د. محمد الشرقاوي - كيف يُنقذ الملك المرحلة؟.. إسبانيا الجوار أم إسبانيا القطيعة؟ دراسة تفصيلية في سبعة أجزاء- (الجزء 5)

#كيف_يُنقذ_الملك_المرحلة؟..

الجزء 5

تتزايد التصريحات والتصريحات المضادة بين الرباط ومدريد، ويزداد السّجال السياسي بينهما حول وضع #إبراهيم_غالي وتدفّق 8000 من المهاجرين إلى ساحل سبتة بما وصل إلى التهديد بالقطيعة الدبلوماسية بين البلدين. ويستدعي تحليل الخلاف استحضارَ شتى الأسباب الجذرية والسّياق التاريخي وتلاطم الديناميات السياسية الرّاهنة:
#أوّلا، حسب مقياس الفعل وردّ الفعل بين الأطراف في حقب الأزمات الدولية، ينطوي موقف إسبانيا على أفعال متتالية، خاصة منذ ديسمبر من العام الماضي، باعتراض مدريد، قبل برلين، على قرار الرئيس ترمب الاعتراف بمغربية الصحراء واستضافة زعيم جبهة البوليساريو بجواز سفر جزائري في أراضيها.
وتشير نظريات تحليل الصّراعات إلى أنّ المسؤولية تكون أكبر على عاتق الطرف صاحب الفعل منها على الطرف الذي يتعين عليه اتخاذ ردّ الفعل. وتكمن المشكلة الجذرية في تطوّر موقف إسبانيا وعدم اتّساقه مع ذاته بين 1975 و2021. وثمّة تناقض جليّ بين موقف مدريد التي وقعت اتفاق مدريد أو "إعلان المبادئ" في 14نوفمبر 1975 مع المغرب وموريتانيا. وعبّرت عن رضاها بالانسحاب من الصحراء أمام شهادة ممثلي الأمم المتحدة كمبادرة طوعية لإنهاء الاستعمار في شمال غرب أفريقيا وفكّ سلطتها كقوة إدارية في المنطقة. وقام ممثلها العسكري آنذاك بإنزال العلم الإسباني في مدينة العيون في 28 فبراير 1976 قبل مغادرته الصحراء.
#ثانيا، لم تعد حكومة مدريد اليوم تتصرّف من مبدأ التزامها المعلن بالحياد أمام المجتمع الدولي عقب تسليمها سيادة الأرض إلى أصحابها المحلّيين، بل عدلت عنه بالدّخول مجدّدا في دائرة الصّراع وفق مصالح جديدة مع الدول الأخرى في غرب المتوسط. ويتماهى هذا التذبذب في موقف إسبانيا مع تذبذب مشابه في موقف الجزائر بين 1970 و1975 بإعلان "الحياد" بشأن مستقبل الصّحراء في #قمة_نواذيبو بين ملك المغرب #الحسن_الثاني والرئيس الجزائري #هواري_بومدين والرئيس الموريتاني #المختار_ولد_داده عام 1970، ثم الانقلاب على الحياد في مؤتمر وزراء الخارجية لجامعة الدول العربية عندما قدّم #عبد_العزيز_بوتفيلقة وزير خارجية الجزائر آنذاك موقفا معارضا لموقف المغرب من قضية الصحراء في أبريل 1975.
#ثالثا، يحاول المسؤولون الإسبان الاستثمار إلى أبعد حدّ ممكن في هذه الأزمة مع المغرب لتعزيز علاقاتهم مع الدول الأوروبية الأخرى. وعندما يتعاون الخطابان السياسي والإعلامي الإسباني في توظيف ما حدث في سبتة وتضخيم "شبح" الهجرة في أعين الأوروبيين وكأنّ المغرب يصنع #قنبلة_نووية_هِجْرَوِية ليقضّ بها مضجع الأوروبيين أو "يبتز" ميزانيتهم لصد الهجرة ، يتبدد ادّعاء رئيس وزراء إسبانيا بأنه يعتبر العلاقات مع الرباط "استراتجية". وينبغي أن يسأل نفسه إلى أيّ حد حافظت سياسته الخارجية إزاء المغرب ودول المنطقة أو بالأحرى قوّضت هذا البعد الاستراتيجي "المعلن". ولا يستقيم منطق السياسة الدولية بين إعلان "نية" الحفاظ على ما هو رصيد استراتيجي مع الجار على الضفة الأخرى من المتوسط والتصرّف بشكل "ميكيافيلي" مريب خارج نطاق التنسيق معه في أمور ذات حساسية سياسية ورمزية قصوى للمغاربة كافة.
#رابعا، ينمّ موقف إسبانيا حاليا عن التعنّت في وجه بعض الوقائع التاريخية وتفاعلات المصلحة السياسية. وعندما يشدد رئيس وزرائها بيدرو سانشيز في القمة الأوروبية في بروكسل الاثنين الماضي على أهمية ما وصفهما ب"ركيزتين" تستند إليهما العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، وبين اسبانيا والمغرب، وهما "الثقة" و"احترام حدود أوروبا، وحدود اسبانيا في سبتة ومليلية"، فإنّ هذا الخطاب يكشف مفارقة قد تلامس حد النفاق السياسي على مستويين اثنين:
أوّلا، ينبغي على رئيس الوزراء سانشيز أن يعي دلالة ما يعلنه أمام أنصاره الأوروبيين في منصة الوحدة الأوروبية، وألاّ يتوقف عند عبارة "ويل للمصلّين"، بل أن يكون الإقرار بأن تكون تصرّفات تعزيز الثّقة فعلية وحقيقية في الاتّجاهين معا: من الرّباط إلى مدريد، وأيضا من مدريد إلى الرباط. ومن يترقب الثّقة في سلوك الرباط لا يتصرّف بما يتعارض مع ثقتها في مدريد بتفاهمات وترتيبات من خلف حجاب لا تتناسب ولا ترقى إلى مستوى ما ينبغي أن تكون عليه أي ثقة متبادلة مفترضة بين البلدين.
أما المستوى الثاني فهو ما تخفيه عبارة رئيس وزراء إسبانيا بضرورة "احترام حدود أوروبا، وحدود اسبانيا في سبتة ومليلية." هو تجاهلٌ وتعارضٌ مع قناعة حكومة مدريد ذاتها منذ عقود زمنية بحقيقة الترابط السياسي والعضوي في تسوية وضع جبل طارق مع البريطانيين مع تسوية وضع مدينتي سبتة ومليلية، وأنّه حالما يتحرك مطلب مدريد بجبل طارق من لندن، يبدأ مسار الرباط في مناقشة وضع السيادة النهائية للمدينتين الواقعتين شمالي أراضيه، وليس جنوب أوروبا، مع حكومة مدريد.
#خامسا، حتى الآن، لم تُحرج الرباط المسؤولين في مدريد بطلب الإقرار بالمسؤولية عن استخدام الجيش الإسباني القنابل الكيميائية التجريبية لإخماد المقاومة بقيادة عبد الكريم الخطابي في حرب الرّيف الثالثة بين 1921 و 1927. ويمكن للمغرب التلويح بهذه الأعمال المحظورة بموجب اتفاقية جنيف التي تحظر "الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السّامة أو غيرها من الغازات والوسائل الحربية البكتريولوجية". وهي مخلفات ما قام به الإسبان وتسبب ولا يزال في ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان بين سكان الرّيف. ويكون من الأجدى أن يطالع رئيس وزراء إسبانيا كتابا واحدا من عدة مؤلفات وسير ذاتية لجنرالات إسبان وباحثين ألمانا وبريطانيين، ومن هم المؤرخ سيباستيان بالفور في كتابه Deadly Embrace #عناق_الموت"، بناءا على دراسته عددا من المحفوظات الإسبانية والفرنسية والبريطانية.
#سادسا، لا يستقيم المنطق السياسي لرئيس وزراء إسبانيا مع ثلاث حقائق: #التاريخ، و #الجغرافيا، و #التركيبة_الديمغرافية لسبتة ومليلية. وينبغي أن يطالع السيد سانشيز هو وزملاؤه في الحكومة في مدريد وثائق الأرشيف التاريخي لمعرفة كيف انتقلت السيادة على سبتة من البرتغال إلى الإسبان من خلال #معاهدة_لشبونة المبرمة في الثّالث عشر من فبراير 1668 بعد حملة الغزو التي شنها ملك البرتغال جون وأولاده وجنوده على المدينة عام 1415. ويظل الاستعمار البرتغالي وبعده الإسباني فترتين قصيرتين مقارنة بالوجود التاريخي منذ عشرات القرون قبل الميلاد ضمن الوجود التاريخي المغربي. وظلت المدينة مغربية أصيلة عبر التاريخ قبل احتلالها من قبل الفينيقيين في القرن السابع الميلادي.
تشهد الجغرافيا وتضاريس البحر المتوسط، وحتى حركة الرياح وتركيبة التربة، أن سبتة أو مليلية جزء لا يتجزأ من التجانس المغربي أكثر من التأثيرات الإسبانية. وتظل الملامح والطباع واللغة والثقافات العابرة بين الأجيال بين سكان المدينتين في أغلبها مغربية، وقد تجاوزت كل محاولات الأسْبَنَة أو التمسيح (من المسيحية) لهما خلال القرون الأخيرة.
ولا يتذكر رئيس وزراء إسبانيا عندما سلّم المغرب مذكرة احتجاج أودعتها الحكومة المغربية عام 1975لدى كل من الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الإفريقية، وجامعة الدول العربية، بعدما أصرّ الجيش الاسباني، قبل وفاة الجنرال فرانكو، على أن يختار سكان سبتة ومليلية من المغاربة بين الجنسية الإسبانية أو الحصول على بطاقة إقامة الأجانب. وعلى المستوى الشخصي، كانت الملكيات المغربية والإسبانية تحافظ على الودّ على أكثر من مستوى اجتماعي وسياسي. وكان الراحل الحسن الثاني يعتبر خوان كارلوس بمثابة أخيه قبل أن يصبح ملكا على إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو. وعندما توفي الحسن الثاني، قال كارلوس للملك محمد السادس إنه "يعتبر نفسه أخا له."


د. محمد الشرقاوي


1623006882835.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى