ماجد سليمان - شرق الأرض، غرب البحر / المشهد السابع

(طريق ضيّقة، رُصفت بالأجحار الصغيرة، ناقصة أعمدة الإنارة، يسير عمير وثلاثة من الجند يهذرون بكل طعام أو شراب، يمسك بماسورة بندقيته تاركاً عقبها يخطّ الأرض خلفه، أمعاؤه تُقَرقِر جوعاً، ولهاته تكاد تيبس من فرط الظمأ، يمشون صامتين، أعينهم في الأرض وأكتافهم كالمدقوقة، أوقفهم صوت عجوز من الطابق الثاني من إحدى البنايات)

العجوز: أيها الأبطال، تعالوا إلى هنا، أعددت لكم القهوة والطعام، هيا أيها الأبطال.

(ينظرون في بعضهم، ثم يصعدون السلم الخشبيّ، كانت العجوز في انتظارهم عند بابها: قصيرة شبه متينة، كأن الزمان ضرب على وجهها أخاديداً من التجاعيد، بشرتها بيضاء، عيناها خضروان صغيرتان، أنفها صغير أيضاً، على جانبه الأيمن غَرَسَت فصاً أحمرَ تحيطه دائرة خضراء، انحنت لهم محييّة)

العجوز: أهلاً أهلاً، تفضلوا

(يدلفون إلى مقهى صغير كل أثاثه من الخشب عدا خزانة الطعام من الصفيح، إلى يمين النافذة منضدة صغيرة، مغطّاة بملاءة صفراء، بجانبها حاجز بلاستيكي بطول الصبيّ، له رفوف صغيرة، عليها فناجين زجاجية، ومن ورائها خزانة تحوي صفوفاً من العلب والأدوات المطبخية، ومن بين الخزانة والحاجز، مكان يقارب الذراع للدخول، يقابله منضدة مزيّنة بغطاء كثيف الألوان، حولها ثلاثة كراسي من الخيزران)

العجوز: (يغلب عليها السعال، كأنّها لاهثة منهوكة) ما تحبون أن أقدمه لكم؟ (وهي تضع الماء على غلاية صغيرة) القهوة جاهزة، كذلك الخبز الأسمر المحشو بالجبن وقطع الدجاج الصغيرة.

عُمير: (بعد أن أسند سلاحه إلى الحائط أسفل النافذة) هُبّي إلينا بالخبز والماء، فالقهوة ليست بمرضية جوعنا

العجوز: في الحال في الحال

(يلفت نظره ورقة ملصقة إلى طرف النافذة، كُتب عليها: مقهى الحزب الوطني، كانت المرأة قد جاءت بصحن مستطيل عليه ثلاث قطع من الخبز المحشي) أتسكنين في مقهاك هذا؟

العجوز: (مبتسمة) بالطبع

(تشير إلى ركن المقهى به فراش مطويّ ومصباح صغير وعلبة ماء معلّقة)

العجوز: (تصطحب كرسياً رابعاً وتقابلهم على الطاولة نفسها) سعدت بكم يا أبنائي

عُمير ورفيقاه: (بصوت جماعي واحد) ونحن أكثر يا أمّاه

العجوز: (تجمع يديها إلى بعضهما ملتفتة إلى النافذة) كانت هذه الحرب تحدّياً كبيراً لسحق الخائنين من أبناء هذه المدينة

عُمير: . . . . . . .

العجوز: تخيلوا خمساً وأربعين سنة ونارها لم تهدأ أو تقف ولو لسنة واحدة من سنواتها المشتعلة بالنار والحديد

عُمير: ألكِ أقارب شاركوا فيها؟

العجوز: (تحني رأسها) ابني الوحيد (يرنو الصمت وتتقد الدهشة في عيونهم) كان ابني عاشقاً للسلك العسكري مذ كان طفلاً، كنت أمنعه من مشاهدة الكتائب أو الفرق العسكرية أو حتى سيارات الجيش العابرة من أمام منزلي الصغير، والذي بعته بعد قتله كنوع من تكريس الدعم الكبير للحزب الوطني للانتقام من الخائنين.

عُمير: لكن لمَ؟

العجوز: (تستنشق تزفر طويلاً) لم أكن أريده أن يقتنع بمثل هذا رغم انتمائي للحزب الوطني ودعمي المعنوي الكبير لرجاله وقادته.

عُمير: وأين هو الآن؟

العجوز: (تعيد وجهها في النافذة) قُتل (تمسح أسفل أجفانها بظهر يدها) قُتل قبل سنوات حين كان يطارد جماعة مسلحة في أضيق أزقة المدينة.

(ثم تحني رأسها) مشيت في جنازته وغناء رفاقه الجند وهم يردّدون أغاني النصر والمجد له، كنت أُغنِّي معهم بصوتي المخنوق والمتألم، وأنا أشاهد اهتزاز جثّته من اهتزاز العربة التي يجرّها حصانان أحمران، على جنبيهما علم البلاد، وشعار الحزب الوطني على جانبي العربة (تخرج من جيبها منديلاً قماشياً، وتمسح به ما انزلق من دمعها) عذرا يا أبنائي فدمع المحزون ليس من إرادته، لقد قضيت السنون الماضية وأنا أعبّر عن حزني ببذل كل ما أملك لنصرة الحزب والجيش

عُمير: (متأثراً من قصتها) رأيت تعبير ذلك حتى في طرف نافذة المقهى، أنت امرأة قدمت طفلها للحرب قبل أن تقدمه رجلاً، ليموت من أجل كحل البلاد وجمال عينيها

العجوز: الحبّ والحرب يا أبنائي ثنائيان متلازمان دائماً

عُمير: (يهزّ رأسه) الحبّ والحرب، توءمان يا أمّاه، توءمان كلامهما يهرس جانباً من روح المحب، ولا ندري عن المحبوب كيف يتطلّع إلى المحب وقتها! (ينتبه للمعان دمعها في تجاعيدها البيضاء، وهو يهدهد على ظهر يدها) النصر قادم يا أمّاه، النصر قادم.

العجوز: (تبتسم ابتسامة مزيجها البكاء، وتشير له بأن ذلك سيكون، تتلاقى عيناه الصافيتان بعينيها الهرمتين) أتعلم يا بني، في قسماتك وملامحك الكثير من ابني، بل حتى إشفاقك علي يذكرني به، لم تخبرني عن اسمك وأسماء رفاقك؟

عُمير: (مبتسماً) أنا عُمَير وهاذان الرفيقان: مريد وعدي

العجوز: (مبتسمة لهم) نصركم الله يا أبنائي

عُمير: (بصوت في تأتأه) لكن لم تخبريني ما اسمك يا أماه؟

العجوز: اسمي خاتون

عُمير: (تقفز عيناه) خاتون؟!

العجوز: نعم خاتون أفي اسمي ما هو غريب؟

عُمير: أبداً أبداً

(تصرخ السماء لحظتها فوق السقف، أصوات طلقات مدفعية غزيرة تُمزّق صمت السكّان، قاذفات تعبر السماء لا يُعرف عددها من كثرة الأصوات النفّاثة، وتنطفئ الكهرباء، فيلتقط عمير ورفيقاه أسلحتهم ويهبطون من السلم مسرعين، بينما العجوز ترسل لنا هتاف النصر من نافذة المقهى، حتى أتتها رصاصة من أسفل البناية، ليقع جثمانها على حافة النافذة إلى جانبها الورقة الملصقة)

عُمير: (بصوت ناع) خاتو و و و و و ون.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مسرحية: شرق الأرض، غرب البحر، نادي الجوف الأدبي 2018م.

ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى