الدكتورة خديجة زتيلـي - المقاومة بالفنّ

في عام 1987 انتهتْ حياة رسّام الكاريكاتور الفلسطيني ''ناجي العلي'' بمسدّس كاتم للصوت في أحد شوارع لندن. فقد كانت رسومات العلي تحكي قضيّة فلسطين وتفضح الظُلم وفجيعة الفقدان ومعاناة الشعب الكبيرة، ما جعل الناس تتفاعل مع رُسومات العلي وتنتظرها بشغف كبير في الصحف التي كان ينشرُ فيها آنذاك. كان ''حنظلة'' الطفل صاحب العشرة أعوام المعقوف اليدين إلى الوراء هو الشخصيّة الرئيسيّة في تلك الرسومات الكاريكاتوريّة، وله دلالة ورمزية عند العلي يلخّص من خلاله الكثير من القضايا الوطنيّة والسياسيّة، ولعلّ إحداها انتكاسة الوعي العربي بعد هزيمة 1967 التاريخيّة، وفضلا عن شخصية حنظلة الشهيرة التي ظهرتْ لأوّل مرّة في عام 1969 في جريدة ''السياسة الكويتية'' ظهرت رسومات أخرى للعلي في جريدة ''القبس الكويتيّة'' لاحقا، وهي لا تقلّ أهميّة عن حنظلة في رمزيتها ومعانيها مثل شخصية فاطمة التي ترمز إلى المرأة الفلسطينية الصامدة الصابرة القويّة وشخصية الرجل السمين الذي يرمز للقيادات السياسية الفلسطينية المنبطحة، وشخصيّة الجندي الإسرائيلي القاسي، وغيرها من صوّر الكاريكاتور الأخرى المتقنة الصنع والإخراج التي تنتقد الواقع بإيجاز ومهارة فائقة. وللإشارة فإنّ العلي كان قد رسمّ قبل ذلك بسنوات ابتداء من 1961، وقبل انتشاره إعلاميا. ولأنّ الفنان كان رمزا للنضال والمقاومة وأصبح يقضّ مضاجع من أزعجتهم تلك الرسومات، تمّتْ تصفيتهُ ليصمت إلى الأبد. لكن العلي مضى وانصرفَ عن دنيانا لتبقى رسوماته وسيرته النضاليّة تُذكّرنا بأنّ الفنّ هو أيضا وسيلة ناجعة وفعالة للمقاومة رغم أنّها محفوفة بالمخاطر.
تتطرّق هذه الورقة إلى موضوع الفنّ بوصفه وسيلة للمقاومة والنضال السياسي، كما هو الشعر والغناء والمسرح والنحت والرسم والكتابة، أدوات فعالة للقول والفعل. فباستطاعة الفنّ، بشكل عام، أن يُغيّر العالم بدءا من رصد وجهه البائس والقبيح وانتهاء بتضمينه لرسائل إنسانيّة بليغة علّها تُدرك مقاصدها.
و في هذه المداخلة التي عنونتها ((المقاومة بالفنّ)) أحاول تناول خطوطها العريضة وحسب، مراعاة للوقت الذي يُسْمَحُ بهِ في هذا البَث الحيّ.
إنّ المقاومة بالفنّ هي طريقة حضاريّة لاستمرار الحياة والانتصار على إكراهات المرحلة التاريخيّة التي تجعل البشر في ضيق كبير، فالفنّ بوصفه رسالة نبيلة يساهم في تحرير الذات من عذاباتها الداخليّة ويرأب الصدع بينها وبين العالم الخارجي أو المجتمع. وكم من مرّة كان فيها الفنّ بتعبيراته العميقة أقوى من السلاح وأشرس منه في فضح الظُلم والقَهر والطُغيان بطريقة سلميّة، ولعلّ ريشة العلي الساحرة والساخرة المتمكّنة من أدواتها تفوّقتْ في هذا الأمر وأحاطتْ قضاياه التي دافع عنها وارتبط بها بهالة من الاهتمام من لدن الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء.
ولأنّ الفنّ يحيا في العمل الفني كما استفاض هايدجر في شرح ذلك في كتابه ''أصل العمل الفنّي''، فإنّه لا يزول ولا يبلى ففنّ العليّ يستقر بحمولاته النضالية في رسومات الكاريكاتور كوثيقة تاريخيّة وفنيّة وجماليّة تُذكّرنا بعد سنين من رحيل الرجل بأنّ قضيّة فلسطين لا يمكنها أن تُطوى ما لم تُعالج معالجة سياسيّة عادلة وصادقة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وعلى الرغم من أنّ فنّ الكاريكاتور يُقدَّم في كلّ مرّة في قوالب إبداعيّة تهكميّة، إلاّ أنه يندرج ضمن السخريّة التي تسعى إلى إيقاظ الضمير الإنساني وتحريك مواجع القلب وتذكير الظالم بجرائمه. فبعمق الفجيعة رسم العليّ عاريا من كلّ انتماء إلاّ لقضيته التي أخلص لها والتي تُلَخِّص عدالة قضيته وأوجاع شعبه وتستمع إلى أنين الأمّهات على فقد الأحبّة بحسرة كبيرة. وقد صار هذا الفنّ - ومن دون أن يخطّط العليّ لذلك - من أهمّ أساليب المقاومة الفنيّة في فلسطين بعد أن بلغتْ رسوماته الكاريكاتورية ''أربعين ألف رسمة مختلفة'' طارت بالقضية إلى كلّ أرجاء العالم فسار على خطاه الكثيرين.
وفي البلاد العربيّة كان الشرفاء والمقاومون يستلهمون المعنى في يومياتهم من رسومات العليّ ولا غرابة إذا كان الشاعر العراقي ''أحمد مطر'' يضع في كلّ مرّة رسمة من رسومات العلي إلى جانب قصيدة من قصائده الشعريّة احتفاء بها من جهة وتأييدا وتأكيدا على شرف النضال وشرعية المطلب من جهة أخرى، ليكون هذا الفعل الثقافي دِلالة على أنّ الفنّ هو وسيلة من الوسائل الناجعة للمقاومة التي بإمكانها إعادة صياغة التاريخ وكتابته، سواء أكانت تجلياته شعرا أو رسما أو كاريكاتورا أو أيّ تعبير فنيّ آخر)).
د. خديجة زتيلي
  • Like
التفاعلات: جوهر فتّاحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى