د. أماني فؤاد - فقط بعض الملابس الخاوية.. قصة قصيرة

كان عليها أن ترسل إيميل للشركة في هولندا ترجوهم إلغاء سفرتها التي تقررت في السابق، تبحث عن حاسوبها، تتظاهر بأنها لا تراه، في النهاية تُرغم أصابعها على الكتابة.

تقف خلف الزجاج تراقب حبات البرَد الصغيرة، تتساقط بيضاء دائرية، ثم ما تلبث أن تذوب وتختفي، تتجمد أطرافها رغم كوب القرفة الساخن، الذي تتصاعد أبخرته على ملامحها، انتبهت لورقة شجر يابسة، تطفو على سيل ماء منحدِر نحو طريق بلا معالم أو نهاية، هي الأخرى تطفو على الأيام، يلفُّها الحزن ويخفيها في طياته.

كانوا قد طلبوا سَفرها منذ فترة للمقر الرئيس، حين تأكدت من الموعد؛ أرسلت تخبره، قال: هكذا تكون الأخبار السارة. اشتغلتْ بهِمَّة على استكمال ما طُلب منها من رسومات ودراسات جدوى، فتلك فرصتهما ليكونا معًا، حتى لو لأيام معدودة.

انتبهت أثناء عملها على صوت تسلُّم هاتفها لرسالة، وجدتها منه؛ فرحت، لكنها أرجأت قراءتها على مَهل.

راحت تتوقع ما كتبه، بلا شك، سيخبرها بما يخططه للأيام التي سيقضيانها معًا. كانت تمنِّي نفْسها بالعودة إلى بيتها؛ لتنفرد بكلماته، تحلم بمتعة الوقت القادم معه، التنزُّه وحدهما، تذوُّق ما يقوله ويفعله برويَّة، تخيَّلت بيتًا صغيرًا يجمعهما بعيدًا عن العمل.

مرَّت عيناها على الأسطر سريعا، لم تستوعب، عاودَت القراءة مرَّات، بدأت السطور ترتعش، تتساقط الكلمات؛ فتتكسَّر وتتهشَّم داخل عينيها، تنشرخ أرض روحها لنصفين إثر زلزال لم تتوقعه، ربما رجَّحته في فترة سابقة من عُمر حُبِّهما، ليس الآن.

كتب يقول: إنه يشعر بتأنيب الضمير منذ شهور، فهو يحب زوجته ويحترمها، وهي الأخرى تبادله نفْس المشاعر وأكثر، كما أن أطفاله صغار، وبحاجة لكامل رعايته ووقته، طلب أن يَظلَّا أصدقاء، وأن عليها أن تتفهَّم. حاول تلطيف كلماته؛ فذَكَر أنه كان يفرح بها.

نظرت للرسالة طويلا، قرأتها مرَّات؛ لئلا تنسى ما بها من كلمات، والأهم كان عليها أن تستدعي بعضها الذي يجب أن يتفهَّم. تعجَّب من عدم تلقي أي رد؛ فكتب يقول: أعرف أنك رأيتِ. اضطُرَّت؛ فكتبتْ كلمة واحدة: “أتفهم”.

كيف لمن أحَبَّ يومًا أن يمارس القسوة على هذا النحو!! على الأرجح لم يحبها قط..

بعضها – هذا الذي يتفهَّم – سيحاول إقناعها لاحقا أنه شُغف بها، لم تكن لديه نزوة تلاشى الاهتمام بها مع الوقت، نِصفها هذا قد يلتمس له الأعذار، سيدعي أنه لم يكن يقصد دفْعها إلى التعلق به، فدون أن يشعُرَا انساب بينهما جدولًا رقراقًا، بعضها هذا سيقول: إنه يخشى على أولاده وحياته التي هيَّأها قبل أن يلتقيا. بعضها هذا يبرر له بأن الحب يمكن ألا يقتصر على فرد، وتتعدد صوره.

بعضها الآخر – الذي أخرسته – يتصادم بجدران ضياعها. دلفت إلى ذاتها، ترتطم بها الأسئلة؛ فيتهاوى كيانها، ثم تعاود الوقوف: لماذا الآن، كيف لم يدرك أن عبورها إليه لم يكن سهلًا، كمّ نحّت مخاوفها الكثيرة لتصمتَ عمَّا يمكن أن يؤذيه أو يقلقه؟ لماذا يتركها الآن تكابد انخلاعه، غرقها في بحيرة حزن كثيفة؟

لم تسعفها حروفها لقول أي شيء؛ صمتت. كانت كلما اغمضت عينَيها؛ وَجَدَتْه يهديها عصفورًا يغرِّد، وحين يهِمُّ بالتحليق؛ يهشَّم أجنحته الملونة أمام عينَيها. ربما أوجعتها حقيقة أنه حينما يوجَد الحُبُّ؛ يأتي مغموسًا بالمرارة.

أول تعارفهما، كانت كلَّما ابتعدتْ؛ مَدَّ جُسورًا، وكلَّما دلَف إلى صمته؛ أشعلتْ من أجْله البخور، ونثَرتْ الشموسَ والأغنياتِ، كانا سطرًا يعشق التالي، ويستدعيه، ثم سريعًا ما يمحوه.

ظنَّ هو أنه بمجرد طلبه أن يكونا أصدقاء؛ سيتلاشى شعوره بالذنب، أو يكاد، فحبيبته لم تعد حبيبته، لن يخفي شيئًا، لن يختليَ بنفْسه دقائق ليكتب لها، أو يفكِّر فيها، لن تأتي بأحلامه، تخلَّص مما كان يؤرّقه.

تنقَّلتْ مذبوحة بين كهوف صمتها، تنزف روحها وهي تسير، فالحياة لا تسمح لنا باستراحة ألمٍ إلا نادرًا، مَرَّ اليوم الأول، وتلاه ثانيا، ثم مرَّت الأسابيع، كانت مياه الأشياء تجف بداخلها.

لا يدري، لماذا تتثاقل الأيام على روحه، عينه الشاردة فقط تصحبه أينما ذهبَ، يشعر بالبهجة قد ولّت؟ تذوَّق معها عذوبة تغازِل جوهر مشاعره، راقت له، كيف لم يطفِئْ قراره ظلال شموعَها بقلبه.

أحد الصباحات التي اشتد فيها الحنين، سألها: متى ستأتين لتباشرين عملَكِ؟ ردَّت بأنها طلبت إلغاء سفرتها.

ثمة أمر يجرح بعضها الذي لا يتفهَّم، بَدَتْ كأنها لديه الوقت الفائض من الحياة! الدقائق التي يسرقها وهو يتلفَّت حول نفْسه، ثم يعاوده الندم سريعا! وهو يقرر لم يشعر بالعطب الذي سيجتاح كيانها، هل سيعيدها قرارُه بيضاءَ بلا ذاكرة؟ للَّحظة قبْلَ أن يلتقيا؟ فلا تعاني فقْدًا، ودون أن تتساقط عشرات الخطط التي حلِمَا بها معًا.

طهَّرت تجويف أذنيها مِرارًا من أشواقه التي سمعتها، كانت تمحو ما بقِيَ في عينَيها من كلماته؛ فتعاندها وتُعاود رغمًا عنها الظهور. تُلملِم خططه التي حلَّقت كثيرًا فوق أقراطها، وانسابت بين خصلات شَعرها لتبعثرها بعيدًا. كان عليها – لكي تتعايش – ألَّا تترك شيئًا.

تعاركت صرخات الأسى المكتومةُ داخل كهوفها دون أن تُفصح أو يصدر لها صوتٌ، صرخات تشقُّ الصدر كما الروح. لم يكن أمامها إلا أن تلملم انكسارها، حين امتدت أصابعها تقشِّر قِصَّتهما معًا وتتأمُّلها، استقرَّ بكيانها أن الحُب مهما بدا بحجم الكون؛ يختنق، تلفلفه أكفان الواقع سريعًا، تلفظه الحياة كما لفَظها بقراره.

حين اضطُرَّت للسَّفر بعد شهور، طلبوا عرْض ما أنجزتْ أمام مجلس إدارة الشركة، وكما يؤدِّي الروبوت؛ فَعَلَتْ، ربما سَمعته يعلِّق، لكنَّ عينَيها لم تَرَ إلا فراغًا، لاحظت ملابسه فقط فوق مقعده الدائري، الذي يتصدر الطاولة، كانت ملابسه خاوية منه، يتحرك كُمَّاها؛ فتعلو الأنسجة البيضاء لِوَجه، ثم تركن بالقرب من ذقنه، ثم تهبط لتدُقَّ على الطاولة ليدعم رأيًا، ثنيات ملابسه وحركتها فقط ما تؤكِّد وجوده.

كيف لم تعد تراه!؟ نظَّارته المُلقاة على الطاولة تلك تعرفها، كانت كلما اقتربت منه تخلعها عن عينيه؛ لتتسع مساحة وجهه لقُبَلها دون عائق.

قال الطبيب لاحقًا شيئًا عن العَمَى النوعي الذي أصابها، هوانها عليه غلَّق عينيها رغم نصفها المتفهِّم. حكى زملاؤها في المساء أن القمر رائعٌ، دعَوها لرؤيته من الشرفة، كان أن وجدت السماء شديدة الظلمة، فارغة تمامًا، فقط بعض الملابس الخاوية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى