ما كان يحدث لهم ، لم يكن قط يدعوهم إلى الحيرة !!
هنا فى هذه البلدة الصغيرة كل ما حدث اليوم ، كان قد حدث بالأمس ، وسوف يحدث غداً.
*
فى الصباح يقبل بائع اللبن ، يترك زجاجاته الممتلئة أمام كل دار من دور البلدة ، ليأتى من بعده بائع الخبز محملا بأرغفته الشهية، الساخنة.
ظل هذا يحدث لعهود طويلة؟
إلى أن استيقظ ذات يوم سكان البلدة فلم يجدوا زجاجات اللبن ولا أرغفة الخبز !!
ولما كان ما قد حدث بالأمس، لم يحدث اليوم ، فإنهم انتظروا لعله قد يحدث باكراً ، ولكنهم فى الغد لم يجدوا أيضاً أى شئ ، ولأن هذا وعلى غير العادة يحدث لأول مرة فقد جعلوا يتساءلون عن سر هذا الاختفاء العجيب لللبن والخبز ...
وبعد مضى عدة أيام والجوع يقرص أحشائهم ، شرع البعض يهمهم همهمات غير مفهومة .
بيد أن حكماء البلدة قرروا فى عجالة عقد اجتماع طارئ، خشية أن تنتشر هذه الهمهمات فى الأنحاء ، والخوف كل الخوف ليس من الجوع أو الحاجة، بل من أن تتحول هذه الهمهمات إلى كلمات مفهومة ، واضحة مسموعة .
وفى هذا الاجتماع الذى قلما يحدث إلا لأمر جلل ....
استوى كبيرهم فى جلسته ، ثم قرر استدعاء بائعى اللبن والخبز لسؤالهما عن سر ما يحدث !
و حين حضر البائعان أكدا أنهما لم يقصرا يوماً فى أى شئ فهما لازالا على نفس عاداتهما ، حيث يضعا كل صباح حصة كل عائلة أمام كل باب من الأبواب الموصدة ...
احتار الحكماء ، شرعوا هم أيضاً فى الهمهمة ، الأمر الذى دفع بكبيرهم إلى نهرهم بشدة مع قراره الملزم بأن يراقبوا كل دار من دور البلدة ، على أن يعودوا جميعاً إلى بيوتهم، ويحكموا غلق أبوابها جيداً، وعلى من يخالف التعليمات أن يتحمل عاقبة فعله .
*
ناموا جميعاً ...
وعند شروق الشمس كانت الأعين المتلصصة ، ترقب ما يحدث ، إلى أن داهمتهم المفاجأة ...
غريب طاعن فى السن ، ذو وجه أسود ذابل ، أصلع تماماً ، أحدب الظهر، أعور العين ، يرتدى ملابس رثة مهلهلة
.... هذا الغريب هو من يقوم بالمرور على كل دور الحى ليجمع زجاجات اللبن وأرغفة الخبز !!!
*
اجتمع حكماء البلدة ...
احتاروا فى أمر هذا المخلوق العجيب ، رجح بعضهم كونه ينتمى إلى عالم الجن أوالشياطين ، سيطر الذعر على الجميع ، فلم يجروء أى واحد منهم على منعه مما يفعل ، تفاقمت الأزمة ، أوشك البعض على الهلاك جوعاً ،
وعلى حين غرة قرر شجعان البلدة على ندرتهم أن يراقبوا هذا المسخ ،
ومع خوفهم المترسب فى أعماقهم منذ ألاف السنين ، ساروا خلفه متسترين بكل حائط أو شجرة أو حتى جذع نخلة عتيق ....
وبعد مشوار طويل وسقوط العشرات منهم من أثر التعب، استطاع كبير الشجعان أن يبصره، وهو يدلف فى فتحة صغيرة إلى قاع الأرض !!
تأكدوا جميعاً، حتى كبير حكمائهم أنه بالفعل شيطان رجيم ، يهبط ويصعد حينما يشاء من أعماق الأرض التى هى فى نظرهم حتماً مقر للجان والعفاريت .
*
لبثوا جميعا ً، فى بيوتهم ، والذعر يملأ قلوبهم ، ولكن بكاء النسوة والعجائز وموت الأطفال جوعاً جعل حكماء البلدة يجتمعون للمرة الثالثة ،
وبعد عدة ساعات من المداولات العقيمة كان قرارهم بأن يغامروا بكبير الشجعان ، الذى استطاع بالفعل أن يقتحم حفرة هذا الغريب ليفاجأ بمئات الأطفال العرايا إلا بما يستر عوراتهم ...
كان مشهداً غريباً عجيباً ...!!
وقف كبير الشجعان أمام المسخ وهو يرتعد خوفاً ، إلا أنه تمالك نفسه بصعوبة وهمس متسائلاً : كيف أتيت بكل هؤلاء الاطفال؟
نظر المسخ إليه بعينه الواحدة ، ووجهه المشوه ثم قال فى قوة عصفت بكيان الشجاع :
إنهم أطفالكم ...
نعم أطفالكم .
كاد كبير الشجعان أن يغشى عليه من الذعر، حين اقترب منه المسخ وهو يستطرد بصوته الذى يشبه فحيح الأفعى :
كل بيت لكم له عندى خطيئة وطفل .
تمتم كبير الشجعان مشدوهاً :
أطفالنا ...خطايانا....نحن !!
صاح المسخ صيحة جعلت كبير الشجعان يبول على نفسه رعباً :
نعم أطفالكم وخطاياكم انتم جميعا ... وأنا من جمعها من على قارعة الطريق .
*
سادت الفوضى أرجاء البلدة الصغيرة ، وتعالت الهمهمات حتى تحولت إلى أصوات مفهومة ، مسموعة ، عندئذ قرر كبير الحكماء أن يتجه كل سكان البلدة إلى هذه الحفرة العميقة ، ليتعرفوا على أطفالهم، الذين خرجوا من الحفرة ليصطفوا فى طابور طويل ، إلا أنهم جميعاً كانوا عمياناً خرساً ذوى ملامح واحدة متشابهة !!
فى مشهد مهيب رهيب ، وهم جميعاً تحت شمس الظهيرة ، يقفون فى طابور طويل ، يتقدمهم المسخ الذى لازال مرعباً، ليمر كل رجل من رجال البلدة أمام كل واحد من هؤلاء الأطفال ،
ولكنه لا يعرف أيهما ابنه ...أيتها خطيئته !!!
عادوا جميعاً يجرجرون أذيال الخيبة يتقدمهم حكيمهم العجوز وكبير شجعانهم ...
رجعوا إلى بيوتهم ، بينما ارتد طابور الأطفال إلى جحره .
فى صبيحة اليوم التالى ......
لم يقم المسخ بجمع اللبن والخبز ، وإنما كان صاحب كل دار من دور البلدة يقوم بنفسه بوضع نصيبه من اللبن والخبز أمام حفرة المسخ العميقة.
* عن نادي القصة السعودي
شريف محيي الدين إبراهيم
هنا فى هذه البلدة الصغيرة كل ما حدث اليوم ، كان قد حدث بالأمس ، وسوف يحدث غداً.
*
فى الصباح يقبل بائع اللبن ، يترك زجاجاته الممتلئة أمام كل دار من دور البلدة ، ليأتى من بعده بائع الخبز محملا بأرغفته الشهية، الساخنة.
ظل هذا يحدث لعهود طويلة؟
إلى أن استيقظ ذات يوم سكان البلدة فلم يجدوا زجاجات اللبن ولا أرغفة الخبز !!
ولما كان ما قد حدث بالأمس، لم يحدث اليوم ، فإنهم انتظروا لعله قد يحدث باكراً ، ولكنهم فى الغد لم يجدوا أيضاً أى شئ ، ولأن هذا وعلى غير العادة يحدث لأول مرة فقد جعلوا يتساءلون عن سر هذا الاختفاء العجيب لللبن والخبز ...
وبعد مضى عدة أيام والجوع يقرص أحشائهم ، شرع البعض يهمهم همهمات غير مفهومة .
بيد أن حكماء البلدة قرروا فى عجالة عقد اجتماع طارئ، خشية أن تنتشر هذه الهمهمات فى الأنحاء ، والخوف كل الخوف ليس من الجوع أو الحاجة، بل من أن تتحول هذه الهمهمات إلى كلمات مفهومة ، واضحة مسموعة .
وفى هذا الاجتماع الذى قلما يحدث إلا لأمر جلل ....
استوى كبيرهم فى جلسته ، ثم قرر استدعاء بائعى اللبن والخبز لسؤالهما عن سر ما يحدث !
و حين حضر البائعان أكدا أنهما لم يقصرا يوماً فى أى شئ فهما لازالا على نفس عاداتهما ، حيث يضعا كل صباح حصة كل عائلة أمام كل باب من الأبواب الموصدة ...
احتار الحكماء ، شرعوا هم أيضاً فى الهمهمة ، الأمر الذى دفع بكبيرهم إلى نهرهم بشدة مع قراره الملزم بأن يراقبوا كل دار من دور البلدة ، على أن يعودوا جميعاً إلى بيوتهم، ويحكموا غلق أبوابها جيداً، وعلى من يخالف التعليمات أن يتحمل عاقبة فعله .
*
ناموا جميعاً ...
وعند شروق الشمس كانت الأعين المتلصصة ، ترقب ما يحدث ، إلى أن داهمتهم المفاجأة ...
غريب طاعن فى السن ، ذو وجه أسود ذابل ، أصلع تماماً ، أحدب الظهر، أعور العين ، يرتدى ملابس رثة مهلهلة
.... هذا الغريب هو من يقوم بالمرور على كل دور الحى ليجمع زجاجات اللبن وأرغفة الخبز !!!
*
اجتمع حكماء البلدة ...
احتاروا فى أمر هذا المخلوق العجيب ، رجح بعضهم كونه ينتمى إلى عالم الجن أوالشياطين ، سيطر الذعر على الجميع ، فلم يجروء أى واحد منهم على منعه مما يفعل ، تفاقمت الأزمة ، أوشك البعض على الهلاك جوعاً ،
وعلى حين غرة قرر شجعان البلدة على ندرتهم أن يراقبوا هذا المسخ ،
ومع خوفهم المترسب فى أعماقهم منذ ألاف السنين ، ساروا خلفه متسترين بكل حائط أو شجرة أو حتى جذع نخلة عتيق ....
وبعد مشوار طويل وسقوط العشرات منهم من أثر التعب، استطاع كبير الشجعان أن يبصره، وهو يدلف فى فتحة صغيرة إلى قاع الأرض !!
تأكدوا جميعاً، حتى كبير حكمائهم أنه بالفعل شيطان رجيم ، يهبط ويصعد حينما يشاء من أعماق الأرض التى هى فى نظرهم حتماً مقر للجان والعفاريت .
*
لبثوا جميعا ً، فى بيوتهم ، والذعر يملأ قلوبهم ، ولكن بكاء النسوة والعجائز وموت الأطفال جوعاً جعل حكماء البلدة يجتمعون للمرة الثالثة ،
وبعد عدة ساعات من المداولات العقيمة كان قرارهم بأن يغامروا بكبير الشجعان ، الذى استطاع بالفعل أن يقتحم حفرة هذا الغريب ليفاجأ بمئات الأطفال العرايا إلا بما يستر عوراتهم ...
كان مشهداً غريباً عجيباً ...!!
وقف كبير الشجعان أمام المسخ وهو يرتعد خوفاً ، إلا أنه تمالك نفسه بصعوبة وهمس متسائلاً : كيف أتيت بكل هؤلاء الاطفال؟
نظر المسخ إليه بعينه الواحدة ، ووجهه المشوه ثم قال فى قوة عصفت بكيان الشجاع :
إنهم أطفالكم ...
نعم أطفالكم .
كاد كبير الشجعان أن يغشى عليه من الذعر، حين اقترب منه المسخ وهو يستطرد بصوته الذى يشبه فحيح الأفعى :
كل بيت لكم له عندى خطيئة وطفل .
تمتم كبير الشجعان مشدوهاً :
أطفالنا ...خطايانا....نحن !!
صاح المسخ صيحة جعلت كبير الشجعان يبول على نفسه رعباً :
نعم أطفالكم وخطاياكم انتم جميعا ... وأنا من جمعها من على قارعة الطريق .
*
سادت الفوضى أرجاء البلدة الصغيرة ، وتعالت الهمهمات حتى تحولت إلى أصوات مفهومة ، مسموعة ، عندئذ قرر كبير الحكماء أن يتجه كل سكان البلدة إلى هذه الحفرة العميقة ، ليتعرفوا على أطفالهم، الذين خرجوا من الحفرة ليصطفوا فى طابور طويل ، إلا أنهم جميعاً كانوا عمياناً خرساً ذوى ملامح واحدة متشابهة !!
فى مشهد مهيب رهيب ، وهم جميعاً تحت شمس الظهيرة ، يقفون فى طابور طويل ، يتقدمهم المسخ الذى لازال مرعباً، ليمر كل رجل من رجال البلدة أمام كل واحد من هؤلاء الأطفال ،
ولكنه لا يعرف أيهما ابنه ...أيتها خطيئته !!!
عادوا جميعاً يجرجرون أذيال الخيبة يتقدمهم حكيمهم العجوز وكبير شجعانهم ...
رجعوا إلى بيوتهم ، بينما ارتد طابور الأطفال إلى جحره .
فى صبيحة اليوم التالى ......
لم يقم المسخ بجمع اللبن والخبز ، وإنما كان صاحب كل دار من دور البلدة يقوم بنفسه بوضع نصيبه من اللبن والخبز أمام حفرة المسخ العميقة.
* عن نادي القصة السعودي
شريف محيي الدين إبراهيم