إذا كان لا مفر لنا من التسليم، بالإحالة إلى القول السائر الإيطالي (Traduttor, traditore)، بأن الترجمة خيانة، فإن الترجمة عن الترجمة خيانة مضاعفة. ذلك أن المسافة التي تفصل لا محالة النص المترجم عن النص الأصلي تتضاعف في حال المرور بلغة وسيطة بين اللغة الأصلية للنص وبين اللغة المترجم إليها.
ولكن على حين أن الخيانة لا تقبل أي تبرير من وجهة نظر الوطنية، فإن الترجمة، أو حتى الترجمة عن الترجمة، قد تجد من وجهة نظر ثقافية، حاجة ليس من سبيل إلى سدِّها عن طريق آخر بحكم المعطى الجيو ـ ثقافي.
فلئن تكن الثقافة العربية، التي هي نموذج منقطع النظير لثقافة تراثية، لم يُقيَّض لها أن تتصل بالحداثة إلا من خلال الوساطة اللغوية لأكبر قوتين إمبرياليتين في العصر الحديث، أي الإنكليزية والفرنسية، فإن المرحلة الاستقلالية، التي بات لها من العمر اليوم ثلاثة أرباع القرن، لم تستطع، إلا في حالات استثنائية، أن تكسر طوق ذلك الاحتكار اللغوي الذي فرضه المستعمر الأنغلو ـ فرنسي، إن لم يكن عن سبق قصد، فعلى كل حال نزولاً عند مقتضيات الأمر الواقع.
وعلى هذا النحو، وباستثناء حالات فردية نادرة، فإن علاقة الثقافة العربية الحديثة بالثقافة العالمية بقيت ملزمة بالمرور بالإنبيق اللغوي الأنغلو/ فرنسي حتى في حال التعاطي مع الثقافات الأوروبية التي لا تنتمي إلى لغة المستعمر السابق مثل الألمانية أو السويدية أو اليونانية.
وفي حالة فرويد خاصة والتحليل النفسي إجمالاً كان الخيار ذا حدّين لا ثالث لهما: إما أن تبقى الثقافة العربية في حال من القطيعة مع ذلك الفتح العلمي الكبير الذي مثَّلته الفرويدية، وإما أن تنهل بدورها من معين هذا الفتح ولو عن طريق لغة وسيطة، مع كل ما يترتب على الترجمة عن ترجمة من مخاطر الابتعاد عن حرف النص الأصلي، إن لم يكن عن روحه.
زد على ذلك أن اللغة الألمانية التي بها كتب فرويد ومعظم رواد التحليل النفسي من غير الألمان تختلف بنيةً وروحاً وحرفاً اختلافاً غير هيِّن عن الواسطة اللغوية شبه الإجبارية كما تتمثل بالإنكليزية أو الفرنسية.
ومع ذلك، كان الخيار يفرض نفسه فرضاً: فليس لأي ثقافة معاصرة أن تفتح لنفسها قفل الحداثة وهي تفتقد مفتاحاً أساسياً من مفاتيحه كما يتمثل بالتحليل النفسي، الفرويدي منه وغير الفرويدي على حدّ سواء. ومن هنا كانت مغامرة القرار الذي اتخذتُه قبل نحو من أربعة عقود بتقديم مؤلفات فرويد العربية ولو بالترجمة عن الترجمة الفرنسية لمؤلفاته والذي تمخض خلال عقد السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي عن ترجمة أو تعريب ثلاثين ونيِّفٍ عنواناً من مؤلفات فرويد التي تناهز الأربعين.
ولئن انقطعتُ منذ منتصف الثمانينات نهائياً عن الترجمة لأنصرف إلى التأليف، فقد جاء اقتراح دار مدارك ومؤسسها الزميل تركي الدخيل بإعادة نشر مؤلفاتي وما لم يفقد راهنيته من ترجماتي ليتيح لي فرصة ثمينة لإعادة النظر في ترجماتي للنصوص الفرويدية. ذلك أنه صدرت باللغة الفرنسية خلال العشرين سنة الأخيرة ترجمات جديدة ومتعددة لمؤلفات فرويد، بلغ عددها بالنسبة إلى الكتاب الواحد في بعض الحالات ثلاث أو أربع ترجمات، فضلاً عن صدور ترجمة جديدة وكاملة لأعماله من قبل فريق عمل واحد في عشرين مجلداً.
والحال أنه بالاستناد إلى جدلية تشبه ما عرفته الثقافة العربية الحديثة من جدلية الترجمة والتعريب تميَّزت الترجمات الفرنسية الجديدة عن القديمة بحرصها على حرف النص الألماني الأصلي بقدر ما تميَّزت القديمة بالحرص على أداء المعنى بلغة مفهومة للقارئ المعاصر. ومن هذا المنطلق، وبالاستناد إلى هذه الترجمات الحديثة المتعددة للنص الواحد، قمت بمراجعة شاملة، وجذرية أحياناً، لترجمتي السابقة لمؤلفات فرويد محاولاً التوفيق، بالقدر المستطاع، وبالقدر الذي تتيحه اللغة العربية، بين روح النص الفرويدي وحرفه الذي هو على درجة عالية من الرهافة والدقة المفهومية ـ شبه المستغلقة أحياناً ـ في آن واحد.
وقد انتهزت فرصة هذه المراجعة الشاملة لترجماتي السابقة لأقدّم في الهوامش شروحاً بيانية لا بأسماء الأعلام وحدها ـ وما أكثرها في النصوص الفرويدية ـ بل كذلك بجميع الوقائع التاريخية والإحالات الثقافية التي قد لا يكون للقارئ العربي المعاصر من منفذ مباشر إليها.
وبدون أن نماري في صحة القول المأثور الإيطالي عن الترجمة = الخيانة، فلنقل إن الترجمة هي أيضاً اجتهاد، أو باستعارة تعريف أبي حيان التوحيدي المشهور للنقد، هي كلام ثانٍ عن كلام أول ولكن بلغة أخرى.
ولكن على حين أن الخيانة لا تقبل أي تبرير من وجهة نظر الوطنية، فإن الترجمة، أو حتى الترجمة عن الترجمة، قد تجد من وجهة نظر ثقافية، حاجة ليس من سبيل إلى سدِّها عن طريق آخر بحكم المعطى الجيو ـ ثقافي.
فلئن تكن الثقافة العربية، التي هي نموذج منقطع النظير لثقافة تراثية، لم يُقيَّض لها أن تتصل بالحداثة إلا من خلال الوساطة اللغوية لأكبر قوتين إمبرياليتين في العصر الحديث، أي الإنكليزية والفرنسية، فإن المرحلة الاستقلالية، التي بات لها من العمر اليوم ثلاثة أرباع القرن، لم تستطع، إلا في حالات استثنائية، أن تكسر طوق ذلك الاحتكار اللغوي الذي فرضه المستعمر الأنغلو ـ فرنسي، إن لم يكن عن سبق قصد، فعلى كل حال نزولاً عند مقتضيات الأمر الواقع.
وعلى هذا النحو، وباستثناء حالات فردية نادرة، فإن علاقة الثقافة العربية الحديثة بالثقافة العالمية بقيت ملزمة بالمرور بالإنبيق اللغوي الأنغلو/ فرنسي حتى في حال التعاطي مع الثقافات الأوروبية التي لا تنتمي إلى لغة المستعمر السابق مثل الألمانية أو السويدية أو اليونانية.
وفي حالة فرويد خاصة والتحليل النفسي إجمالاً كان الخيار ذا حدّين لا ثالث لهما: إما أن تبقى الثقافة العربية في حال من القطيعة مع ذلك الفتح العلمي الكبير الذي مثَّلته الفرويدية، وإما أن تنهل بدورها من معين هذا الفتح ولو عن طريق لغة وسيطة، مع كل ما يترتب على الترجمة عن ترجمة من مخاطر الابتعاد عن حرف النص الأصلي، إن لم يكن عن روحه.
زد على ذلك أن اللغة الألمانية التي بها كتب فرويد ومعظم رواد التحليل النفسي من غير الألمان تختلف بنيةً وروحاً وحرفاً اختلافاً غير هيِّن عن الواسطة اللغوية شبه الإجبارية كما تتمثل بالإنكليزية أو الفرنسية.
ومع ذلك، كان الخيار يفرض نفسه فرضاً: فليس لأي ثقافة معاصرة أن تفتح لنفسها قفل الحداثة وهي تفتقد مفتاحاً أساسياً من مفاتيحه كما يتمثل بالتحليل النفسي، الفرويدي منه وغير الفرويدي على حدّ سواء. ومن هنا كانت مغامرة القرار الذي اتخذتُه قبل نحو من أربعة عقود بتقديم مؤلفات فرويد العربية ولو بالترجمة عن الترجمة الفرنسية لمؤلفاته والذي تمخض خلال عقد السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي عن ترجمة أو تعريب ثلاثين ونيِّفٍ عنواناً من مؤلفات فرويد التي تناهز الأربعين.
ولئن انقطعتُ منذ منتصف الثمانينات نهائياً عن الترجمة لأنصرف إلى التأليف، فقد جاء اقتراح دار مدارك ومؤسسها الزميل تركي الدخيل بإعادة نشر مؤلفاتي وما لم يفقد راهنيته من ترجماتي ليتيح لي فرصة ثمينة لإعادة النظر في ترجماتي للنصوص الفرويدية. ذلك أنه صدرت باللغة الفرنسية خلال العشرين سنة الأخيرة ترجمات جديدة ومتعددة لمؤلفات فرويد، بلغ عددها بالنسبة إلى الكتاب الواحد في بعض الحالات ثلاث أو أربع ترجمات، فضلاً عن صدور ترجمة جديدة وكاملة لأعماله من قبل فريق عمل واحد في عشرين مجلداً.
والحال أنه بالاستناد إلى جدلية تشبه ما عرفته الثقافة العربية الحديثة من جدلية الترجمة والتعريب تميَّزت الترجمات الفرنسية الجديدة عن القديمة بحرصها على حرف النص الألماني الأصلي بقدر ما تميَّزت القديمة بالحرص على أداء المعنى بلغة مفهومة للقارئ المعاصر. ومن هذا المنطلق، وبالاستناد إلى هذه الترجمات الحديثة المتعددة للنص الواحد، قمت بمراجعة شاملة، وجذرية أحياناً، لترجمتي السابقة لمؤلفات فرويد محاولاً التوفيق، بالقدر المستطاع، وبالقدر الذي تتيحه اللغة العربية، بين روح النص الفرويدي وحرفه الذي هو على درجة عالية من الرهافة والدقة المفهومية ـ شبه المستغلقة أحياناً ـ في آن واحد.
وقد انتهزت فرصة هذه المراجعة الشاملة لترجماتي السابقة لأقدّم في الهوامش شروحاً بيانية لا بأسماء الأعلام وحدها ـ وما أكثرها في النصوص الفرويدية ـ بل كذلك بجميع الوقائع التاريخية والإحالات الثقافية التي قد لا يكون للقارئ العربي المعاصر من منفذ مباشر إليها.
وبدون أن نماري في صحة القول المأثور الإيطالي عن الترجمة = الخيانة، فلنقل إن الترجمة هي أيضاً اجتهاد، أو باستعارة تعريف أبي حيان التوحيدي المشهور للنقد، هي كلام ثانٍ عن كلام أول ولكن بلغة أخرى.