محمد محمود الفخرانى - السيرة والمتخيل الروائي لشريف محي الدين، في شارع العزب

شارع العزب : هي عمل إبداعي ينتمي إلى
رواية
السيرة الذاتية ،
، ذلك الجنس الأدبي الذي يقع بين
السيرة
والرواية....

السيرة الذاتية هي فن البوح،حيث تهتم بالحدود والمنهي عنه، وتتضح بها شجاعة الاعتراف.
وهي قد صارت من أهم اتجاهات الأدب الحديث
لاهتمامها بتلك الجوانب التي تكشف المشاعر السرية العميقة، للنفس البشرية، مما يعطي للعمل عمقا وصدقا ويكسبه حميمية، و. تلقائية،
وهي تحدث حالة من اليقظة الرقابية للمثقفين، خارجية، وكذلك داخلية.
ولا يكون هناك مجال لهيمنة الحراس المتزمتين، أولئك الذين أعلنوا أنفسهم حراسا للأدب التقليدي
فالسيرة هي تاريخ فردي يرتبط بالتاريخ العام مع ضرورة هيمنة الوظيفة الأدبية للغة.


وقد قدم الكاتب العالمي جان جاك رسو، مثالا أدبيا باعترفاته التي مثلت وقتها أكبر ازعاج للحكومات، وقلبت المستوى العالمي لدرجات البوح، والمسكوت عنه...

أما رواية مدارات لهنري ميلر، فقد حفلت بجميع أنواع القمع ، داخليا وخارجيا.

.....

وفي رواية الأيام لطه حسين سنجد أن الأدبية تعلو علي التاريخية،حيث زادت بها درجات البوح والمصارحة، مما أزعج معظم السياسين.
وقد كان الاسلوب الأدبي بها، لا ينفي التاريخي ولكن طه حسين وظفه بطريقة جمالية تبين العام والخاص،
الذاتي والموضوعي، الكلي والجزئي.
فغابت الحدود المسموح بها، تحت إغواء جمال اللغة والإبداع، فأكسب النص صفة تاريخية وديمومة جعلته ملكا للجماهير.

و في رواية شارع العزب ،

نحن بصدد رواية تتكون من ٨٣ فصلا، تتعدد بها الأصوات...
أصوات المستوى الأول؛
منها؛
أحمد، طارق، دينا،الأم، الجدة، الجد، الأب
أصوات المستوى الثاني منها :
الفخرانى، ضياء طمان ،عبدالفتاح مرسي، جابر بسيوني، عادل يوسف، حلمي عسكر.
أصوات طيفية منها :
عبدالله
عبدالله هاشم، الخالة صفاء، سمير غطاس، المعلم منصور، سلوى محرز، فيولا...
ونلاحظ أن المعلم منصور صار أيقونة هذا الشارع، فقد أصبح بطلا بعد ثورة يناير وهو في الأصل تاجر للمخدرات.


في ذلك العمل سنجد أن
شريف محيي الدين يهتم بجماليات الشفافية، ووحدة التأثير، واعلاء قوة المصارحة والأدبية.
حيث تدور الأحداث في حي المندرة بالإسكندرية، الذي جعله الكاتب كمعادل موضوعي للأيديولوجية التي يحملها العالم كله.
فهو ينظر من خلال الشارع إلى العالم ويعتمد على استعارة الماضي، مع جماليات موسيقى اللغة، ويربط بين الحاضر والماضي، الخاص والعام من خلال هيمنة الوظيفة الأدبية مع التطابق
الذي حافظت سيرته الذاتية على مبدأ التطابق بين المؤلف والشخصية والسارد.
وقد استخدم ضمير الغائب الذي يتحول أحيانا إلى المتكلم،
وقد ينحي أحيانا إلى نوع من التجريد البلاغي القديم.
مثال : بعد موت أختيه شيرين ونهى تم تطويع العمل من متكلم إلى ماضي...
-فلم أكن أعرف بعد المعنى الحقيقي للموت، فقد رأيته في عين أبي، وفي انحناءة ظهر أمي
- صفحة ٨
هنا المؤلف يهتم ببلاغية الإيحاء، فقد أوحى إلينا بقضية الموت ومراحل الفقد، مع استكمال طرق الحدث الذي تأكد لديه بأنه ليس في صالحه وإنما لصالح الفقد الذي يترصد هذه العائلة....
فقد الأشخاص، والأقارب، والوظيفة.
وقد نلحظ سطوع ظاهرة التلباثي، او التخاطر عن بعد
فيما يعرف بالحدس حيث تتم المعرفة المسبقة للحدث قبل وقوعه.
فالعقل البشري هنا يدور في دائرة العقل الكوني لأنه من مخلوقات الله وهذا يتجلى في لحظات الصفاء الذهني التي تربطه بالكون ارتباطا وثيقا فيما يعرف بالماورائيات.

يحسب للمؤلف أنه تجنب الضغط الانفعالي،ومن المعروف أنه ليس مطلوبا في العمل الأدبي الوصول إلى حالة الإجهاش ، بل لابد من الحياد الفني مع الطبيعة.
مما يؤكد على أن
الإبداع هو عملية مضنية شديدة الصعوبة
حيث يعاني المبدع دائما كي يرتقي سلم الإبداع، ولقد عرف الأديب القديم عناء التعامل مع الفن كما أدرك أهميته في مخاطبة وجدان الشعوب

في ض ٢٩٢ نجد الراوى يلتفت إلى جثمان أبيه وقد أشفق عليه من القبر...
فيقول في نفسه لأبيه الميت ؛ لعلها لحظة ميلاد جديد.
نحن هنا نتعامل مع كاريزمات دفاعية لاشعورية للفرد كوسيلة حماية لنفسه من الانهيار.

و يتخذ المؤلف من الجدل المادي والميتافيزيقي الروحاني طريقا يبدو وكأنه مقدساً.
وتتناول الرواية أهمية دور الأب حيث توضح كيف أن الابن في غياب الأب يتوه في غيابات لا تحد ، بينما في وجوده يظل عفيا في وجه الحياة كلها،


الكاتب هنا قد دلف إلى الحياة السياسية ليس من الباب الرئيس، ولكن بقدر تحقيق التلوين الذاتي، وهو قارئ جيد للتاريخ حيث يستخدمه كمعادل موضوعي لكثير من قضاياه،و قد يصدره لنا من باب المعرفة التاريخية، وفي كتابات شريف قصدية لمجابهة الألم والمعاناة، والفقد والخوف، فلا سبيل للخلاص إلا بالكتابة وكأنها هي الدواء أو المسكن للألم الذي يبدو وكأنه فرح مقيم...
وقد
ربط المؤلف التاريخ الشخصي بتاريخ الوطن،في روايته التي هي رواية تكوين، حيث تبدأ مع البطل وهو طفل صغير ثم تمتد لتشمل كل مراحل عمره، كاشفة لمشاعره السرية، فنجده قد اهتم بالمستوى السيكولوجي، كما أنه طرح كثير من القضايا وصدر العديد من المعارف التاريخية في إطار من التشويق الذي يعمل على لذة القراءة، و مجابهة الأيام والتجارب والآلام، بحرفية وفنية عالية ، يقول شريف في روايته؛( كان أبي يئن، يقف بجسده العاري)وهو ربما كان يقصد احالتنا إلى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
وحين يؤكد على أهمية الحضور الجسدي، وحضور الأب، فهو يؤكد على حضور الوطن.
الذي لا يقتلعه الزمن أو التاريخ
(أبي الذي يموت ويحيا ألاف المرات ص ٢٦٠)
إننا قد نكون أمام إحالات لزعماء ورموز لقادة شاهدههم المؤلف وهم يقتلون:
( صدام العراق ، قذافي ليبيا ، صالح اليمن.... إلخ (
وقد تعرض المؤلف لكثير من نواهي القمع، واندفعت بعض الأقلام لمنع هذه الرواية، بينما هي تحكي مأساة الإنسان المصري العربي المعاصر.

ومن الشخصيات التي قذف بها المؤلف لتخفيف الحدة شخصية ريم
حيث يظهر الميكانيزم الروائي في وصفه لها مرة كوجه صريح مباشر، ومرة أخرى غامض بكل دقائقه الفيزيائية...
وقد كان وجه ريم يمثل للكاتب وجه المأساة، فهي السبب في خلعه من عمله، حيث عصفت به الأنواء، والكاتب لم يعمد إلى تقديم فتاته على أنها الوجد الذي يلاحقه،، ولم يملأ الدنيا حبَورا لأن روايته لا تقع في زمرة الرومانسية، وهو ذكاء من المؤلف في تناوله لقضايا الحب، وهو الذي يحمل صخورا بركانية في دمه، وقد كان المقابل لريم ظهور شخصية فيولا، ذلك الوجه الذي يذكرك بالجحيم، والغدر فهي كبيرة حراس سامي عسكر، التي تقوم بالترهيب والترغيب.
والمؤلف متحفظ لا يتمرد على الحدود القصوى السياسية والاجتماعية، فهو مثل الكاتب الكبير محمد شكري صاحب الرواية العظيمة الخبز الحافي،
والتي تمت ترجمتها إلى ٣٧ لغة منها الفرنسية والإنجليزية، وما اثارته من جدل في شتى أنحاء العالم.


وتدور الأحداث من خلال سيرة الكاتب في حي المندرة الذي يمثل حضارة موغلة في القدم، أوهمنا المؤلف أنها ذات بعد تاريخي
( الإسكندر الأكبر جلس هنافي تلك القاعة التي كانت تجتمع فيها العائلة التي تفرقت)
جعل الشارع (عالمي)
شارعي أنا، وشارع الآباء، مصريون، وعرب، ويونانيون،.وقد خدم عالم الأدب في إتاحة التعمق والتأمل في حالة سكان الحي...
من خلال النزوع الأبولوني، والدينوسي...
فدينوس
يمثل الدافع البدائي غير العقلاني، و يمثله الفن الرومانسي وتحكمه العاطفة، فهو هوائي، لعوب يخرج عن الرتابة، ويرجع إلى إله الخمر عند الإغريق
أما الأبولوني فيعود إلى أبولو حيث التأمل والرغبة في الوضوح والنظام
وسنجد في هذا الشارع التاريخي ذي المؤثرات التاريخية حالات معرفة للذات ونكرانها، والننزوع إلى البطولية، والجدية، ولقد تعلم الشعراء من فريدريك نيتشه النزوع إلى التأمل...
بينما نزع الأدب إلى المأساة ونشأتها،
وفى هذا العمل سنجد صراعا جدليا جوهريا بين الأبولوني، والدينوسي.
وقد صنع الكاتب استراحة محارب في حالات مناجاة النفس لينفصل به عن المعارك الذهنية والنفسية
ويلجأ إلى حديث الذات... المنولوج الداخلي /الخارجي،
، وهي براعة تحسب للكاتب وتجعل أنصاف المثقفين يتوجسون خيفة من كتابة السيرة الذاتية

إن الكاتب جيمس جويس هو كاتب تيار الوعي الذي أضاف الفكر الفلسفي ليتميز عن الفكر السوقي التجاري، السهل، فقدم الأدب المغاير الذي يهدف إلى تحريك عقل المتلقي والغوص في معطيات الوجدان وتيار الشعور، و الولوج إلى علم النفس التطبيقي..
(ربما كان حلما قصيرا) (، موت الأب، ونهى وشيرين، و( الكلبة بوني)
(ونحن لازلنا نعاسا نغط في نوم عميق)

أجاد الكاتب في وصف شخصيات العمل،،،،
فسمير غطاس تحديدا يتحلى بين طياته بمنهج التقية، فهو المنافق الجبان الذي يعلن غير ما يضمر، ويظهر ما لايبطن، وقد كان هناك تطابق بين صفاته وقبح منظره
(لديه بشرة غريبة، لا تشبه بشرة البشر، جلده مشدود متوتر، دائما به لمعة غريبة ربما تعكس طبقات الدهن، يمشي متماوجا، لا تكاد تشعر به، وكأنه لا يملك قطعة عظم في جسده، فهو أشبه بثعبان يبث سما ونفاقا)
صورة ساخرة مرسومة ببراعة تعبر عن شدة التطابق بين الشكل والجوهر...
صورة تحس، وتسمع بل وتشم
فالكتاب اتبع طرقا وصفية ذات أهمية قصوى، أنعقدت على العلة الدرامية بين الواصف والموصوف....


ختاما نحن أمام، رواية رائعة معنية بفلسفة تتعلق بمباحث الوجود بوصفها
تقوم على نسبية وغموض الأشياء الأنسانية وهي تتصالح مع روح الحداثة بامتياز
بالفعل هي تكشف عن بديهة لماحة، مع معرفة بأدق المشاعر التي تخالج الانسان ،خلال مسيرته

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى