د. محمد الشرقاوي - كيف يُنقذ الملك المرحلة؟.. أماراتٌ أولى لحقبة الأَمْنَنَة (الجزء 2)

# كيف يُنقذ الملك المرحلة؟.. دراسة تفصيلية في سبعة أجزاء: الجزء 2


كانت أحداث 16 ماي 2003 والمخاوف الأمنية اللاحقة ورقة تبريرية عزّزت غلبة الجناح المحافظ والمخزنيين الجدد، وحوّرت مسار المغرب نحو ممارسات قديمة. وتقول دراسة نشرها #معهد_البروكينز في واشنطن إنّ تلك الأحداث "ساعدت في تحفيز عودة ظهور قوات الأمن وأثارت فعليا عودة محدودة للممارسات التي اتّسمت بها سنوات الحسن الثاني: الاحتجاز غير القانوني والتعذيب والقمع للمعارضة الإسلامية."
وكلّما راج خطاب "#الحرب_على_الإرهاب" في العلاقات الدولية آنذاك بإيعاز من المحافظين الجدد في واشنطن الذين افتعلوا حرب العراق، غدا الهاجس الأمني وتحسّب وجود خلايا متطرّفة محور السياسات العامة في المغرب حتى الآن، وصار التعاون في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب والحد من الهجرة أهمّ أضلاع سياسته الخارجية إزاء الولايات المتحدة وأوروبا. فارتفعت أسهم النسق الأمني بفزّاعة #القاعدة لسنوات، قبل قيام #داعش منذ 2014، على حساب أنساق الحكامة المنشودة في العهد الجديد.
مرّت السنوات تباعا بتقلّص مستوى الآمال التي انتعشت في الأعوام الثلاثة الأولى. فنشب الزّلزال السياسي فجأة بفعل الانتفاضات الشعبية في يناير 2011. وردّدت شوارع الرباط والدار البيضاء وغيرهما صدى الهتافات بضرورة إنهاء الفساد والمطالبة برحيل أسماء معينة من حاشية الملك ضمن خطاب #إرحل ضمن حراك "الربيع العربي".
في مقالة تحليلية بعد عشر سنوات بعنوان #أملٌ_في_مصالحةٍ_وطنيةٍ_مغربيةٍ" (منشورة في 28 فبراير 2021)، أوضحتُ كيف أنّ حركة 20 فبراير "اختزلت أكثر من بقية ديناميات الحراك المغربي نبضَ المطالب الشعبية. وجمعت بين بُعديْن استراتيجين قلّما يجتمعان في حركة ابتعدت عن مغبّة استغلالها من قبل بعض الأحزاب: أوّلا، الانطلاقُ من رؤية محدّدة وبرغماتية للتّغيير وتحديد مكامن الفساد وأثريائه بمنطلق سلمي وقناعات غير مسيسة فوق المناورات الحزبية. ثانيا، تبنّي التّغيير القابل للتحقيق ضمن إطار ملكية دستورية، بما يجاري نظرية التحوّلات الديمقراطية المتدرّجة ضمن مفهومArab transitology أو التحوّل العربي المتدرّج الذي برز في عدد من الدّراسات الغربية خلال عام 2011. وتقوم هذه الفكرة على شيوع نظرية تصبو لأن تكون "عالمية" لإرساء الديمقراطية، وإمكانية دراسة عمليات الدمقرطة ذات الصّلة في سياقات اجتماعية مختلفة، مثل تجارب دول أوروبا الشّرقية ودول أمريكا اللاتينية عقب حقبة نهاية الحرب الباردة."
سارع المغرب إلى إدارة المرحلة بقرار تغيير الدستور وإجراء انتخابات جديدة في فترة قياسية، وسط التّلويح بالاستثناء المغربي باعتباره أحد الأنظمة الملكية الثمانية التي عايشت المرحلة بفرضية الاستقرار والإبحار بسلام. وفي دراسة بعنوان "الربيع العربي للمغرب" نشرها معهد الشرق الأوسط في واشنطن، لاحظ الكاتب جيمس ساتر أنه "يبدو أنّ الملكية سجّلت نقاطا مهمّة في تعاملها مع الربيع العربي. فقد بلور الملك صورته كحاكم ذي عقلية إصلاحية، وأعيد تأكيدُ الاستقرار السياسي قبل ظهور شكوك جدّية. وتُرجمت الرّوح الثّورية للربيع العربي إلى إصلاحات مفهومة وموجّهة من قبل الملكية."
واستعادت صورة المغرب بعض الانطباعات الإيجابية في أعين عواصم العالم التي ترقّبت أن تمضي الرباط قدما في خطط الانفتاح والإصلاح مقارنة بالأوضاع المتردية في ليبيا ومصر وسوريا واليمن. وكانت القراءات من الخارج تتفاءل بجدوى المرونة وتحديث الدستور التي أقرّتهما الملكية في المغرب إزاء تحديات المرحلة.
لكنّ مظاهرات #حراك_الرّيف في بداية 2017 ومشاهد الإنزال الأمني الكثيف في الحسيمة، وما تبعتها من اعتقالات وأحكام قضائية أودعت ناصر الزفزافي وبقية نشطاء الرّيف السجون بعقوبات ثقيلة، نالت من صورة المغرب، وأفقدتها بريقها في أعين العواصم الكبرى والمؤسسات الدولية التي بدأت تعيد تحليلها وتقديراتها لواقع المغرب الحقيقي والتنبيه إلى مجازفات النسق الأمني. وشدّد تقرير #البنك_الدولي على "ضرورة تحقيق روح الدستور الجديد ومبادئه بفعالية للمساعدة في تشكيل ملامح مجتمع أكثر انفتاحا وإنتاجية على المدى المتوسط والبعيد."
تلاقت في هذه المرحلة ثلاثةُ أمور فرضت نفسها على منظومة الحكم: اهتمامُ الملك بأحواله الصّحية، وإطلاقُ يد من وضع فيهم الثقة من المقرّبين في تدبير تحدّيات المرحلة، وتقلّص قنوات التّواصل المباشر بينه وبين بقية رجال القصر. وأبدت السنوات الأربع الماضية اتّكالا أكبر على النسق الأمني وتبرير السلطوية وإضعاف دور الأحزاب والمجتمع المدني أكثر من أيّ نسق آخر، على خلاف منطلقات الحكامة التي ظهرت في السنوات الأولى من العهد الجديد.
فتحوّلت فلسفة الإصلاح وفلسفة الإنصاف والمصالحة إلى ما يشبه تسليما بالأمر الواقع: أمننةُ المرحلة وتكريسُ سلطوية جديدة بمنطق "طحن مُّو، سجن مُّو، واركل مُّو"، بداية بمصرع محسن فكري في شاحنة قمامة، ومحاكمة الزفزافي ورفاقه، واعتقال صحفيّي الرأي توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي، ونهاية بما حدث خلال مظاهرة الأساتذة المتعاقدين في الرباط.
أضحت التقارير الدولية تتحدّث عن تراجع منسوب الحريات العامة وتقلّص رأسمال السياسي بين الدولة والمجتمع في المغرب. وكان تصنيف المغرب ضمن مؤشّر حرّية الصّحافة العالمي المغرب في عام 2018 في المرتبة 135 من أصل 180 دولة، مقارنة بالمرتبة 133 عام 2017 و131 عام 2016. وتراجعت مكانة المغرب خلال عام 2020 إلى مرتبات متدنية في القوائم الدولية، فجاء في مجال التحوّل السياسي في المرتبة 104 من أصل 120 دولة شملها مؤشر بي تي أي BTI، بمجموع 3.68 من أصل 10 نقاط ، وفي مؤشّر الحكامة في المرتبة 88 من أصل 120 دولة ب4.4 من أصل 10 نقاط. وتبعا لهذه التحوّلات، تقلّص الأمل في فلسفة الإصلاح والتجديد التي انتعشت بين 1999 و2004.
تساءلتُ قبل أكثر من عام في مقالة بعنوان "سبع مفارقات في العقل السياسي المغربي" (منشورة في فبراير 2020): "هل هي شيخوخة سياسية غير معلنة لمغرب 2020، إذا احتسبنا تآكل رأس الحربة السّياسية في الخارج، والاتّكال على المطرقة الأمنية في الداخل؟ ثمّة مؤشّرات أخرى على زمن الانتكاسة كتزايد الفجوة بين الدولة والمجتمع، وضياع البوصلة في التعامل مع حراك الرّيف ومعتقلي الرأي وسط تأرجح الموازين السياسية والمجتمعية منذ 2011، وغلبة الحرس القديم على دعاة الانفتاح على العصر وإصلاح النسق المخزني في القصر منذ 2003 حول ملك كان يفضّل إصلاح مؤسسة الحكم وانفتاحها على روح قرن جديد."
هو الآن عهدٌ جديدٌ قديمٌ عند مفترق الطرق بين التقليدانية والسلطوية من جهة ونية الإصلاح والبناء الحداثي من جهة أخرى. لكن يخشى عليه عبد الرحمن ابن خلدون من أن يضعف أو يفقد البوصلة إذا غاب التّوازن المطلوب بين الشوكة والعصبية والجند والمال.


يليه الجزء 3: #التّطبيع_والاعتراف_وحُجَّابُ_الحقيقة




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى