د. رسول محمد رسول - الحجر والكلام: العلامة في فلسفة توماس هوبس

ولد الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس (1588 - 1679) في قرية (Westport) بمدينة مالمسبري (Malmesbury) لأب قسيس لا يميل إلى العلم والمعرفة، بل ما فتئ حتى هرب إلى لندن بسبب مشكلة عرضت له ليترك أسرته تحت رعاية شقيقه الأكبر الذي تكفَّل برعاية توماس وشقيقه ووالدتهما. عاش توماس الابن طفولة هادئة، ودرس في ملحق لكنيسة القرية عُرف كمدرسة للتعليم الديني، ومن ثم انتقل للدراسة في (كلية مودلين - جامعة أكسفورد) بين الأعوام 1603 – 1608، وتعلم اللغتين اليونانية واللاتينية، وبعد تخرجه رشحه عميد الكلية لتعليم وليم كافنديش، وكافنديش إحدى الأسر النبيلة المعروفة بشخصياتها الفكرية والعلمية، حتى اسهوته السياسية فبرع في الكتابة فيها، ومنحته رحلات السفر التي أمضاها برفقة الأمراء خبرة واسعة في الأمم والشعوب، وعندما عمل سكرتيراً لأسرار فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) تعرَّف إلى منبت الفكر التجريبي، وعلى ما يبدو أنه لم يتأثر كثيراً بنزعة بيكون التجريبية الصرفة، لكنه عايشها ردحاً من الزمان حتى انصرف إلى دراسة الهندسة، وراح يعشق الموسيقى استماعاً وعزفاً على آلة الكمان، وكان على صلة بجاليليو جاليلي (1564 - 1642) حتى أبحرَ في تفسير الكون على أسس ميكانيكية.
سافر إلى فرنسا، وهناك قرأ أعمال رينيه ديكارت (1596 - 1650) لتولد أولى كتاباته الفلسفية الحجاجية تعليقاً على أفكار ديكارت في كتابه (تأمُّلات في الفلسفة الأولى)، (1641)، وليفتح بذلك سيلاً من الكتابات الفلسفية والسياسية والاجتماعية وسط حرائق أيديولوجية أوقدتها رؤاه الفلسفية والدينية والسياسية، لكنه نجا منها، خصوصاً أن الكثير ممَّن فهموا خطابه قدَّروا له اشتغالاته الفلسفية وأفكاره السياسية والاجتماعية، وهو التقدير ذاته الذي حظي به من جانب فلاسفة كبار عاصروه أو جاؤوا بعده. عاش هوبس للفكر وللفلسفة؛ فهو لم يتزوج، ولم يفرِّط بحياته الروحية، وربما هذا كان ذاك قد قربه أكثر من المدرسة العقلية على حساب المدرسة التجريبية الاستقرائية، خصوصاً أن حبه للرياضيات سوَّل له الميل إلى المنهج الاستنباطي (1).
كان هوبس يعي تماماً دوره كفيلسوف في مرحلة خطرة بمتغيراتها الفلسفية والسياسية، ولذلك كان يقول عن حالة المثقفين: "هناك صنفان من الناس الذين يقال عنهم عموماً إنهم مثقفون؛ الصنف الأول ينطلق من مبادئ متواضعة، ويسير على نحو واضح، وأولئك هم علماء الرياضة. أما الصنف الثاني فهم أولئك الذين يستمدون قواعد المعرفة وأسسها من التربية، ومن ثقات الناس، ومن العرف والتقاليد، وهؤلاء هم الدجماطيقيون. ولن نجد علماء الرياضة يثيرون نزاعاً فهم معفيون من ارتكاب هذه الجريمة، وإنما المسؤول عن ذلك هم الدجماتيقيون؛ أولئك اللذن تلقوا تعليماً ناقصاً، وتحت ضغط العاطفة يحسبون آراءهم حقيقية دون أدنى برهان واضح" (2).
لقد عمل هوبس على تقسيم العلوم إلى طبيعية وأخرى مدنية، وكلها علوم تجريبية في منظوره الخاص، ومنها: (1) علم الهندسة: ويدرس القوانين الرياضية للحركة. (2) علم الميكانيكا ويدرس أثر حركة الأجسام في أجسام أخرى. (3) علم الطبيعة ويدرس أثر الحركات الحادثة في ذرات الأجسام. (4) علم الإنسان والسياسة، ويدرس الحركات الحادثة في نفوس الناس والباعثة على أفعالهم (3). (5) علم الكلام (Speech) ويدرس اللغة من حيث الأسماء (Names)، والتسميات (Appellations) والروابط بينها (Connecting) (4).
خطاب الحس
يعتقد هوبس أن "العلم هو معرفة التعاقبات، وارتباط واقعة بأخرى" (5)، وموضوع العلم عنده هو الأجسام، والأجسام في مفهومه لها دلالة مختلفة؛ فالجسم هو "ما يتوافق أو يتطابق مع جزء من المكان، ولا يتوقف وجوده على فكرنا، ويجب أن "يُقال عنه إنه موجود بالفعل، وأنه يقوم بذاته، وأن يكون مستقلاً عن فكرنا، ومن الممكن أن يُفهم بالعقل، ويدرك بالحواس سواء بسواء" (6). كما أن العلم قياسي وليس استقرائياً فقط، وإن كان هوبس قد لجأ إلى الاستقراء كثيراً في معاينة الظواهر، وجملة الأمثلة التي ساقها للتدليل على أفكاره، خصوصاً أن معرفة العلة في منظوره هي وظيفة أساسية للعلم مؤدّاها أن "معرفة المعلولات بعللها، والعلل بمعلولاتها" (7). وكل هذا سينعكس على فهمه لوجود العلامات) تالياً. كما أن موضوع العلم يعتمد على الحركة؛ فلا يوجد سكون (Restless) في الوجود، إنما حركة تلوة آخرى مضادة، وكلتاهما تستمر في نزيف هادر حافل بالمثابرة والعطاء على نحو متجانس. والحركة تحكم الكون المادي كله من دون استثناء، بل هي الواقع الحقيقي والفعلي للوجود أو الكون. ولذلك يعتبر هوبس أية حركة تجري داخل الذات أو النَّفس أو الدماغ أو الذهن أو العقل هي حركة مستمرّة ومتجانسة صوب الأشياء والموجودات، فحركات "الدماغ مرتبطة بعضها ببعض بحيث إذا تكررت حركة لحقتها أخرى؛ لذا تتعاقب الصور بنفس ترتيب الإحساسات لتعاقب حركات الدماغ بهذا الترتيب. ويلاحظ هوبس أن مجرى الأفكار تابع ليس فقط لقانون اقتران الإحساسات في المكان والزمان بل وأيضاً لقانون الاهتمام، أي لتأثير الميل والعاطفة، فإن إرادة الغاية تولد فكرة الوسيلة الكفيلة بتحقيقها، أي التي رأيناها في الماضي تحقِّق معلولاً شبيهاً بالذي ننشده، والعلاقات التي تسيطر على الترابط ههنا هي علاقات التشابه، والعلة والمعلول، والمبدأ والنتيجة، والغاية والوسيلة، والدال والمدلول" (😎. وهذا يعني أن الحركة عند هوبس هي حركتان؛ حركة خارجية، واحدة داخلية تنشطر بدورها إلى حركة حية تتسم بها كل الأحياء كلها كجريان الدم، والتنفس، والتغذية، وإلى أخرى حيوانية خاصّة بالحيوانات.
كانت فكرة الحركة محورية في فلسفة هوبس بحيث إنها أثرت في رؤيته للمعرفة؛ فبالرغم أنه أكَّد في الرسالة الإهدائية التي كتبها في 9 أيار/ مايو 1640، والتي افتتح بها كتابه (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي)، على أن "العقل والأهواء هما الجزآن الرئيسان في طبيعتنا" (9)، إلا أن هوبس أوكل للحس دوراً مهماً في إنتاج المعرفة منذ مؤلَّفاته الباكرة، ففي "الفصل الثاني" من هذا الكتاب بحث علَّة أو سبب الإحساس، وميَّز بين "موضوع الإحساس" و"فعل الإحساس"، وقال في هذا الصدد: "عندما يقع أي حدث بالفعل، فإن التصوُّر الذي ينتج عن ذلك يسمى الإحساس (Sensation)، والشيء الذي أنتجه فعل الإحساس يسمى موضوع الإحساس (Object)" (10). ولشدة اهتمام هوبس بالحس جعل مبحثه يتصدَّر كتابه الكبير (اللفياثان)، (1651) رغم أنه تناوله في كتابه (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي) أو (عناصر القانون)، بحسب عنوان الطبعة المنقحة أو الحديثة، فنراه ينطلق من مقدِّمة واضحة عندما يقول: "في أصل الأفكار جميعاً يكمن ما نسميه الحس، وكل الأفكار الأخرى مشتقة من ذلك الأصل" (11). وهذا يعني أن الإحساس هو مصدر معارف البشر، لأنه يعتقد بأن "كل فكرة منفردة تمثل مظهراً لصفة ما أو عَرَضاً آخر لجسم يقع خارجنا" (12). كما أن "علَّة الحس هي الجسد الخارجي أو الموضوع الذي يضغط على العضو المناسب لكل حس، إما مباشرة كما في الذوق واللمس وإما بالواسطة كما في البصر والسمع والشم، وبواسطة الأعصاب وألياف الجسم وأنسجته الأخرى، ويصل هذا الضغط إلى الدماغ والقلب حيث يحدث مقاومة أو ضغطاً مضاداً أو جهداً من القلب ليحرر نفسه، وبما أن هذا الجهد موجَّه نحو الخارج، فهو يظهر كشيء خارجي، وهذا المظهر أو الوهم هو ما يسميه البشر الحس، وهو ضوء أو لون اتخذ شكلاً بالنسبة إلى العين، وصوتاً بالنسبة إلى الأذن، ورائحة بالنسبة إلى الأنف، ومذاقاً بالنسبة إلى اللسان والحلق، وبالنسبة إلى باقي الجسم فهو حرارة وبرودة وخشونة ونعومة وما إلى ذلك من صفات أخرى نميزها بالإحساس" (13).
نحن إذن بصدد وصف دقيق لعلاقة الإنسان بعالم الحواس الذي يعتمد على الموضوعات الخارجية في حركة مستمرّة لتلقي موضوعات حسية يتم بها الإدراك الحسي. ولما كان فعل الإحساس هو عبارة عن حركة مستمرّة، فإن الإدراك ينتج موضوعه من خلال العلاقة بالأشياء، وبينما الموضوعات المدركة تحوَّلت إلى عالم الذهن، فإن العالم بكل ما فيه يمضي في حركة مستمرّة، والإحساس يمضي في طريقة حتى بعد زوال الأشياء في العالم المادي الخارجي عن الحواس أو الإدراك أو أي شكل من أشكال التواصل معها. ذلك أن الحس هو "صورة ذهنية (Fhantasm) أو خيال (Fancy) يحدثه رد فعل أي جهد نحو الخارج في عضو الحس بسبب جهد نحو الداخل يأتي من الموضوع ويستمر فترة من الوقت طالت أو قصُرت" (14).
خطاب الذهن
إن الصور الذهنية هي محور الانتقال من خطاب الحس (Sense Discourse) إلى خطاب الذهن (Mental Discourse)، وهذا الأخير هو "ملكة الابتكار التي هي تعقب الأفكار وتذكُّرها أو استدعاؤها إلى الذهن" (15). ويسوق هوبس أنموذحا تحليلياً فيقول: "أحياناً يرغب الإنسان في معرفة نتيجة فعل ما، فيفكِّر بفعل ماض مماثل، وبنتائجه المتتالية، معتبراً أن النتائج مشابهة ستلي أفعالاً متشابهة كذاك الذي يتوقَّع ما سيحدث لمجرم، فيراجع ما يلي جريمة مماثلة في السابق، وتتوالى أفكاره بهذا الترتيب: الجريمة، وضابط الشرطة، والسجن، والقاضي، والمشنقة. ويسمى هذا النوع من الأفكار تبصراً (Foresight)، وحصافة (prudence)، وعناية (Providence)، وأحياناً حكمة (wisdom). ورغم أن مثل هذا التخمين (Guess) مظلِّل، إلا أنه وبقدر ما يملك الإنسان خبرة بالأشياء الماضية أكثر من غيره بقدر ما يكون أكثر حصافة" (16). ومن نافل القول إن هوبس "يستخدم مترادفات عدّة ليشير بها إلى الآثار التي تتركها الأشياء الخارجية وحركتها في ذهننا، ونراه يستخدم مفردات كالظاهر Appearance، والمظهر Seeming، والظهور Apparation، والتصويرات Images، والتمثيل Representation، والتصوُّرات Coceptions، والخيال Fancy، وكلها تعني مضمون التجربة أو محتوى الإدراك الحسي عموماً" (17).
يضيف هوبس إلى تعريفه السابق للخطاب الذهني تعريفاً آخر يصف فيه اشتغالاته بأنها "تعاقب الأفكار أو ترابطها أو التتالي بين فكرة وأخرى" (18). إلا أن عالم الذهن أكبر من أن يستحوذ عليه الخيال فقط، ومع ذلك يعتقد هوبس بوجود نوعين من الترابط بين الأفكار هما:
الأول: "ترابط غير موجَّه، لا تصميم له، وغير ثابت، وليس فيه فكرة شغوفة تحكم الأفكار التي تليها، وتوجهها نحو ذاتها، كما تذهب الرغبة أو أية شهوة أخرى إلى غايتها وموضوعها، والأفكار فيه تجول وتصول، وتبدو غير مرتبطة الواحدة بالأخرى كما في حلم، وهي أفكار غير متناغمة كصوت العود حين لا يكون موزوناً أياً كان عازفه، إنها فوضى تجوُّل العقل الجامح.
الثاني: ترابط أكثر ثباتاً إذ تنظِّمه رغبة ما، وتصميم ما؛ فالانطباع الذي تتركه الأشياء التي نرغب بها أو نخافها قوي ودائم، وإذا توقف لبعض الوقت فإنه يعود بسرعة، وهذا الانطباع يوجد أحياناً قوي الحضور إلى حد أنه يمنع نومنا أو يقطعه، فسرعان ما تُعاد أفكارنا إلى الطريق إذا ما بدأت بالضياع" (19).
إن ترابط الأفكار بكل صورها لا ينتج معرفة من دون قوى العقل؛ فنحن لا نعرف الأشياء بصفاتها أو كيفياتها الأولية إلا من خلال الاستنتاج العقلي الذي يسوِّغ للعنصر المعرفي في المدركات الحسية حضورها في العقل أو الذهن في حركة دائبة تحضر الصور الذهنية بها مرّة وتغيب مرات بحسب التركيز الذهني والرغبة العارمة التي تعتمل الداخل البشري. ومثلما سيأتي جون لوك (1632 - 1704) لاحقاً ليقرأ العالم بوصفه كيفيات أولية وثانوية، كذلك فعل هوبس عندما نظر إلى العالم من حوله فوجده عبارة عن كيفيات أو صفات أولية خاصّة بالأجسام أو الجواهر فيه، وصفات أخرى أو كيفيات ثانوية هي مظاهر ذاتية للأجسام تدركها الحواس البشرية. وفي "الفصل الثاني" من كتابه الأول (عناصر القانون) أورد هوبس نموذجاً تحليلياً عن الصورة الذهنية الخاصّة باللون، وهي صورة مرئية أو بصرية، وقد طرح فكرته على نحو منظَّم من خلال:
(أ) الألوان والصور الملازمة للموضوعات ليست هي الأشياء أو الأجسام. (ب) ما نطلق عليه اللون أو الصورة ليس لهما وجود (Existence) خارجنا. (ج) اللون والصورة يظهران لنا (Appearing to Us) كحركة، وذبذبة أو تعديل يحدثه الموضوع في المخ. (د) إن ما يصح على التصورات البصرية، يصح أيضاً على بقية تصورات الحواس التي تنشأ من الأحاسيس الأخرى، ما يعني أن الموضوعات المدركة أو التصورات هي ليست الأشياء أو الأجسام إنما الأحاسيس (20). وجليٌ هنا الفصل بين العالم الخارجي والعالم الداخلي أو عالم الأشياء وعالم التصورات المدركة التي هي عبارة عن اشتغال قصدي على الصفات الثانوية للأشياء، وتمثيل إدراكي لها، ما يعني أن "الكيفيات الثانوية هي مجموعة من الصور الذهنية أو الخيالات التي تحدثها في رؤسنا الخصائص الأولية لهذه الموضوعات الخارجية التي تتفاعل مع أعضاء الحس لكنّها لا تمثل شيئاً خارجياً" (21).
يتضح أنه لا يمكن الحديث عن الخطاب الذهني بمعزل عن خطاب الحس، فهذا الأخير يبدو مقدِّمة للأول، خصوصاً أن هوبس كان قد قسَّم القوى إلى قوى جسمية كالحركة والتغذية والتناسل، وإلى قوة أخرى ذهنية نلقى فيها قوى معرفية وأخرى محرِّكة. ووجدنا هوبس يعطي أهمية كبيرة للصور الحسية، وكذلك للخيالات، وللتخيُّل والأحلام. أما العقل فهو الآخر له نصيبه في إنتاج المعرفة، إذ سبق لهوبس وأكَّد على أن الطبيعة البشرية تشتمل على العقل إلى جانب الأهواء، كما أشرنا سابقاً، وهذا يعني أن للعقل دوره في المعرفة، ويعني أيضاً أن ما تعطيه الحواس من تصورات حسية لا يكفي لوحده في إنتاج المعرفة.
إن كل التصورات الحسية التي تصل إلى الذهن تتطلَّب الانخراط في بنية عقلية كلية؛ ولهذا يقول هوبس: "حين يقوم الإنسان بالاستدلال أو التعقُّل Reasoning، فإنه لا يفعل شيئاً سوى تصوُّر كل إجمالي انطلاقاً من جمع أجزاء أو تصوُّر حاصل طرح مجموع من آخر، وهو شيء إذا تم بواسطة الكلمات، يكون بمثابة تصوُّر لتعاقب تسمية كل الأجزاء إلى تسمية الكل الإجمالي أو من تسمية الكل وجزء واحد إلى تسمية الجزء الآخر" (22). وواضح أن ما يريد التأكيد عليه هوبس في هذا النَّص الانتقال إلى عالم التجريد العقلي من خلال مفهوم الكل الإجمالي (Sum Total) مع الاحتفاظ بمفهوم التعاقب داخل الذهن، فضلاً عن الإشارة الواضحة إلى دور التسمية كفعل عقلي. كما أن فعل التسمية، وكذلك حركة التعاقب، يقترنان لدى هوبس بالحساب، ولذلك جاء اشتغاله على العقل في (الفصل الخامس) من كتابه (اللفياثان) بـعنوان (في العقل والعلم) مبرزاً دور الحساب في العمليات العقلية؛ فهو يرى أن العقل "ليس سوى حساب لتعاقب التسميات العامّة المتفق عليها لتحديد أفكارنا والدلالة عليها؛ أقول لـ "تحديدها" عندما نحسب بأنفسنا، و"الدلالة عليها" عندما نبرهن حساباتنا أو نوافق عليها أمام الآخرين" (23).
خطاب الكلام
لا يمكن الحديث عن خطاب الكلام (Speech Discourse) من دون الحس والعقل بسبب التضافر البنيوي بينهما والكلام. ولما كنّا سلطنا الأضواء على الخطابين السابقين، أي خطاب الحس وخطاب الذهن، فإننا نولي أهمية كبيرة لدورهما في المعرفة الهوبسيَّة، وتالياً لدورهما في نظرية العلامات لديه، وهو الذي يعتقد أن العقل هو أحد ملكات الذهن (Faculties of the Mind) (24)، وأن مشكلة البشرية هي أنها تفتقر إلى عقل مستقيم (Right Reason) وضعته الطبيعة باعتباره "عقلاً محكِّماً أو قاضياً" (25)، وهو ما يعني ضرورة بناء عقل له ملكات تؤدِّي بالبشرية إلى بعض اليقين عبر الفهم (Understanding). والفهم عموماً في منظور هوبس هو "التخيُّل الذي تثيره الكلمات أو أية علامات عفوية أو طوعية Voluntary Signs أخرى في الإنسان أو في أي مخلوق آخر وُهب ملكة الخيال، والفهم الخاص بالإنسان ليس فهم إرادته وحدها، بل أيضاً فهم تصوراته وأفكاره بواسطة تعاقب أسماء الأشياء وسياقها في صيغ التأكيد والنفي، وغير ذلك من صور الكلام" (26). أما استخدام العقل وغايته فيرى هوبس أنهما لا يكمنان في "إيجاد مجمل النتيجة أو بعض النتائج وحقيقتها بعيداً عن التعريفات الأولى، والدلالات الموضوعة للتسميات، بل في البدء منها، والمضي قدماً من نتيجة إلى أخرى، ولذلك لا يمكن أن يوجد يقين بكل تلك الإثباتات والإنكارات التي أسُّست عليها، واستُنتجت منها" (27).
يركِّز هوبس كثيراً على إشكالية التسمية وهو يبني خلاصة أفكاره في كتابه (اللفياثان)، ويكشف عن أثرها في بناء المعرفة، وأثر الكلمات ذات الدلالة العامّة (Words with General Meanings) في توليد استنتاجات زائفة (False)، والتي يحلو لهوبس وصفها بالسخف (Absurdity)، ويصف خطابها بأنه كلام بلا معنى (Senseless Speech)؛ فالكلمات "التي لا نتصوَّر بواسطتها إلا صوتاً واحداً هي تلك الكلمات التي نسميها عبثية Absurd؛ كلمات بلا دلالة Insignificant، وبلا معنى Nonsense (28)، في وقت يمكن للإنسان فيه، وبواسطة الكلمات، أن "يرد النتائج التي يجدها إلى قواعد عامَّة تسمى نظريات أو حكماً، أي إنه يستطيع أن يستدل أو يحسب" (29). ويأتي هوبس على عدد من الأمثلة من العبارات أو القضايا العبثية التي ليس لها دلالة أو معنى مثل: "مضلع رباعي دائري"، و"أعراض للخبز في الجبن"، "مواد غير مادية"، و"ذات أو إرادة حرة"، وهي كلها عبارات لا تنطوي على خطأ فقط، إنما على عبثية للإنسان وحده إمكانية كشفها وتحديد زيفها.
ما هو لافت في تجربة هوبس النقدية للأفكار الخالية من المعاني والدلالات وذات الوجود العبثي هو نقده للعقل الفلسفي النخبوي أو عقل الفلاسفة الذي تشتد لديه حالة العبث في أحيان ما، وقد أورد في هذا الصدد سبعة اعتراضات ذات صلة بخطاب الكلام كونه يركِّز النَّظر في الكلمات، والدلالات والمعاني، وكذلك في علاقة الدال بالمدلول، ويقول في هذا المجال:
(1) "إنني أعزو السبب الأول للنتائج العبثية إلى النقص في المنهج، وعدم بدء استدلالاتهم من التعريفات أو من الدلالات الموضوعة لكلماتهم.
(2) إنني أعزو السبب الثاني للتأكيدات العبثية إلى إعطاء تسميات أجسام للأعراض أو تسميات أعراض للأجسام كما يفعل الذين يقولون إن الإيمان يُسكب أو يُنفخ.
(3) أعزو السبب الثالث إلى إعطاء تسميات أعراض الأجسام الواقعة خارجنا إلى أعراض أجسامنا نحن؛ كما يفعل الذين يقولون إن اللون هو في الجسم، والصوت هو في الهواء.
(4) أعزو السبب الرابع إلى إعطاء تسميات الأجسام إلى التسميات أو الكلام؛ كما يفعل الذين يقولون إن هناك أشياء عامَّة، وإن مخلوقاً حياً هو جنس أو هو شيء عام.
(5) أعزو السبب الخامس إلى إعطاء تسميات الأعراض إلى التسميات أو الكلام؛ كما يفعل الذين يقولون إن طبيعة الشيء في تعريفه، وأن الأمر الذي يعطيه إنسان هو إرادته.
(6) أعزو السبب السادس إلى استخدام الاستعارات والمجازات وغيرها من الصور البيانية بدلاً من الكلمات بمعناها الحقيقي.
(7) أخيراً، أعزو السبب السابع إلى التسميات التي لا تدل على شيء؛ إنما نأخذها من المدارس، ونتعلّمها بالاستظهار، مثل تسمية "أقنومي"، واستحالة القربان"، و"الآن الأبدي" (30).
يبدو جلياً أن العبث إنما يكمن في الافتراق بين الدال والمدلول أو بين المعنى والكلمات، وبإزاء ذلك، ومن أجل تجاوز حالة العبثية في العلاقة بين الطرفين، تلك التي تقع فيها النخبة الفلسفية فضلاً على غيرها من بقية الناس، لجأ هوبس إلى تحقيق أقصى درجات الدقة في التفكير الاستدلالي، وهو تفكير عقلي، وذلك من خلال بلوغ المهارة (Achieved through Work)، وهي مهمة تتطلَّب:
أولاً: إعطاء التسميات المناسبة للأشياء (Suitable Names to Things).
ثانياً: اتباع منهج جيد ومنتظم يمضي قدماً من العناصر، التي هي التسميات (Elements - Names)، إلى التأكيدات المكوَّنة بربط تسمية بأخرى، ومن ثم إلى القياسات المتعلِّقة بالموضوع قيد البحث، وهذا ما يسيمه البشر علماً (31).
إن اشتغالات العقل التي تعتمد على الحس والخيال، وعلى جملة من قدرات وملكات ومهارات العقل نفسه، هي ذات صلة حقيقية بمذهب هوبس في العلامات. وما هو مؤسف في هذا المجال أن هوبس لم يأت على وضع اشتغالاته في العلامات بمذهب أو علم خاص أو سياق معين يدعو له كما سيفعل جون لوك لاحقاً عندما جعل مذهب العلامات أحد العلوم الثلاثة التي صنَّفها (32). إلا أن هوبس فتح أفق العلامات على اللغة أو لنقل على الكلام (Speech)، وفتح الكلام على العلامات وفق تأسيس فلسفي يرتبط بنظرية المعرفة في كل مفاصلها؛ الحسية، والخيالية، والذهنية، والعقلية، حتى خرج إلينا برؤية فلسفية أصبحت مدار تواصل معرفي من بعده.
لم يأت هوبس في أول كتبه الحجاجية إلى مناقشة مسائل العلامات؛ فعندما قرأ كتاب رينيه ديكارت (تأمُّلات في الفلسفة الأولى)، (1641) راقته الحال، وقرَّر أن يناقش هذا الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت في زمانه، فكتب (فرزة ملاحظات على تأمُّلات ديكارت) في حدود عام 1930 ليقرأها ديكارت نفسه، ويرد عليها، وتأخذ طريقها للنشر ككتاب في باريس عام 1641 جامعاً لكلا النَّصين؛ فرزة هوبس وردود ديكارت.
وإذا كان هناك قيمة معينة لهذا الكتاب الحجاجي، فإنها تعدُّ مؤشِّراً قوياً على روح هوبس في الانفتاح على أفكار غيره من الفلاسفة، وفي الوقت نفسه على انخراطه في سوق التفكير الفلسفي، وهو الفيلسوف التجريبي أو المادي ظاهراً والعقلاني أو المثالي باطناً.
لم يرد في نقد هوبس لرؤى ديكارت في هذا الكتاب أي استخدام لمفردة علامة (Sign)، لكنه حفل بمناقشات خاصّة بالعلاقة بين الأسماء والكلمات، وأثر هذه العلاقة في توليد المعنى، وذلك في (الاعتراض الرابع)، أما في (الاعتراض الرابع عشر) فأتى هوبس إلى مناقشة علاقة الكلمات بالذهن والعقل، ولكن على نحو بسيط كنا قد وجدناه يتطوَّر في كتب لاحقة، كما رأينا ذلك في معرض قراءتنا لكتابه (اللفياثان).
ربما أخذت هوبس الحماسة لأن يدخل في غمار الدرس الفلسفي أكثر بعد تجربته القرائية النَّقدية لأفكار ديكارت في الفرزة إياها. وبالفعل، فقد رأيناه يكتب بضعة مباحث بعنوان (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي) في عام 1640، وصار أصدقاء له يقرأون تلك المباحث قبل طبعها، لكنّها ظهرت بطبعة منظمة بعد عام، وضمَّت ثلاثة أبواب، هي: الباب الأول في الطبيعة البشرية (Human Nature)، والباب الثاني في الهيئة الاجتماعية (De Corpore Politico)، والباب الثالث في المواطن، ولكن من دون أن يفرز له باباً مستقلاً.
في هذا الكتاب، خاض هوبس غمار البحث في العلامات لأول مرّة في حياته، وذلك عندما استعرض في الفصل الثاني منه (The Cause of Sensation) لمفهوم الإحساس، وتمييزه بين فعل الإحساس (Sensation)، وموضوع الإحساس (Object Sensation) (33). ودخل كذلك إلى عالم العلامات من خلال الكشف عن وضعية العلامة المرئية أو الطبيعية (Natural Sign) عندما أكَّد أن "العلامة غالباً ما تُحدَّد بسوابق اللواحق، ولواحق السوابق؛ فمثلاً يمكن أن نعد سحابة الغيوم الثقيلة علامة على مطر قادم، ووجود المطر يمكن اعتباره علامة على وجود سحابة ثقيلة (34). وبعد عشر سنوات تقريباً كرَّر هوبس هذا التفسير في كتابه (اللفياثان)، (1651)، عندما قال: "العلامة هي الحدث السابق لآخر لاحق أو بالعكس اللاحق للسابق إذا كانت هناك متلاحقات مشابهة قد تمَّت ملاحظتها من قبْل، وكلّما تمَّت ملاحظتها أكثر، كلّما كانت هذه العلامة أقل عرضة للشك. لذا، فإن من يملك الخبرة الكبرى في أي نوع من الأعمال يملك أكثر العلامات التي تمكِّنه من الحدْس في المستقبل، وبالتالي فهو الأكثر حصافة بكثير ممَّن هو جديد على هذا النوع من الأعمال" (35).
وعلى ما يبدو، أن اهتمام هوبس الباكر بالعلامات اقترن بمدى قدرة العلامة على تحقيق اليقين؛ فهو كان منذ عام 1640 يميز بين العلامات المؤدية إلى اليقين برغم أن مصدرها حسي أو خارجي، وتلك العلامات التخمينية أو الحدْسية (Conjectural Signs). ولنا أن نلاحظ هنا مدى ارتباط معالجة العلامات لديه بمستوى قيمة العلامة الدلالية أو بمستوى أدائها وإنجازها للتوقُّعات (Fulfills Expectations) (36) التي يأملها مستخدم العلامات، أي إن هوبس أعطى لوظيفة العلامات وما تنجزه من دلالات أهمية فائقة.
إضافة إلى ذلك، نرى هوبس، وفي المعالجة ذاتها، يلمح إلى نمطين من العلامات يعرضان للإنسان في حياته؛ علامات مصدرها التجربة، وأخرى مصدرها التذكُّر. وفي معرض تناوله للذة الشرف يأتي إلى ما أسماه بعلامات الشرف أو الفخر (Honour Signs)، وكأني به يفرق بينها وعلامات أخرى سفلى أو ما يسميه علامات الوضاعة (Inferior Signs) (37). ومع (الفصل الثالث عشر) من كتابه (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي) يدخل هوبس إلى عالم اللغة وعلاقة هذه الأخيرة بالعلامات من خلال التأثير المتبادل بين الناس الذين يتواصلون عبْرَ ملكاتهم الحسية والذهنية والعقلية بالعلامات التي هي عرضة للتأثير المتبادل، فبعض العلامات بسيط وواضح، وبعضها مزيف، ولكن غيرها لا يمكن أن يكون مزيفاً على نحو سهل بسبب طابعه العفوي (Spontaneous) الذي يتبدّى في الأفعال (Actions)، والإيماءات (Gestures) والأهواء (Passions) البشرية اليومية (38). ويخلص هوبس في كتابه آنف الذكر إلى القول: "إن كلماتنا هي علامات نتعلَّمها من آراء ونوايا الآخرين" (39). وهذا مؤشر واضح على الطابع التداولي والمجتمعي للعلامات.
لقد أعطى هوبس اهتماماً واسعاً لموضوع اللغة، حتى إنه "فسَّر الحكم بأنه تركيب ألفاظ بحيث تعنى القضية الموجبة أن الموضوع والمحمول هما اسمان لشيء واحد، وتعنى القضية السالبة بأن الاسمين يختلفان في الدلالة. وفسَّر الاستدلال بأنه تركيب قضايا، وأكَّد بأن نتائج الاستدلال ليست منصبَّة على الأشياء، بل على أسمائها، أي إننا بالاستدلال نرى إن كنّا نحسن أو نسيء تركيب أسماء الأشياء طبقاً للعُرف الموضوع في تسميتها" (40).
نحن إذن بصدد أحكام وقضايا، وإنشاء كل ذلك مرتبط بالذهن، خصوصاً أن هوبس يعتقد أن "الأفكار ترد إلى الذهن أولاً، وعلينا من ثمَّ أو ثانياً أن نبحث عن الكلمات التي تناسبها بأكبر قدر من الدقة والإيجاز" (41). وعندما نطالع (الفصل الرابع) من كتاب (اللفياثان) سنجد أن هوبس يؤسِّس لمجموعة من المفاهيم الخاصّة بفضاء اللغة، فقد جاء هذا الفصل بعنوان (الكلام = Speech)، وجاء فيه: "إن الاختراع الأنبل والأنفع من كل ما عداه كان اختراع اللغة" (42). وأكَّد على أن "الاستخدام العام للكلام هو تحويل خطابنا الذهني إلى خطاب لفظي/ شفاهي (Verbal Discourse) أو تحويل ترابط أفكارنا إلى ترابط كلمات، وذلك لفائدتين؛ الأولى: تسجيل تعاقب أفكارنا المعرَّضة لأن تفلت من ذاكرتنا، وتفرض علينا مجهوداً جديداً، فيمكن استعادتها بالكلمات التي سُجِّلت بها، وهكذا فإن أول استخدام للتسميات (Names) يكمن في وضع سوْمات (Marks) أو ملاحظات (Notes)". والثانية: حين يستخدم كثيرون الكلمات نفسها للدلالة بواسطة ترابطها وتراتبها بين الواحدة والأخرى، على ما يتصوَّرونه أو يفكِّرون به حول كل موضوع، وكذلك على ما يرغبون به أو يخافونه أو يولد فيهم أي انفعال آخر، ولهذا تسمى الكلمات علامات (Signs)" وهكذا، فإن "أول استخدام خاص للتسميات هو في وضع علامات أو ملاحظات للذاكرة. وأما الثاني، فهو حين يستخدم كثيرون الكلمات نفسها للدلالات بواسطة ترابطها المتراتب بين الواحدة والأخرى، على ما يتصورونه أو يفكرون به حول كل موضوع، وكذلك على ما يرغبون به أو يخافونه أو يولِّد فيهم أي انفعال آخر، ولهذا الاستخدام تسمى الكلمات علامات" (43).
ما يُلاحظ هنا هو استخدام هوبس الباكر لوضْعين يخصّان العلامة (The Sign) والتي نحن بصدد البحث في إطاره الفلسفي عنده؛ الأول العلامة بمعنى فعل العَلْم أو السوْم أو منح المعاني التي تطرأ على الذهن أو تعرض لحواس الإنسان سوْماً أو علْماناً أو رسماً علاماتياً من خلال فعل التسمية (Names)، فمثلاً ونحن نمشي على شاطئ البحر، وفجأة رأينا سمكة صغيرة ميتة مرمية على رمل الشاطئ فنسمي هذه السمكة بأنها "نافقة"، وكلمة نافقة هي سوْمة (Mark) نعتنا بها حالة هذه السمكة. ولو أردنا أن نعود إلى ديارنا في المدينة، ونخبر الأهل والأصدقاء بأننا رأينا، ونحن نمشي على شاطئ البحر، سمكة مرمية على رمل الشاطئ، ووصفناها بأنها "سمكة نافقة"، فإننا، وبمجرَّد تلفُّظنا بكلمة "سمكة نافقة"، أصبحنا نتداول هذه الجملة التي تتألف من حامل ومحمول بوصفها علامة (Sign) قابلة للتداول والاتفاق، وتصبح العلامة بذلك منجزاً للسوْم أو فعل العَلْم.
لا يقف هوبس عند هذا المستوى فقط، بل يتوغَّل أكثر في الاستخدام الخاص للكلام، إذ نراه يبحث في جدوى العَلْم أو العلْمان أو السوْم أو التسْويم أو منح الأشياء أسماءها كعلامات لها (Marking)، وتحويلها من عالم الذهن إلى عالم التداول أو عالم الكلام الفعلي (Speech)، فهو يعتقد بأن فوائد هذا الاستخدام تكمن في: أولاً: اكتساب الآداب أو تسجيل ما نجد بواسطة التأمُّل أنه سبب لأي شيء حاضر أو ماض، وما نجد أن أشياء حاضرة أو ماضية يمكن أن تنتجه. ثانياً: إظهار المعرفة التي بلغناها للآخرين، ما يعني إرشاد وتعليم بعضنا بعض. ثالثاً: أن نُعْلِم الآخرين بإرادتنا وأغراضنا حتى نحصل على المساعدة المتبادلة بعضنا من بعض. رابعاً: لبهجة أنفسنا والآخرين من خلال اللعب البريء بالكلام بغرض المتعة أو الترفيه (44).
إن الكلام الذي يستعين بالكلمات بوصفها علامات مُدركة لتحقيق الأهداف المذكورة له أيضاً مثالب، فمثلما وجدنا هوبس كان قد أشار بالنقد إلى الجوانب العبثية في عقول النُّخبة الفلسفية وغيرها من البشر، نجده أيضاً ينقلنا إلى مشكلات العلاقة بين الدال والمدلول أو المعاني (Meanings) والكلمات (Words)، وإلى مشكلات توظيف الإزاحة (Displacement) من خلال الاستعارة، ودور القسر في التعبير، ودور أهواء الذات والغرائز البشرية في ذلك كله كما ترد في نصِّه، فهو يقر بوجود أربع مشكلات تعرض لاستخدام الكلام: الأولى، حين يسجل البشر أفكارهم بصورة خاطئة بسبب التباس الدلالات في كلماتهم، فتراهم يسجِّلون ما لم يتصوَّروه أبداً على أنه تصوراتهم. والثانية، عندما يستخدمون الكلمات استخداماً استعارياً غير ذلك المخصَّص لها، وبذلك يخدعون الآخرين. والثالثة، عندما يعلنون بالكلمات عمّا ليس بإرادتهم وكأنه كذلك. والرابعة، عندما يستخدمون الكلمات ليؤذي بعضهم بعضاً آخر (45).
الخلاصة
الكلمات إذن علامات، وبعض العلامات كلمات، والتسمية (Names) تلعب دوراً معرفياً في إظهار العلامات إلى حيز الوجود والتداول، إلا أن هوبس يشير، وفي (اللفياثان) على سبيل المثال، إلى العلامات التي تظهر كصفة دالة على حالات معينة؛ فهو يقول: "إن علامات العلم بعضها يقيني ومؤكَّد وبعضها غير يقيني"، ويتحدث عن "علامة الحمق التي تسمى عموماً حذلقة" (46)، وهي علامات ترتبط بالطابع الفردي والشَّخصي لبعض الحالات البشرية، لكنّها تبقى علامات دالة على حالات معينة.
ولو أردنا أن نتابع تطور بناء هوبس للعلامة لوجدناه أكثر نضجاً في (اللفياثان) منه في (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي)، خصوصاً أن درس العلامة اقترن لديه بمبحث اللغة (Language) من جهة، وبمبحث الكلام (Speech) من جهة أخرى، وهو ما يعني أن هوبس اندفع أكثر في قراءة العلامات التداولية في كينونتها التلفظيَّة، وأسَّس لها كيانها المعرفي في عوالم الحس والخيال والذهن أو العقل وأن كان التأسيس مشوباً بالنقص، فجاءت معالجته في (اللفياثان) قريبة من وعيه المعارفي بها، لكن طموحه لم يقف عند هذا الحد؛ ففي كتابه (في الجسد)، (1655) أو (في الهيئة) أو (في الجسم) (De Corpore) = (On Body) عاد مرّة أخرى إلى العلامات ليبحث ما فاته منها في كتابيه السابقين.
في هذا الكتاب الذي نشره هوبس قبل وفاته بأربعة عشر عاماً، بل ولم يؤلِّف بعده كتباً فلسفية كبيرة، أشار إلى عدد من المصطلحات الدالة على استخدامات متعددة للعلامات الذهنية، مثل: "علامة العقل الرشيد The Sign of Rational Mind" (47)، و"العلامات العقلانيةRationality Signs أو علامات التعقُّل" (48).
هذه المفاهيم العلاماتية كلها، وغيرها، ترتبط بعالم الذهن والعقل والتفكير. وعندما ينتقل هوبس إلى (الفصل الثاني) لمناقشة الكلمات نراه يؤكِّد في الكتاب ذاته على أن "الأسماء هي علامات للأفكار" (49)، وأن الكلمات التي نستخدمها إنما هي علامات، وإذا ما انتظمت (Arranged)- الكلمات - في صيغة كلام (In Speech)، فإنها ستكون علامات دالة على مفهومات (Signs Concepts) لا على الأشياء في ذاتها (Themselves Things)، وهذا ميل واضح لمنح العلامات المدركة أو المتصوَّرة لديه كيانها المستقل بعيداً عن مجرَّد الأشياء التي نلمسها ونراها ونسمع أصوات حركتها. وبالفعل، نراه يؤكِّد على الفصل بين العلامات المدركة والأشياء كما هي في ذاتها كأجسام مستقلة (50)، ويحذر من الإشكالات التي تعرض نتيجة لتعامل البشر مع العلامات الطبيعية (Natural Signs) من دون استدلال أو تعقُّل منطقي (Reasoning) (51) ينأى بهم عن الخطأ وتفادي خداع هذا النوع من الإدراك.
وفي الوقت الذي يتشاطر أكثر اللغويين والسِّيميائيين في القرن العشرين مناقشة مفهوم الاعتباطيَّة (Arbitrary)، نلقى هوبس وقد تناوله منذ عام 1655، كان قد تناوله في كتابه (De Corpore) عندما ميز بين العلامات الطبيعية والعلامات الاعتباطيَّة (Arbitrary Signs)، فإذا كانت العلامات الطبيعية تعتمد على ذاتها، فإن العلامات الاعتباطيَّة تعتمد على إرادة البشر، ولو وجدنا أحداً من الناس يضع أربعة أحجار على قطعة أرض مربعة في مكان ما ليميزها من بقية الأرض من كل جوانبها، فإنه إنما يضع علامات لتحديد المساحة الخاصّة به، وهي علامات اختيارية أو اعتباطية. ولا يقف هوبس عند المعنى المادي الملموس أو المرئي للعلامة الاعتباطيَّة (52)، بل يذهب إلى أن اختيار الإنسان للكلمات بغية تسمية الأفكار إنما هو فعل استخدام اعتباطي أيضاً (53)، الأمر الذي يعني أن العلاقة بين الكلمات ومعانيها أو بين الدال والمدلول هي علاقة اختيارية واعتباطية دائماً تخضع لإرادة الإنسان وميوله وخبراته وثقافته ولقصديَّة الوعي لديه.
نخلص من كل ذلك كله إلى أن تجربة توماس هوبس في العلامات تبدو تجربة تأسيسية، بل تجربة إرهاص معرفي قعَّدت المعرفة العلاماتية على أسس فلسفية مختلفة عما أقبل عليه الفيلسوف واللاهوتي البرتغالي جون سانت توماس John of St. Thomas (1589 - 1644) ، خصوصاً أن هوبس تناولها من خلال ثلاثة خطابات هي: خطاب الحس، وخطاب الذهن، وخطاب الكلام. ولذلك، تبدو لنا هذه التجربة متميزة بأنها فتحت أبواب الفلسفة لمباحث العلامة، وأشركت العلامة بمباحث الحس والذهن والعقل والعاطفة، وقرأت الجوانب المرئية للعلامات من خلال العالم المحسوس، وجوانبها الذهنية من خلال العالم المعقول، وجوانبها الأهوائية من خلال عالم الشعور.
والملاحظ أن هوبس لم يشتق تسمية لمباحث العلامات لديه كما سيفعل جون لوك لاحقاً عندما دعا إلى علم جديد أسماه مذهب العلامات (Doctrine of Signs) أو السِّيميائية (Semiotike). كما أنه فتح للعلامات أبوابها التداولية، فهي ليست حسية أو ذهنية أو عقلية فقط، إنما هي ذاتية ومجتمعية من خلال فكرة الاعتباطيَّة (Arbitrary). وبذلك يكاد هوبس أن يكون رائداً في تناوله فكرة الاعتباطيَّة في العلامات، وذلك عندما أقرَّ بوجود علامات اعتباطية. وربط هوبس أيضاً العلامات بالكلام (Speech) وليس باللغة أو المنطق فقط. وعندما عرَّف هوبس الاسم بأنه "كلمة بشرية تستخدم اعتباطياً من جانب البشر" (54)، فإنه يكون قد نسف البُعد الميتافيزيقي واللاهوتي للاسم. أما السياق النظري الذي تمظهرت فيه رؤى هوبس في العلامات، فهو نظريته في المعرفة التي جمع فيها الحس إلى جانب المخيلة والذهن والعقل كمصادر متعاضدة للمعرفة البشرية.
ورغم كل هذا المنجز المعرفي المهم كله، تبقى تجربة هوبس في العلامات مفتقرة إلى سياق معرفي واضح المعالم، كما أنها تفتقر إلى وعي معارفي عميق (Epistemology)، وهو الوعي الذي أدرك بعض ضرورته الفيلسوف الانجليزي جون لوك بداية، وإدموند هوسرل، وتشارلز بيرس، وفردينان دي سوسير، وجاك دريدا تالياً، ولكن من دون أن يتوغَّل لوك كثيراً فيه رغم أصالة محاولته في تخصيص علم قائم برأسه للعلامات هو مذهب العلامات.




الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تم نشر هذا الفصل في مجلة (تبين)، الدوحة، العدد (4)، (المجلد الأول)، ربيع 2013، (ص 183 – 194).
ملاحظة: كل النَّصوص الأجنبية الخاصّة بتوماس هوبس أو المراجع الأخرى الواردة في هذا البحث هي نسخ إلكترونية سوى القليل منها.
(1) حول حياة توماس هوبس انظر: (يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، 52 وما بعدها، دار المعارف، ط 5، د ت). و(د. جورج طرابيشي: معجم الفلاسفة: الفلاسفة، المناطقة، المتكلمون، اللاهوتيون، المتصوفون، ص 708، دار الطليعة، ط 3، بيروت، 2006).
(2) أورده الدكتور إمام عبد الفتاح إمام: (توماس هوبز فيلسوف العقلانية، ص 26، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1985).
(3) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 52.
(4) Hobbes (Thomas); Leviathan, Chapter 4. Speech Jonathan Bennett, 2004, P 11.
ما تجدر الإشارة إليه هو أن هوبس لم يسمِّ علماً بهذا المعنى لكننا نجده يشتغل في فضائه. ولعل الأهم هنا هو أن الكلام (Speech) يستبطن الصوت (Voice) كونه - الكلام - يعتمد على الخطاب اللفظي أو الشفاهي (Verbal Discourse). وانظر كذلك الترجمة العربية: (توماس هوبس: اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حبيب وبشرى صعب، مراجعة: د. رضوان السيد، ص 40، دار الفارابي ومشروع كلمة للترجمة، بيروت ـ أبوظبي، 2011).
(5) توماس هوبس: اللفياثان، ص 55.
(6) Hobbes (Thomas); ON Body, Chapter 8: Body and Accident, 8.1. The Definition of Body, Translation: George MacDonald Ross. (Pdf).
(7) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 52. سيقول هوبس في (اللفياثان): إن "الحركة لا تنتج إلا الحركة"، ص 24.
(😎 يوسف كرم: المرجع السابق نفسه، ص 53 – 54. وحول فكرة "السكون" انظر: (اللفياثان)، ص 24.
(9) Hobbes (Thomas); The Treatise on Human Nature and that on Liberty and Necessity, London, 1812. P I, See also: The Elements of Law, Translation: George MacDonald Ross, 2.2.
وهذا الكتاب الأخير هو النشرة الجديدة للنَّص الأول الذي عمل (جورج ماكدونالد روس) على تهذيبها من الأخطاء الكثيرة التي منيت بها نشرات وطبعات النَّص القديمة.
(10) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 2: The Cause of Sensation, 2.2.
(11) توماس هوبس: اللفياثان، ص 23.
(21) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 23. وحول فكرة "الوهم" انظر: المصدر نفسه، ص 27.
(13) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 23 - 24.
(14) توماس هوبس، نقلاً عن: (د. إمام عبد الفتاح إمام: توماس هوبز فيلسوف العقلانية، ص 165). وفي الحقيقة يرى هوبس أن "الحس والذاكرة نكسبهما بالخبرة وبالفطنة Prudence". انظر: توماس هوبس: اللفياثان، ص 55.
(15) توماس هوبس: اللفياثان، ص 35. وكان هوبس قد استخدم مصطلح (Mental Discourse) على نحو مبكِّر كعنوان لـ (الفصل الرابع) من كتابه الأول (مبادئ القانون الطبيعي والسياسي)، الذي صدر في عام 1640.
(16) Hobbes (Thomas); Leviathan, Chapter 3, The Consequence or Train of Imaginations, P 9.
وانظر النَّص العربي: توماس هوبس: اللفياثان، ص 36.
(17) انظر: (د. إمام عبد الفتاح إمام: توماس هوبز فيلسوف العقلانية، ص 166).
(18) Hobbes (Thomas); Leviathan, Chapter 3, The Consequence or Train of Imaginations, P 8.
(19) انظر: توماس هوبس: اللفياثان، ص 34. وقد تصرفنا بالترجمة بالرجوع إلى النَّص الإنجليزي، ص 8 – 9. وتجدر الملاحظة هنا إلى أن هوبس لم يستخدم مصطلح تداعي الأفكار (Association of Ideas) في معالجته لموضوع ترابط الأفكار.
(20) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 2: The Cause of Sensation, 2.4.
(21) د. إمام عبد الفتاح إمام: توماس هوبز فيلسوف العقلانية، ص 172.
(22) توماس هوبس: اللفياثان، ص 50.
(23) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 51.
(24) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 51.
(25) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 51.
(26) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 32.
(27) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 52.
(28) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 53.
(29) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 53.
(30) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 54 – 55 . ومن الرائق هنا التنويه إلى تجربة الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكن في كتابه (The New Organon)، (1620) الذي نقد فيه مجموعة من أوهام (Idols) العقل البشري، أنظر كتابه:
- Bacon (Francis); The New Organon, Book 1, Aphorisms 39, P 7, Jonathan Bennett, 2005. (Pdf).
وللمزيد انظر: (د. قيس هادي أحمد، نظرية العلم عند فرنسيس بيكن، دار الشؤون الثقافية العامّة، ط 2، بغداد، 1986). و(د. حبيب الشاروني: فلسفة فرنسيس بيكون، ص 53 وما بعدها، دار الثقافة والدار البيضاء، المغرب، 1981).
(31) توماس هوبس: اللفياثان، ص 55.
(32) Locke (John); An Essay Concerning Human Understanding, Jonathan Bennett, 2004. Chapter xxi: The Division of the Sciences, P 288.
(33) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 2: The Cause of Sensation, 2.2.
(34) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 4: The Mental Discourse, 4.9.
(35) توماس هوبس: اللفياثان، ص 37.
(36) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 4: The Mental Discourse, 4.10.
(37) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 8: Sensuous Pleasures; Honour, 8.6.
(38) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, Chapter 13: How people affect each other’s minds through language, 13.1.
(39) Hobbes (Thomas); The Elements of Law, 13.8.
(40) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، 54.
(41) د. إمام عبد الفتاح إمام: توماس هوبس فيلسوف العقلانية، ص 57.
(42) توماس هوبس: اللفياثان، ص 40.
(43) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 40 – 41.
(44) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 40، (التصرُّف بالترجمة). لم يستخدم هوبس مصطلح (Marking)، لكننا استخدمناه لغرض توضيحي.
(45) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 41. (التصرُّف بالترجمة).
(46) توماس هوبس: المصدر السابق نفسه، ص 45.
(47) Hobbes (Thomas); On Body, Chapter 1: Philosophy, 1.3. Mental Reasoning, Translation; George MacDonald Ross, 1975 – 1999.
(48) Hobbes (Thomas); Ibid.
(49) Hobbes (Thomas); On Body, Chapter 2: Words, 2.5. Names are Signs of Thoughts, Not Things.
(50) Hobbes (Thomas); Ibid, Chapter 2: Words, 2.5. Names are Signs of Thoughts, Not Things.
(51) Hobbes (Thomas); On Body, Chapter 5: Erring, Falsehood, and sophistries, 5.1. The difference between erring and falsehood; and how the mind can err without the use of words.
(52) Hobbes (Thomas); On Body, Chapter 2: Words, 2.2. The Necessity of Notes for Signifying Concepts of the Mind.
(53) Hobbes (Thomas); On Body, Chapter 2: Words, 2.4. The Definition of Name.
(54) Hobbes (Thomas); Ibid, Chapter 2: Words, 2.4. The Definition of Name.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى