صباحاتها الرومانية لها طعم الكورنيتو* ورائحة الاكسبريسّو ومذاق الحياة المتجدُّد والمختلف والمبهر في معظم أحواله...
تخرج مشرقةً، تشبه شمس روما وهي ترسل خيوطها الأولى على تلالها السبع الحاضنة لسيدة المدن، الرفيعة الشأن، الموغلة في التاريخ، القديمة أحيانا، وإبنة يومها في كل حين…
تدفع أمامها عربة صغيرتها صعبة المراس مزعجة النوم، تناور الليل بطوله لتنعم بصحبة أمها القلقة من القفزات الليلية لهذه الحلوة التي لاتعرف النوم المتواصل فتحيِّر والدتها كثيراً، فكل من زارتهم من الاطباء يصفون حالتها بالدلال المفرط وتوابعه وارتداداته على ليال الأم الشغوفة بطفلتها النزقة.
تتمهّل في مشيتها مارّة على جيرانها أصحاب المحلات الصغيرة في الحي الروماني الشهير يحيّونها كل بطريقته بعضهم يغازلها بدلال الجار على الجار!! والإيطالي لطيف، وتحاياه مقبولة، ولا تزعجها. أحدهم عجوز شاب صاحب بقالة عريقة يعرف كل سكان الحي بالإسم، حتى أنه يعرف كم ليلة ناموها عميقاً وكم من ليال السهد مرّت بهم! هذا الجار الطيب يتابع طول شعرها وينزعج إن لاحظ أنها قصّرته قليلاً، يقول لها اتركيه لا تستعجلي ولا تفهم الشابة الصغيرة ماذا يعني بعدم الإستعجال غير أن نظرات زوجته المسنَّة توحي بالإجابة المؤجلة.
يرحب بها الباريستا* ويلاعب الطفلة ويدسُّ في يدها (الميني كورنيتو)* فتضحك الصغيرة وتأخذه وتقطعه قطعاً صغيره وتنثره حولها ويبتسم الرجل راضياً بفعلتها. يسألها دائماً عن إقامتها في(الستاتي اونيتي) كما يحلو للطليان تسمية أميركا ويتأهب للهجوم كلما حاولت مدح شيئاً فيها، يضم كفّيه ويرفعهما لمستوى الصدر بحركة يجيدها أهل هذا البلد كلما امتعضوا من أمرٍ أو تساءلوا عنه، يقول: لا تخبريني عن بلد لا يعرف أهله كيف يشربون القهوة!ويواصل بالكفين المحتجتين، كيف تحكم هذه الستاتي اونيتي الدنيا وهم يشربون القهوة في اشياء كالدلاء*.
تخرج الأم الشابة الى البياتسا* التي تطل عليها عمارات الحي التي تشهد الإحتفالات العارمة كلما فاز الرومانيستي* على أرضهم أو خارجها غير أن لفوز الفريق على غريمه اللدود(اللاتسيو)* طعم آخر واحتفال كبير قد يمتد ليلة بطولها.
هذه البياتسا تقول المرأة الشابة: هي إيطاليا صغيرة ترى فيها أهل هذا البلد من كل مدنه وقراه. يجتمعون يوم فرحهم، لا يتخلف أحد ولا ينبغي له أن يفعل، يرقصون ويغنون ويأكلون النقانق المشوية وتطل عجائزنم من الشبابيك المحيطة ملوّحاتٍ بعلم بلادهن وفريق روما ويشاركن الجميع التصفيق والغناء.
تمضي بسعادة المحب لأهله من الجيران الطيبين وتحيّي بائعة الخضار النشطة وبينهما مودة غامرة وصحبة وحكايات لا تنته عن البيوت والأزواج والغربة والبعد عن الأهل وحتى القرب منهم وتكاليفه المُرهِقَة كما تقول الإيطالية الجنوبية القادمة من نابولي.
كانت كلما تذكَّرتْ سنوات لقاءاتهما الأولى تبتسم لطُرفة تصرّ عليها السيدة كلما سألتها عن أحوال بلادها، وفيما تحاول الشابة أن تجيب تواصل -غير عابئة بتذكيرها بأن بلادها ليبيا وليست لبنان- أنتم في لبنان تعانون كما عانت نابولي أيام الحرب فتضحك يائسة من هذه الإيطالية التي لا تعرف بلاد هي على مرمى حجرٍ من شواطيء نابولي، أحتلتها إيطاليا وأتعبت أهلها طويلاً وكثيراً.
كانت كلما رمقتها من خلف ركنها الصغير حيث تجلس وأمامها الميزان تناديها فتعتذر أن لا وقت لديها وأنها لا تحتاج شيئاً، تلح عليها لتدخل لدقائق كما تعدها مؤكدةً: لن أطيل عليك إجلسي قليلاً فالعمر أمامك أما أنا فلم يبق لي إلا القليل وذاكرة تعج بالصور وبالحكي المؤجل ولا أدري لمن أؤجله. فتتراجع السيدة الشابة عن الإعتذار وتدخل مع الطفلة فتتمعن العجوز في قسمات الصغيرة وتتمتم مناديةً (الجوزّو والمادونّا)* ليحميانها من (المالوكيو*) وتلوم الأم الصغيرة عدم الأخذ بنصائحها فهي لا تعلق لها شيئا يقيها من العين وتبتسم الشابة وتطمئنها بأنها ستفعل.
تقول البائعة أنا مُتْعَبَةٌ جداً يا صديقتي.. أنا مصلوبةٌ على لوحٍ من القلق والإنشغال والجري المتواصل وراء لقمة عيشي وعيش أبنائي. وتفتعل الشابة الإندهاش وكأنها تسمع هذه الشكوى للمرة الأولى، وقد سمعتها كثيراً بعدد مرات خروجها من بيتها وسني إقامتها بهذا الحي العجيب بأهله وكأنه بيت واحد بمئات الغرف!
تواصل السيدة المسنَّة لو أن لي قلب يجاورني ويؤنسني حين أنام، لو أن لي قلب ينبض لأجلي إن تعب قلبي أو أصابه بعض وهن لهان علي ما أفعل. تجيبها السيدة الشابة وهي تعرف أن لها ولدين شابين وإبنة ويعيشون معها، انت بخير بيتك عامر بالقلوب المحبة. فتجيب بغضبٍ.. نعم مُحِبَةً بقدر عذاباتي ووهن جسدي من أجلهم.
تتذكرها هذا الصباح وهي تمارس -بحذائها الرياضي- مشيها اليومي في شوارع (روما) المدينة التي شهدت خطواتها الرشيقة بالكعب العالي جداً وتندهش كيف لم تُرْبِكُها تلك الأحذية العالية وكيف حافظتْ على المشية المزهوة وأرصفة روما عبارة عن قطع صغيرة متراصة من الحجر الروماني وخطأ بسيط في مشيتها قد يكلفها وقوع ومخاطرة.
تذكّرت مبتسمةً السيدة الإيطالية بائعة الخضار عندما احتجّت على تهنئة الشابة بنجاح إبنها وتخرجه فقد آن أوان راحتها هكذا أتبعت تهنئتها، لكن البائعة أجابتها بصوت تملؤه سخرية الألم وقلة الحيلة إنها لا شيء هنا، إنها مجرد ورقة (un pezzo di carta).
محبوبة خليفة
---------------------------
* الكورنيتو: الكراوسون * الباريستا: عامل البار * والبار في إيطاليا مكان للجلوس لاحتساء القهوة ولتلبية الطلبات وشراء الحليب ومنتجاته والمثلجات وغيرها * ميني كورنيتو: كرواسون صغير * الدلاء: يصف بسخرية فنجان القهوة الكبير (المق) * البياتسا:الميدان * الرومانيستي: مشجعي فريق روما * اللاتسيو: فريق روما الثاني المنافس * الجوزو والمادونا: سيدنا عيسى ومريم العذراء * المالوكيو: العين المسيئة أو الحاسدة * pezzo di carta: مصطلح إيطالي للسخرية من الشهادة التي لا تؤكل صاحبها عيشاً فيظل عاطلاً بها وبدونها.
* نشرت على موقع السقيفة الليبية الثقافي
تخرج مشرقةً، تشبه شمس روما وهي ترسل خيوطها الأولى على تلالها السبع الحاضنة لسيدة المدن، الرفيعة الشأن، الموغلة في التاريخ، القديمة أحيانا، وإبنة يومها في كل حين…
تدفع أمامها عربة صغيرتها صعبة المراس مزعجة النوم، تناور الليل بطوله لتنعم بصحبة أمها القلقة من القفزات الليلية لهذه الحلوة التي لاتعرف النوم المتواصل فتحيِّر والدتها كثيراً، فكل من زارتهم من الاطباء يصفون حالتها بالدلال المفرط وتوابعه وارتداداته على ليال الأم الشغوفة بطفلتها النزقة.
تتمهّل في مشيتها مارّة على جيرانها أصحاب المحلات الصغيرة في الحي الروماني الشهير يحيّونها كل بطريقته بعضهم يغازلها بدلال الجار على الجار!! والإيطالي لطيف، وتحاياه مقبولة، ولا تزعجها. أحدهم عجوز شاب صاحب بقالة عريقة يعرف كل سكان الحي بالإسم، حتى أنه يعرف كم ليلة ناموها عميقاً وكم من ليال السهد مرّت بهم! هذا الجار الطيب يتابع طول شعرها وينزعج إن لاحظ أنها قصّرته قليلاً، يقول لها اتركيه لا تستعجلي ولا تفهم الشابة الصغيرة ماذا يعني بعدم الإستعجال غير أن نظرات زوجته المسنَّة توحي بالإجابة المؤجلة.
يرحب بها الباريستا* ويلاعب الطفلة ويدسُّ في يدها (الميني كورنيتو)* فتضحك الصغيرة وتأخذه وتقطعه قطعاً صغيره وتنثره حولها ويبتسم الرجل راضياً بفعلتها. يسألها دائماً عن إقامتها في(الستاتي اونيتي) كما يحلو للطليان تسمية أميركا ويتأهب للهجوم كلما حاولت مدح شيئاً فيها، يضم كفّيه ويرفعهما لمستوى الصدر بحركة يجيدها أهل هذا البلد كلما امتعضوا من أمرٍ أو تساءلوا عنه، يقول: لا تخبريني عن بلد لا يعرف أهله كيف يشربون القهوة!ويواصل بالكفين المحتجتين، كيف تحكم هذه الستاتي اونيتي الدنيا وهم يشربون القهوة في اشياء كالدلاء*.
تخرج الأم الشابة الى البياتسا* التي تطل عليها عمارات الحي التي تشهد الإحتفالات العارمة كلما فاز الرومانيستي* على أرضهم أو خارجها غير أن لفوز الفريق على غريمه اللدود(اللاتسيو)* طعم آخر واحتفال كبير قد يمتد ليلة بطولها.
هذه البياتسا تقول المرأة الشابة: هي إيطاليا صغيرة ترى فيها أهل هذا البلد من كل مدنه وقراه. يجتمعون يوم فرحهم، لا يتخلف أحد ولا ينبغي له أن يفعل، يرقصون ويغنون ويأكلون النقانق المشوية وتطل عجائزنم من الشبابيك المحيطة ملوّحاتٍ بعلم بلادهن وفريق روما ويشاركن الجميع التصفيق والغناء.
تمضي بسعادة المحب لأهله من الجيران الطيبين وتحيّي بائعة الخضار النشطة وبينهما مودة غامرة وصحبة وحكايات لا تنته عن البيوت والأزواج والغربة والبعد عن الأهل وحتى القرب منهم وتكاليفه المُرهِقَة كما تقول الإيطالية الجنوبية القادمة من نابولي.
كانت كلما تذكَّرتْ سنوات لقاءاتهما الأولى تبتسم لطُرفة تصرّ عليها السيدة كلما سألتها عن أحوال بلادها، وفيما تحاول الشابة أن تجيب تواصل -غير عابئة بتذكيرها بأن بلادها ليبيا وليست لبنان- أنتم في لبنان تعانون كما عانت نابولي أيام الحرب فتضحك يائسة من هذه الإيطالية التي لا تعرف بلاد هي على مرمى حجرٍ من شواطيء نابولي، أحتلتها إيطاليا وأتعبت أهلها طويلاً وكثيراً.
كانت كلما رمقتها من خلف ركنها الصغير حيث تجلس وأمامها الميزان تناديها فتعتذر أن لا وقت لديها وأنها لا تحتاج شيئاً، تلح عليها لتدخل لدقائق كما تعدها مؤكدةً: لن أطيل عليك إجلسي قليلاً فالعمر أمامك أما أنا فلم يبق لي إلا القليل وذاكرة تعج بالصور وبالحكي المؤجل ولا أدري لمن أؤجله. فتتراجع السيدة الشابة عن الإعتذار وتدخل مع الطفلة فتتمعن العجوز في قسمات الصغيرة وتتمتم مناديةً (الجوزّو والمادونّا)* ليحميانها من (المالوكيو*) وتلوم الأم الصغيرة عدم الأخذ بنصائحها فهي لا تعلق لها شيئا يقيها من العين وتبتسم الشابة وتطمئنها بأنها ستفعل.
تقول البائعة أنا مُتْعَبَةٌ جداً يا صديقتي.. أنا مصلوبةٌ على لوحٍ من القلق والإنشغال والجري المتواصل وراء لقمة عيشي وعيش أبنائي. وتفتعل الشابة الإندهاش وكأنها تسمع هذه الشكوى للمرة الأولى، وقد سمعتها كثيراً بعدد مرات خروجها من بيتها وسني إقامتها بهذا الحي العجيب بأهله وكأنه بيت واحد بمئات الغرف!
تواصل السيدة المسنَّة لو أن لي قلب يجاورني ويؤنسني حين أنام، لو أن لي قلب ينبض لأجلي إن تعب قلبي أو أصابه بعض وهن لهان علي ما أفعل. تجيبها السيدة الشابة وهي تعرف أن لها ولدين شابين وإبنة ويعيشون معها، انت بخير بيتك عامر بالقلوب المحبة. فتجيب بغضبٍ.. نعم مُحِبَةً بقدر عذاباتي ووهن جسدي من أجلهم.
تتذكرها هذا الصباح وهي تمارس -بحذائها الرياضي- مشيها اليومي في شوارع (روما) المدينة التي شهدت خطواتها الرشيقة بالكعب العالي جداً وتندهش كيف لم تُرْبِكُها تلك الأحذية العالية وكيف حافظتْ على المشية المزهوة وأرصفة روما عبارة عن قطع صغيرة متراصة من الحجر الروماني وخطأ بسيط في مشيتها قد يكلفها وقوع ومخاطرة.
تذكّرت مبتسمةً السيدة الإيطالية بائعة الخضار عندما احتجّت على تهنئة الشابة بنجاح إبنها وتخرجه فقد آن أوان راحتها هكذا أتبعت تهنئتها، لكن البائعة أجابتها بصوت تملؤه سخرية الألم وقلة الحيلة إنها لا شيء هنا، إنها مجرد ورقة (un pezzo di carta).
محبوبة خليفة
---------------------------
* الكورنيتو: الكراوسون * الباريستا: عامل البار * والبار في إيطاليا مكان للجلوس لاحتساء القهوة ولتلبية الطلبات وشراء الحليب ومنتجاته والمثلجات وغيرها * ميني كورنيتو: كرواسون صغير * الدلاء: يصف بسخرية فنجان القهوة الكبير (المق) * البياتسا:الميدان * الرومانيستي: مشجعي فريق روما * اللاتسيو: فريق روما الثاني المنافس * الجوزو والمادونا: سيدنا عيسى ومريم العذراء * المالوكيو: العين المسيئة أو الحاسدة * pezzo di carta: مصطلح إيطالي للسخرية من الشهادة التي لا تؤكل صاحبها عيشاً فيظل عاطلاً بها وبدونها.
* نشرت على موقع السقيفة الليبية الثقافي