د. علي خليفة - خيال الظل شكل من أشكال المسرح عند العرب

(١)
أقدم الإشارات التي نثق في صحتها تشير إلى أن العرب عرفوا فن خيال الظل في القرن السادس الهجري، وأن من أفضل من قدم بابات خيال الظل هو ابن دانيال الكحال الذي نشأ في الموصل بالعراق، وغادرها إلى مصر وسنه تسعة عشر عاما بعد غزو التتار للعراق، وعمل بمصر طبيا للعيون، ومارس خلال ذلك قول الشعر، وكتابة بابات خيال الظل وإخراجها للجمهور، ومن أهم باباته بابة طيف الخيال أو الأمير وصال، وبابة عجيب وغريب، وبابة المتيم.
(٢)
وخيال الظل عمل جماعي، فهو يعتمد على نصوص مكتوبة بطريقة الحوار، ويقوم مجموعة من العاملين بتنفيذه بعد ذلك في قاعة مغلقة أمام مجموعة من الجمهور، ويرى الجمهور في هذه القاعة أمامه شاشة بيضاء، وخلف هذه الشاشة يقف المخايل يحرك عرائس مصنوعة من جلد الجمال، وينعكس خيال هذه العرائس على تلك الشاشة البيضاء بأثر تسليط ضوء عليها.
وأيضا من العاملين في خيال الظل بجوار المؤلف للبابات والمخايل المحرك لها من وراء الشاشة البيضاء - نرى الحازق الذي يلون صوته مع ما يتناسب مع كل شخصية تعرض وتمثلها عروسة من العرائس، وكذلك هناك الريس الذي هو بمثابة المخرج في عروض خيال الظل.
(٣)
أما عن بابات خيال الظل؛ أي نصوصه التي يتم تمثيلها، فهي تحتوي على قصص وحكايات، وغالبا نرى ضعف الإثارة فيها، وقلة التشويق بها، وبناء على ذلك فالصراع فيها ضعيف هو أيضا، وغالبا ما يظهر الصراع فيها في صراع الكباش، وصراع الديوك.
ولأن عروض خيال الظل في القرن السادس الهجري وما تلاه من قرون كان الحضور فيها قاصرا على الرجال؛ ولهذا رأينا كثرة المجون بها، وكثرة ذكر ألفاظ العورات فيها؛ مما جعل الدكتور إبراهيم حمادة يحذف كثيرا من العبارات في البابات الثلاث التي حققها ونشرها لابن دانيال الكحال.
وكذلك نرى من خصائص بابات خيال الظل أنها تجمع بين الشعر والنثر، ويغلب السجع على حواراتها، وهي بهذا الشكل أقرب لفن المقامة، لكن فن المقامة يختلف عنها في أن لغته كانت كلها فصيحة، وأحيانا كانت بعض المقامات تجمع فيها بعض المتون اللغوية، كبعض مقامات الهمذاني والحريري، أما بابات خيال الظل فكانت تكتب بفصحى ممتزجة بالعامية، وأحيانا تكثر المفردات العامية فيها وتسف بغرض إضحكاك الجمهور.
كذلك تختلف المقامة عن فن خيال الظل في أن المقامة كان يتوجه كتابها لصفوة القرّاء، ولهذا فإنها تعد من الفنون التي تمتاز بقوة اللغة وفصاحتها وبلاغتها، في حين كان خيال الظل يتوجه به لعامة الناس؛ ولهذا لم يكن مستغربا أن نرى سوقية بعض ألفاظه، ومجون بعض موضوعاته.
(٤)
وكانت عروض خيال الظل في الماضي تقدم للكبار فقط، وكان كاتب بابات خيال الظل يراعي طبيعة هذه الجماهير التي يغلب عليها أنها من العامة، فلا يهتم في الغالب بغير إضحاكهم بكل الوسائل بما في ذلك عن طريق التنكيت، والقافية، والردح، والسب والشتم، وكذلك عن طريق الإفراط في الإشارات الجنسية، والحديث المباشر عن الجنس فيها.
وأغلب الظن أن نصوص خيال الظل المكتوبة لم تكن تمثل لمن ينفذونها في القاعات التي تعرض فيها غير سيناريوهات لعدة أحداث، ويتم ملؤها بعد ذلك خلال العروض الظلية بارتجالات عديدة، ويتم التدعيم بها بغرض إرضاء الجمهور الذي يحضر تلك العروض بإثارة ضحكه بشكل كبير.
(٥)
وبعض النقاد المعاصرين لا يرون أن خيال الظل له أي علاقة بفنون الفرجة أو بجذور المسرح العربي من قريب أو بعيد، ومنهم الدكتور محمد مندور والدكتور عبد المعطي شعراوي؛ بسبب ما في نصوص بابات خيال الظل من توسع في استخدام العامية، وكثرة في ذكر أمور الجنس بها.
في حين هناك فريق آخر من النقاد في العصر الحديث يرون أن فن خيال الظل هو ليس فقط أحد فنون الفرجة عند العرب، بل إنه أيضا شكل من أشكال المسرح، نرى فيه عرائس تقوم بالتمثيل، وممثلين يتكلمون عنها، وهناك جمهور يشاهد هذه العروض.
ومن النقاد الذين رأوا أن خيال الظل يمثل شكلا من أشكال المسرح عرفه العرب منذ القرن السادس الهجري الدكتور عبد الحميد يونس والدكتور علي الراعي الذي يقول: إن عروض خيال الظل تشبه العروض المسرحية التي كانت تعرض في أوروبا في العصور الوسطى، فكان يتم عرضها في ثلاثة ليال متتالية، وفيها يظهر ملك الموت، ونرى هذا الأمر في بعض عروض خيال الظل، مثل: بابة المتيم لابن دانيال الكحال.
والحقيقة أنني إميل لهذا الرأي الأخير الذي يعد فن خيال الظل أحد أشكال المسرح التي عرفها العرب قديما، وأرى في الوقت نفسه أن نصوص خيال الظل التي وصلتنا لا تعطينا صورة كاملة عن كيفية تنفيذ هذه النصوص، فقد كان يتم الارتجال من خلالها، والتغيير في مساراتها وفق أهواء الجمهور الذي يشاهد هذه البابات لخيال الظل.
ولهذا فإنني أختلف مع العلامة الدكتور أحمد عتمان في قوله في كتابه الشعر الإغريقي تراثا إنسانيا وعالميا: "إن الإغريق وحدهم - من بين الشعوب القديمة - هم وحدهم الذين عرفوا الدراما في أكمل صورها، وإن أي مسرح عند غيرهم - من القدامى والمحدثين - وصل إلى مرحلة من النضج يدين لهم بالوجود"، وأيضا أختلف معه في قوله: "وكثير من الشعوب لديهم بذور الدراما من أساطير وخرافات وفنون فرجة، ولكن المهم أن تتطور هذه البذور وتتبرعم وتنمو؛ حتى تأتي بالثمار، وهذا ما لم يحدث لدى الشعوب القديمة سوى بلاد الإغريق".
وفي اعتقادي أن كل أمة قد عرفت التمثيل قد أوجدت الشكل المسرحي المناسب لها، والمعبر عن ثقافتها وحضارتها وعاداتها وتقاليدها؛ ولهذا تكونت عند بعض الأمم منذ القدم أشكال مختلفة من المسرح، ومنها مسرح النو الياباني ومسرح الكابوكي الياباني، وقد أفاد بريشت كثيرا في مسرحه الملحمي من هذين الشكلين من أشكال المسرح.
(٦)
وإذا كانت عروض خيال الظل في الماضي في مجتمعنا العربي تقدم للكبار وللرجال فقط - فإننا نرى عروض خيال الظل تقدم في العصر الحديث في عالمنا العربي للأطفال، وفي قاعات خاصة بهذه العروض.
ولكن للأسف لا توجد قاعات كثيرة خاصة بهذه العروض، كما أننا نرى ندرة كبيرة في المسرحيات التي تكتب للطفل لتنفذ من خلال خيال الظل.
وغالبا ما نرى توظيف خيال الظل ضمن مسرحيات للأطفال تستعين بوسائل أخرى خلال عروضها، كالعرائس والممثلين من البشر، ويشير بعض كتاب مسرح الطفل في بعض نصوصهم للمواقف التي يمكن أن يتم تنفيذها بطريقة خيال الظل، كما نرى هذا في مسرحية البلياتشو وست الحسن لسمير عبد الباقي، ومسرحية الأراجوز الكسلان للسيد فهيم.
ونأمل في المستقبل القريب بإذن الله أن تكثر في بلادنا العربية قاعات مسرح خيال الظل، وأن تكثر النصوص التي تكتب لها، وتقدم للطفل.
وأيضا نأمل أن يتم جمع كل البابات القديمة التي يمكن العثور عليها، وأن تحقق وتنشر، وأن يمثل بعضها في قاعات معدة لذلك، وتكون مخصصة لجمهور من الكبار.


د. علي خليفة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى