رسالتان بين شاكر حسن آل سعيد وحاتم الصكر

* رسالة شاكر حسن آل سعيد
هذه ليست رسالة بمقدار ما هي ممارسة (قبلية a priori) لأثري الفني الموسوم باسم (كتاب) وهو ما وعدتك به أخيراً بعد أن طلبت ذلك مني (بقيت متردداً في أن ألبي طلبك أو أرفضه لولا أنه أتضح لي بصورة قلبية وليس منطقية أن معنى كل من الطلب وتلبية الطلب بيننا يتجاوز مسألة (عقلانية التقنية) أو أن التفسير (الاستهلاكي) للموقف الإنساني المعاصر يستطاع تجاهله عند الاحتكام للتفسير (الإنتاجي) الذي يظل هو المحك الإبداعي للفكر الحر).

كان مما ألهب في الرغبة لكتابة الرسالة أيضاً ما نعتني به في محاضرتك الأخيرة عني (في ندوة معرضي الاستعادي) بكوني أمثل (الضحية – البطل) في أعمالي وقد قرأت هذه (العتبة) بالطبع قراءة سمعية على أنها بمعنى (الضحية – الجلاد) (وهذا المعنى الآخر كما ترى يرد في كتابي "الحرية في الفن" ) لكن ما أعنيه هو أنك كنت تتوغل في معنى (حريتي الذاتية) وهي متقنعة بقناع (عبوديتي الموضوعية) فهي بالضبط (نقطة) التحول من مركز مندلا (الذات) إلى محيطها (الموضوعي) ولنقل أن زحزحة الذاتوية الآن التي ستضحي بـ (المؤلف) لتحصل منه (مؤسسة للبناء الداخلي للشخصية الذاتوية وهي حالة تحققها لـ "طرح وإعطاء donnee" ) .

هذه الزحزحة الذاتوية هي الآن (تهميشها) على (موضوعية الموضوعية) وهي التي توصف بكونها (سر السر) هي (المخدع) وليس (الباب).

**

منذ أكثر من خمس سنوات وحتى اليوم وأنا أجد أن من مصادر رؤيتي التقنية وربما الأسلوبية هو (الكتاب) ولكن من خلال (مرجعيته) المخطوطية (أي الحرفية بالذات) ، فالكتاب الآن هو (الغلاف) الأول له والذي جعل منه الحروفيون مدخلاً لما يتضمنه من أوراق مدون عليها بالحروف والعلامات المقروءة ، ولكن هذا الغلاف الأول هو أكثر من ورقة مدونة بل هو (هالة مزخرفة مع "اسم" مدون ) ، كان سيعتبر بمثابة (المفتاح) لكل ما ستتضمنه المدونة من أفكار .. ومع ذلك فقد كان لي مع هذا (الغلاف: أو أحد جلدي المخطوطة) شأن كما هو الإطار المزخرف لأية لوحة مخطوطة (الخطاطون اعتادوا أن يزخرفوا مدوناتهم عبر التاريخ) .. لماذا الزخرفة مع الكتابة ؟ ولماذا كانت جلدة الكتاب تتضمن قصاصات من الورق بما عليه من كتابات ؟ لقد شغلني حقاً هذا التفاني أو التداخل بين الأمرين (ومن تجليات ذلك بالطبع لدى المؤلفين ما يحتويه "المتن" وما يحتويه "الهامش" كذلك أي أن يدون كتابان الأول على الهامش والآخر على المتن) ، كل ذلك وغيره .. كان ولا يزال من أسرار اتخاذي جلود المخطوطات القديمة مصدراً من مصادر عملي الفني ..

هذه اللوحة المزدوجة على الورق وأنا أعيش معها (ولكن بصورة غير مقصودة) كونها (مسقطاً) لما يسميه (جيل دولوز) في كتاباته عن (مشيل فوكو) بـ " بعد الانتظار" وهو عبارة عن (تمفصل) الداخل مع الخارج ، أن هذا البعد يشكل ما يأمله الإنسان وينتظره فيما هو يمارس ذاته في ضوء (علاقته) المثلثة بالجسد والحقيقة والسلطة ، كالخلود والخلاص والانعتاق أو حتى الموت (يرد ذلك في مقال لعلي حرب: مثلث الفلسفة / العدد 13/14 لعام 1991م من مجلة العرب والفكر العالمي "ص223" ) ، إذن فليس الاهتمام بالعالم اللغوي (عبر الكتاب وتصحيفه) أمر يخلو من مستواه الرؤيوي (وكما أن للجسد البشري وغير البشري "هالة" بل هالات غير مرئية أو أجساد أخرى لا ميتافيزقية بل "فيزيقية – شبحية" فكذلك الكتاب بحروفه وأسلوب تدوينه ومداده فضلاً عن الأفكار التي ترد فيه – وبعبارة أخرى بجسده الفيزيقي – له جسده الشبحي (أو التصحيف) وهو جزء لا يتجزأ منه).

إن شغفي بالعالم اللغوي لم يكن أمراً عرضياً ، وأعتقد كما هو شأن (هنري ميشو) أن استخدام (الحبر) و(الكتابة) و(الورق) (وهو "مفصل" مهم من مفاصل اللغة المشتركة بين الرسم وفن التدوين) جزء من شخصيتي ككاتب ورسام في آن واحد (فأنا مزدوج الشخصية من هذا المنطلق) وذلك لأني أميز تماماً بين (الروح والجسد) مع أنهما مزدوجان في حضورهما خلال الجسد الحي .. (وقد جرني هذا الشعور بالفكر "كعلاقات" بين الدوال وليس مجرد "معنى" ) إلى نتائج أخرى في معنى (التفاني) بين المخلوقات (الإنسانية الخليقية) وسيجرني دونما ريب إلى معنى (الإنسان الكوني) باعتباره (علاقات) هي على الأقل بين ما يسمى (بالوعي وفوق الوعي أو اللاوعي) هي الآن (علاقة) أيضاً (بين عقدتي الشعور بالنقص " = في الدول النامية " والشعور بالتفوق " = في الدول الأورو – أمريكية " وكل " التداعيات" الأخرى في هذا المجال .. الإنسان الكوني إذن وليس كما اعتبر " غابوياً " بالسوبر مان "بعكس ما قصده نيتشه" ). الإنسان الكوني هو الذي يستطيع أن يقرأ جلدة المخطوطة كجزء من المدونة المخطوطية .. أن يجد كما يقول محي الدين بن عربي شيخنا الكبير: " في يوم السبت الاستحالات والتكوين والتغيرات والتلوين فتنوعت الصور والأشكال ، وتغيرت المناصب والأحوال ، فصار الآباء أبناء والأبناء آباء ".

وتداخلت الموجودات (لاحظ كلمة تداخلت) بعضها في بعضها وحصل خفضها في رفعها ورفعها في خفضها ، واستحال المعدن نباتاً (ت: في منهج معراجي وليس اركولوجيا) والنبات حيواناً والحيوان إنساناً والإنسان معدناً (ت: بداية المنهج الاركولوجي واستئناف المنهج المعراجي اسطورياً) ، وهذه هي نقطة (جيل دولوز) في (بعد الانتظار) أعلاه .. (تمفصل الداخل بالخارج) وضرب الكل بالكل ، وظهرت القوة بالفعل ، وعاد العزيز ذليلاً والذليل عزيزاً ، والحديد لجيناً والنحاس ذهباً ابريزاً والمركب محللاً (disstruction=) مفصلاً والمحلل مركباً (re- structure) موصلاً وهكذا في الآخرة (ص 194 في كتاب لطائف الأسرار ، تأليف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي / 1961).

إذن ، فجلدة الكتاب هي الكتاب والكتاب هو جلوده إلى ما شاء الله.

فمن ذا الذي يستطيع أن يتغاضى عن العلاقة بين (الذي) و(الشخصية) إلا بالهاجس والكلام ؟ (فلم يبق إلا صورة اللحم والدم).

ومن ذا الذي يستطيع أن يميز بين كونه (ضحية) أو (بطلاً) إلا في أن يتعامل مع (الطبيعة البشرية) وليس (عقلانية التقنية) التي بدأت تهدم (الطبيعة) ؟ أي نسغها (الحرفي) لكي تحيله إلى نسغ (تقني) ؟ وهو الذي سوف يستعيره الفنان (مقلداً) مخترعاته المصنعة (مقلداً الحاسبة والكمبيوتر وسواهما ) بما سيضمن (استهلاكية) مواصلاته الاجتماعية ؟ من ؟

هل نحن تقنيون من أجل أن نظل حرفيين أم نحن حرفيون من أجل أن نظل تقنويين ؟

أخي الأستاذ / حاتم
أرجو أن تتقبل مني هذه الهدية (المتواضعة) إزاء كرمك الجم أخلاقياً وإنسانياً ، فأنا لا أزال لا أفرق بين إنسانويتي وموضوعاتي ، شأني (إذا سمح لي) أن أقول شأن أبي يزيد: فأنا لا أبحث عن ذاتي الموضوعية منذ أمد طويل وفي كل مرة أجدها لازالت ذاتوية ؟

فيا لشقائي.
شاكر حسن آل سعيد


==========

* رسالة حاتم الصكر

لقد أخذني حضور عملك الفني (أو أثرك كما تحب أن تصفه) من واجب الإجابة لأنني كنت تحت غلافي وجودك كاتباً – للرسالة – الأثر ؛ ومبدعاً للكتاب – اللوحة – وذلك حجزني عن استغوار مشاعري ، لأن الكتاب بحد ذاته رمز ضاغط.

تهب على ذاكرتي الآن المعاني الحافة بمفردة الكتاب ، لأنني أبدأ بتشغيل جهازه المعرفي – المكتوب لأصبه على أثرك – المرسوم فأرى أن الكتاب:

- هو الرسالة مغلقة ممهورة خوف افتضاح مضمونها ؛ رسائل الولاة.
- وهو المقدس منذراً ومبشراً ؛ الكتب السماوية.
- وهو الوعد والحساب ؛ كل كتابه بيمينه.
- وهو العلم مخزوناً يستنفر الرغبة في المعرفة.

وإلينا كبشر ، يتنزل الكتاب من آخر السلسلة ، حين صار الإنسان كاتباً لنفسه عن نفسه انقلبت موازين تفكيره .. وبدأ حسب دريدا تاريخ جديد .. إني أكتب الآن ، ولوحتك (كتاب) بعيدة عني ، فهي في مكان آخر ، لكن وجودها (الأثري) يلاحقني ، أما رسالتك فهي أمامي تماماً ، أقرؤها كالكتاب الحقيقي مستدلاً بحروفها وجملها ومعانيها ، وهذا هو معنى حضورك الكتابي عندي ، لذا سيكون ردي كتابياً بصدد كتابك التشكيلي ، وبهذا تتفوق علي مبدئياً ، فأنا أناسخ الواقع وأتحدث عن محسوس أو ملموس وأحيل إليه ، بينما أنت بالعكس مني تماماً: بدأت من ملمس جلد الكتاب المخطوط واستثمرت وجوده المزدوج كغلاف أول وأخير ، لتصنع عملك المزدوج ، ولتؤطره بزجاج مزدوج أيضاً ، فكأنك تحيل إلى ذلك الغلاف الجلدي السابق على وجود متن الكتاب ، كما أنك أثرت في رسالتك أكثر من محور نلتقي عنده كمهتمين بتلقي الفنون والآداب ، وفي مقدمة ذلك: إقصاء المؤلف ، فلقد ناب عنه الكتاب وجوداً ، ليظل حضوره ظلياً ، إنه لا يموت بالمعنى الفيزيائي ، بل يتوقف ، كما يجري في عملية التخدير ، مؤقتاً ، لينوب عنه متنه.

كما أنك أثرت مسألة غاية في الأهمية هي العتبة العنوانية أو معبر الغلاف ، فهو ليس زخرفة أو بطراً أو ترفاً شكلياً ، إنه بمثابة (المفتاح) كما تقول أي المدخل الذي لا يتجزأ عن المبنى أو المدونة ذاتها.

أما نعتي أياك بالضحية – البطل فهو استيعاب سمعي منك لمقولة مطولة لي ، إن هذا يؤكد جدلنا السابق حول محدودية المشافهة كما أرى ، ودفاعك الملخص بضرورة تدريب قوانا على استيعاب المقروء بشكل سمعي ، وتلك مفارقة ، فما يتمدد على السمع من القراءة أكبر من القدرة على الاستيعاب ، لأن الخطاب المدون يتمدد ويخبيء معانيه لكي نعاينه ونمسحه بصرياً ونتلامس مع حروفه ، إن الصمت والبياض وحكمة علامات الترقيم البليغة (؟!،-.) سوف يخسرها النص وهو يتوالى سمعياً مسلماً وجوده إلى الأثير.

لقد كنت أعني تحديداً أن شاكر حسن يستدعي قارئاً خاصاً لأعماله ، وهذه المهمة التأملية ذاتية كالاتحاد بالذات الإلهية في الفكر الصوفي عبر التأمل الشهودي الخاص.

وبهذا فسرت صعوبة حصولك على (تلاميذ) في مجال البعد الواحد ،وكذا صعوبة وجود مشاهدين منفعلين بأعمالك إلى درجة الفعل الشهودي ذاته ، لذا وجدتك غارقاً في تأملاتك داخلاً في الشرنفة –شرنقة الرسم والتأمل– من حيث تحسب أنك ترسم وتتأمل لتخرج منها.

من الحروف إلى الأعداد والأوفاق والأشكال السيميائية الخليقية والأثرية وحتى الأسهم والنقاط والخطوط والأشكال الهندسية ، لم أجدك إلا داخل منطقة الحدس ، وقد كنت موفقاً إذ شبهت عملك بعمل الآثاري ، فكلاكما يبدأ من (لقية) تغريه بالحفر في الأعماق .. كذلك هو الحرف ووجوده الكتابي ، لقد دونت في كتابي (البئر والعسل) أمثولة شرقية عن الإنسان الهارب من الفيل الهائج (القدر) والمتدلي في البئر متمسكاً بأغصان منكسرة في هاوية بئر ملآى بالأفاعي ، بينما هو يتلهى منتظراً مصيره بأكل جنى النحل (العسل) من كوارة على جدار البئر.

وها نحن نمضي مع الكتاب وكأن غلافيه أسطورتنا في الخلق والعدم ، نقرأ وهماً وكياناً زائفاً ونقضي أعمارنا في التأمل والتطلع ، لكننا سائرون أخيراً إلى الهاوية ، وفي كتابي ذاك تحدثت عن (كاتب الخط) و(كاتب اللفظ) باعتبارهما يمارسان حرفة ومهارة: الأول يبرز حرفته ليكتب لسواه فليس إلا الخط ، والثاني يكتب اللفظ بعد أن يأخذ المعنى من نفسه.

ولما كانت العرب تكتب من اليمين إلى اليسار ، فقد علل ابن النديم ذلك في (الفهرست) بأنه يضمن للعربية وصل حروفها ، إذ البدء من اليسار يوجب فصل الحروف استمداداً عن حركة القلب .. وهذا ما يجري في كتابة لغات كثيرة ..

وحين انتقل الإنسان من المشافهة إلى التدوين بالخط فالكتابة الحديثة بالطباعة ، تباعد دور اليد والقلم ، لقد صار الآخرون يكتبون لنا بينما كان على الجاحظ مثلاً أن يخط لنفسه نسخته من الكتب التي يريد أن يقرأها.

لكن ابن مقلة – الخطاط الذي أعدم بقطع يده الكاتبة بحكمة حاكم – يرى أن ثمة أنواعاً أخرى للكتاب: مثل كاتب العقد ، وكاتب الحكم ، وكاتب التدبير ، يضع لهم آداباً وشروطاً ومهارات كما أن لأقلامهم مواصفاتها ، وأنا لا أزيدك بذلك علماً وأنت مؤلف (الأصول الحضارية والجمالية للخط العربي) ورائد تجارب الحروفية الفنية ، لكنني استدعي إلى ذاكرتنا المشتركة وجود (الكتاب) بطريقة تشجعنا عليها التحليلات الظاهراتية.

لم يلغ الكتاب وجود مؤلفه جثمانياً وحسب ، بل ألغي دور النديم أو المسامر فلم يعد – مع الكتب – من ضرورة له ، هكذا يكتفي الكتاب بنفسه ، وهكذا أراك تجسد وجوده عبر خطوطك التي كانت في هذا العمل بقدر تقشفها ونحافتها ، مليئة بطاقة الحرف ذاته وممتدة في فضاء اللوحة ، وكأنها ترمز إلى امتلاء الوجود ذاته بالكتاب ، وقد نصحو ذات يوم ، لنجد أننا جزء من وهم أو حلم أو كابوس .. نصحو فنحد أن الحروف كلها بلا وجود ، وقد أطبق العدم على كل شيء ، وصرنا جزءاً من قصة رمزية (خرافية) تروى ولا تكتب ، لأنه لم يعد من كاتب أو كتاب أو قارئ .. بمعنى أننا نكتب كي لا نموت ، كما كانت تفعل شهرزاد إذ تواصل حديثها ؟ .. لقد تحولنا آثاراً مع أثرك ، وسقطنا من صفحات كتاب الوجود كما سقطت أوراق (كتاب الرمل) في قصة بورخيس أو أننا أصبنا بالتسمم لملامستنا خرافة الكتاب كما يجري في (اسم الوردة) لأمبرتوايكو وفي الحكاية العربية القديمة حيث الصمغ المصنوع من مادة السم يبلل به القارئ إبهامه ليطوي صفحة مستعصية وإذا به يؤذن لنفسه بالموت.

لكن كتابك أو الغلاف الجلدي على عتبة كتابك له مدخلان ، أننا نناور وجودنا لنكون هنا وهناك في آن واحد ، ولنرى الوجهين معاً في نظرة واحدة.

وإنني لأقرأ إنسانيتك دوماً بهذا الشكل فأنت لا ترى إلا بشمول شمائلك ومزاياك: رساماً وكاتباً ، متعلماً ومعلماً ، باحثاً وقارئاً.

فيا لسعادتك .. يا لسعادتك.

حاتم الصكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى