفئ وحدتها. فأنكبّ على الكمبيوتر، أفتح صحفةً بيضاء، وأكتب لها. أكتب لها كثيراً، أكتب لها بلا ملل أو تعب. أعرف أن "صندوقها البريدي" ينتظر بهاء الكلمات المسافرة؛ ينتظر رسائلي على أحرّ من الشوق.
دبي الثقافية – ديسمبر / كانون الأول 2013
وإذا كان ثمة احتمال، ولو قليل جداً، أن يكون الأمر له علاقة بالدماء العاطفية الحارة المتوارثة، فأنا أنحدر من عائلة شكّلت الرسائل – وما زالت – جزءاً بنيوياً من وجودها النفسي والعاطفي.
كنتُ في أول خلْقي حين تلقيتُ أول رسالة خُطَّت من أجلي. كتبها جدّي لي حين وصلته صورتي وأنا في الشهر الخامس من عمري، بدسامة حليبيّة مكدَّسة في جسدي الخروفي وعضاضة الأسنان في فمي. انتظرتُ عشرين عاماً قبل أن أفتح الرسالة، بناء على وصية جدي، لأقرأ كلماته التي حاكها بحبر أزرق سائل على ورق فلوسكاب لحقَه الترقّق والاصفرار وغبرة الوقت في مخبئه طيلة عقدين من الصبر. تمنّى جدّي لي – أنا أولى حفيداته – طول الحياة، حلوها ويسرها وسلاستها، تمنى لي الأمل والعلم. تمنى لي أعظم الأمنيات: الحب؛ مستشهداً بعلاقة الحب التي جمعت والديّ. أرادني أن أقع في "الغرام" وقعةً غير مؤلمة، كأنه كان يستشرف أنني سأجمعُ حطام حبّي بعد سنوات! كان جدي قد مات حين استلمتُ رسالته، فلم يتسنَّ لي أن أكتب له. لكن حبره الذي يشبه عينيه الزرقاوين الداكنتين ظل يسندُ قلبي.
ويبدو أن الرسائل شيء عظيم دائماً. أدركتُ ذلك لاحقاً، إذ لطالما حاصرتني غبطة الزملاء وحسدهم المبطَّن حين كانت الرسائل تهب عليّ هبوباً عاطفياً، ناعماً حيناً وعاصفاً في أحايين كثيرة. لم يكن الزملاء يقرأون رسائلي، لكنّهم كانوا يقرأون تأثيرها في وجهي، في ضحك عيني، في مراوحتها بين الاتساع والضيق، وفي بكائها المخنوق. وكنت أشعر بهم يودّون جداً التلصص على الكلمات التي تأتيني بخطوط متلونة المشاعر، لكن اللباقة المصطنعة تردعهم عن التطفل. كنت حديثة العهد في العمل الصحفي في جريدة عربية عندما خالف زملائي بروتوكول الزمالة القاضي بتجنب الخوض في الشخصي حينما وضع المراسل مكتوباً أزرق يحمل طابعاً بريدياً فوق مكتبي. باعترافهم، لفتهم الخط المبالغ في رسمه. على ظهر المكتوب لاحت أربعة سطور مستقيمة بالرصاص الفاهي؛ كتُب على السطر الأول اسمي الرباعي بحروف "نسخية" الطابع، مع بعض التشكيل المنمَّق. تلاه على السطر الثاني اسم الصحيفة ورقم صندوق البريد ورمز المنطقة، فيما ارتكز على السطر الثالث اسم الدولة واسم المدينة، وجاءت في السطر الرابع عبارة: (شكراً لساعي البريد). كان الخط دليلي إلى كاتب الرسالة، فأضاءت عيناي. اقترب الزملاء غير قادرين على لجم فضولهم. تفتحت عيونهم على استفسار جلي. "رسالة من جدّتي"، أجبتهم.
منذ ذلك اليوم، "علا شأني" وسط الزملاء و"تعلّت مراتبي"، أحدهم طلب القهوة "على حسابه" للموظفة التي تردها رسائل من جدتها، وآخر دار بالظرف المغلق على مكاتب الزملاء في الأقسام الأخرى، حتى صارت سيرة "الزميلة التي تكتب لها جدتها رسائل" على كل لسان. (بل إن البعض جاء "يتفرّج" عليّ!)
لكن عصر الرسائل "الورقية" انقضى حين راح بيتي ومكتبي وشارعي في حرب مباغتة. ولّى عصر الرسائل بالنسبة إليّ قبل أن تقصيه الإيميلات قسراً. أنقذتُ ما استطعتُ من الرسائل، ظللتُ لسنوات أحملها معها في مدنٍ شتّى أوتْني مرغمة. في الطريق، سقط بعضها، وفي أوقاتِ العمر المُرّة والمريرة أحرقتُ بعضها الآخر، دون أن يتمكن سيل الدموع الذي جرف عواطف الأيام الراحلة من إطفائها.
لسنوات، ظللتُ أحنُّ إلى رسائلي البهية. كدتُ أعترفُ بانقراضها أخيراً، حين استدعيتُها ذات عاطفة متقدة. استدعيتُ الخطوط البعيدة، المتعجِّلة والمتمهِّلة، واستدعيتُ المكاتيب الزرقاء، المربعة والمستطيلة، يوم فارقتني ابنتي تطلب العلم والحياة بعيداً عني. فقد ابتكرتُ كتابةً خاصة لها؛ رسائل أطلق عليها "تقارير عائلية" أو عاطفية، تتراوح بين ألف وألف وخمسمائة كلمة للرسالة الواحدة، أكتبها لها بمعدل مرة في الأسبوع وأرسلها لها عبر البريد الإلكتروني الشخصي، متعكزةً على خط "كمبيوتري" غير جامد وغير فظ، أودعُ فيها كل ما يعنّ على بالي من أفكار وحكايات ومشاهد وتعليقات ونميمة ثرية وحب ووله وعتب أحياناً. قد يحدث أنْ أتأخّر في إرسال رسالتي الأسبوعية التي تنتظرها، جراء ضيق اليوم ومشاغل الحياة، فتكتب لي ابنتي "زعلانة" لأنني تأخرتُ عليها: "وين رسالتك يا ماما؟" تقول لي إن رسالتي أجمل الأشياء التي تدفئ وحدتها. فأنكبّ على الكمبيوتر، أفتح صحفةً بيضاء، وأكتب لها. أكتب لها كثيراً، أكتب لها بلا ملل أو تعب. أعرف أن "صندوقها البريدي" ينتظر بهاء الكلمات المسافرة؛ ينتظر رسائلي على أحرّ من الشوق.
دبي الثقافية – ديسمبر / كانون الأول 2013