رسالة من ناصر بن صالح الغيلاني الى عبدالرحمن منيف

. . وأهنئك تهنئة حارة على انجازك الروائي "الملحمي" الرائع "أرض السواد" هذا العمل الذي ترقبتة طويلا قبل صدوره , وفرحت به فرحة كبيرة عند رؤيته وشرانه ، واستمتعت به غاية المتعة وأنا أقرأه ، وأقلب صفحاته الواحدة تلو الاخرى ومعها أعيش وأسافر وأحيا وأهيم واكتشف وأتعرف بدهشة واعجاب ومحبة على العراق الارض والناس في مرحلة تاريخية معينة.

في هذه الرواية شعرت وكأن بغداد القديمة كانت ميتة أو نائمة أو غائبة في مكان ما من هذا العالم ثم فجأة عطست ، شرقت ، تنضمت ، وأخذ دبيب الحياة يتدافع في عروقها ، وراحت تضيء ، تضج بالحركة والناس , ودجلة يتوارى ليعود دجلة القديم ، والكوخ ، وحارة باب الشيخ ، وحارة الشيخ صندل .. وأخذت تتشكل ملاح حياة كان يظنها الكثيرون قد توارت ، وإذا بها تستعيد نفسها ، هل يعود التاريخ أم أن الرواية قادرة على التلاعب بالزمن ، وعلى خلق حيوات واستعادتها أو مزجها بمتخيل يملك سلطة امكانية وقوعه وأحقيته بالوجود وعدم إمكانية نفيه أو تكذيبه (فالقصة لا يمكن تكذيبها)، بغداد كم أشعر أني عرفت الكثير من هذه المدينة ، لا لم أعرف الكثير، ربما هو تعبير غير دقيق إذن فلأقل : كم أشعر أني عشت في بغداد ، وكم عرفت هنالك من البشر بأحلامهم ، وهمومهم ، وأمالهم ، وحزنهم الكاوي الذي ينبع من كل مكان ، من النهر، من الأرض ، من السلطة ، من الانجليز، من سلسلة الموت والحياة ، والأسئلة الأبدية المرافقة لها ، والتي تتجلى "لسيفو" دفعة واحدة ! هل النهر قادر على بعث الحياة ؟ على تجديدها ! وعلى إلقاء الأسئلة الموجعة أمامنا دفعة واحدة ، ماذا فعلنا في حياتنا؟ كم هو سؤال يبعث على الحيرة والارتباك والشعور بالعبث ، سؤال يصفعنا ، وربما نظل نتحاشاه بعقلنا اللاواعي، فإذا به ينهض فجأة أمامنا من رحلة مركب ! ، هل نظل أسرى لزوايا نظر أسرنا أنفسنا فيها فامتلكتنا واستعبدتنا وحجرتنا في ابعاد محددة ، ورحلة يومية مكررة أشبه بالذهاب يوميا الى نهر دجلة ، ومحاولة جلب الماء على ظهورنا ، وتوزيعه على المنازل كما كان يفعل "سيفو"، هل يا ترى نظل أسرى؟ وهل علينا أن نتمرد على النظرة المعتادة أو على الحياة الرتيبة الساكنة ، لنكتشف انه كم من الجمال والتعدد والتنوع في هذه الحياة ، وكم من الاختلاف والامكانات اللامتناهية ، والخيارات اللامحدودة التي يمكن أن ينتهجها الإنسان كي يروى طمأ عالمه الداخلي! ، "سيفو" كان يرى الآخرين ، يحمل الماء ، أما حين يركب النهر، فان الماء ومنظر بغداد من فوق القارب ، عبر النهر، يعيد حساباته للحياة كلها ، فيتمرد ، وتتفجر فيه بذور الفن ، ويضيء عالمه الداخلي، وكأن كل ذلك الغبار الذي علق بالفانوس السحري للروح قد مسحته رحلة النهر، فعادت له وضاءته وسحره ، ثم نحن القراء ألم نكن نركب ذلك القارب ، ألم نكن نسمع رقرقة الماء الذي يرجه المجداف وهنا ساعة السحر، ألم نكن نرى قمرا مكسورا في سماء بغداد في ذلك اليوم ، ألم نشغف ونحن نرافق بدري في رحلة العشق ، عشق النظرة الأولى التي أعقبتها ألف حسرة وحسرة ، وكأنها نابعة من ألف ليلة وليلة ، وبغداد كم هناك من رآها في ذلك العهد القديم عبر غباش الماء ، من رأى بغداد من مركب يتهادى في نهر دجلة ، تلك رؤية غير معتادة ، قادرة على تفجير كل الأسئلة الكبرى، تماما مثلما حدث لسيفو. كيف تستطيع رواية أن تخلق كل ذلك العالم الكبير، وأن تتحدث عن مرحلة عمرية من تاريخ مدينة ، بل أن تستعيدها على نحو يضاهي الحياة أو كما قال دون كيخوته . "كل هذا يؤلف عملا فنيا متنوعا ، فيه الفن وهو يحاكي الطبيعة ، ينتصر عليها هذه المرة "، وحدها الرواية قادرة على استبطان المجتمع ، وعلى اكتشاف البشر من الداخل ، عبر زمان ومكان مجازيين ، وأحداث وتفاعلات يومية مختلفة تملك مصداقيتها.

في هذه الرواية "أرض السواد" نكتشف بغداد عبر جدلية القاع والسعلة ، والأنا والأخر. ثم هناك الحزن الذي يخيم على بغداد ، ويتفجر من كل مكان ، هل الحزن الذي فجره موت بدري حزن عادي وعابر، أم أنه كان أشبه بتفجير مخزون هائل من الألأم ، والأحزان ، والأوجاع ، هل يتراكم عبر أزمنة القهر والعذاب وشلعان القلب التي مرت على أهالي العراق . ان ذلك الحزن لا يمكن أن يكون حزنا عابرا انه حزن الكوارث ، والفيضانات ، والدماء التي سالت عبر الصراع التاريخي الطويل على السلطة ، هذه الدماء التي كانت تحبل بها بغداد منذ ذلك العهد السحيق ، ليهجم الطلق بها في الأزمنة اللاحقة أنهار من الدماء.

هل مازال داود باشا في شوفته المطلة على نهر دجلة ينظر الى الشطر الأخر من بغداد؟ وهل مازالت قهوة الشط تنظر الى الضفة الأخرى بحذر وترقب وخوف من الخفايا والدسائس التي تجري هنالك في السرايا وفق معايير مزدوجة وغامضة لا يدركونها؟

أشعر بعد أن قرأت الرواية بأنني عرفت كمية هائلة من البشر، واكشفت إضاءات عوالم داخلية فاتنة بطيبتها ، وبراءتها ، وحسها ، وصدقها تجاه الأخرين والأشياء، اكتشفت الفطرة الطيبة لاناس ذلك العهد بتلاحمهم ، وصحبتهم ، وقربهم من بعضهم البعض ، ودفء علاقاتهم ، وشعرت بأنني أحب الكثيرين منهم أشاركهم في صحبتهم ، أشارك سيفو وقادر في محبتهم لبدري وأشارك حسون في سذاجته وصحبته للخيل واضحك أحيانا من سخرياتهم ، وأتساءل أحيانا معهم بهمس ، عما يجري في السرايا ، واشرب معهم الشاي ، وأستمع إلى مشاحانتهم ومراهناتهم ، وربما أجس في المقاهي أتأمل الغروب ، وأتابع الشمس في رحلتها اليومية الى البلدان البعيدة كما كان يفعل "السيد معروف "، حياة بكاملها تتدفق أمامي أو أتداخل معها.. وفي الجانب الأخر من النهر اكتشف أنه كم هنالك من المناطق المعتمة في الذات البشرية ، وكم من الأحقاد، والأمراض ، والعظمة الزائفة التي تغلف الأخرين هنالك من أمثال سيد عليوي الذي مازالت صرخته لحظة الإعدام تتردد أصداؤها في القلاع المنتنة ، وكأنها صرخة نابعة من حمأة الطين ، صرخة سوداء قاسية ، وشيطانية ، ومحملة بالشرور، هل هناك بشر على هذه الشاكلة ؟ أستعيد الحياة أخرج من الرواية ، أحاول أن أستعيد أن أحلل وأتساءل : كم هناك من سيد عليوي؟ كثيرون ، كثيرون ممن استهوتهم السلطة ، وفجروا حمامات من الدم في سبيلها, كم هم يشبهون سيد عليوي، عفوا، كم يشبههم سيد عليوي ، إنهم يفوقونه كثيرا، سيد عليوي - كما يبدو لي- شخصية روائية أكثر نضجا لجلادي شرق المتوسط ، فهي شخصية متعددة الجوانب ، تخاف بل وترتعد فرقا أحيانا وتتشهى السلطة ، ولديها مساحة واسعة من حرية الحركة ، والتفكير، والحسابات ، كما أننا نتعرف على شيء من حياتها السرية ، في وقفتها أمام المرأيا ، وعلاقتها الغامضة بروجينا، عدا أن فيها شيئا يشبه الكثيرين ! إنها شخصية صلبة وقاسية ومتحجرة ، ولكنها لم تنبت من الجدار (شرق المتوسط ) وإنما صنعتها ظروف مجتمع ، وتاريخ ، وجغرافيا ظلت تحبل وتلد العشرات من أمثال سيد عليوي بشخصيته الجريئة والمتعطشة للسلطة والقتل ، ثم هنالك داود باشا باماله ، وطموحاته ، وحساباته البعيدة ، في صراعه مع الانجليز، ومع القواد العسكريين في جيشه ، فنتعرف على طبيعة العلاقات ، والأطماع ، والصراعات ، والتحالفات من أجل السلطة ، وبسط السيطرة ، أيضا في شخصية داود باشا تنفتح كوي نطل من خلالها عن علاقته بابنته المريضة محسنة ، وعلى طفولته وأهله هنالك في بلده الأصلي، وعاطفته الصادقة التي يحملها لسليمان الكبير وأسرته ، ونتعرف على بواعثه في السعي نحو السلطة والمجد تمثلا بمحمد علي باشا! ، كل هذا الامتداد الإنساني أضفى غنى على هذه الشخصية الروائية ، وان كانت طبيعة موقعها في السلطة تجعل هنالك ضرورة ربما لاحاطتها بالسرية في عملية السرد الروائي، كما أن السلطة ومشاغلها كانت وكأنها تشكل ضغطا على داود باشا وتجعله يكبت حياته الأخرى، وأحاسيسه الإنسانية والعاطفية ، أو يستبعدها لأن السلطة تقطب رجلا عمليا! وهذا ما دفع بالسرد ربما بعيدا عن حياة داود باشا الشخصية في علاقته مع ابنته محسنة ، وأهله في المرحلة المتأخرة من عمر الشخصية . كما أننا لو قارنا شخصية داود باشا مع سيد عليوي من هذه الناحية ، نجد ان شخصية السيد عليوي ليس لها مثل هذا الامتداد الإنساني، فهي تبدو كحجر «جرانيتي»، برد ، وتصلب ، وتحجر، على عكس شخصية داود باشا التي مازالت حارة ، وقابلة للتشكل بأوجه مختلفة ، فهو شخصية معقدة من الناحية الفنية ، كما انه مايزال يمتلك قدرته على الجذب ، والتحريض على اكتشاف سحر غموضه .

أيضا نتعرف هنالك على شخصية نادر أفندي، الذي يفوق جميع شخصيات الجاحظ في عذاب القرش ، إن جازت التسمية ، هل يمكن أن تصل عبادة المال وعذابه الى هذه الدرجة الشنيعة ، كم في النفس الانسانية من امكانيات دنيئة ، في هذه الرواية نتعرف على الشرفاء والخونة وعلى البسطاء والصعاليك وعلى الساذجين والانتهازيين ، أعداد هائلة من الشخصيات منها ما يظهر ثم سرعان ما يتوارى داخل نسيج الابداع السردي ومنها ما يستمر كصلب للرواية ، وفي هذه الحركة بين الظهور والاختفاء والاستمرار والقتل تتدافع الأحداث والمشاهد ، كي تعطينا حياة متكاملة عن أرض السواد .

ثمة شخصيات كانت تبدو وكأنها تشربت من ماء دجلة الخير (أم البساتين ) حتى ارتوت واصبحت تشبها في امتداده وتلقائيته ونقائه الخير مثل (سيفو- الحاج صالح - زينب كوشان ) ثمة شخصيات صنعتها التربة والأرض الخصبة ، مثل شخصية قادر، هذه الشخصية التي تتبدى بطيبتها ، وعطائها ، ونقائها ، وتمسكها بالأرض ، وكأنها أحدى الأشجار التي نبتت في أرض كركوك ، وامتدت جذورها عميقا في ترابه ، ولكن جذعها القوي يتسامق ، وأغصانها العذبة الخانية تلتف حول الأخرين ، باعثة للدفء، والجمال ، وضاربة للمثال علي كيفية العطاء دون انتظار لمقابل ، ودون مزايدات على حبها ، هذه الشخصية القوية كصخرة ، نرى كيف تتفجر بالبكاء كطفل أمام الموت المفاجئ والغادر ، نشعر بها وهي تذوب من لوعة الفقد ، وتتداعى حزنا وألما ، إنها شخصية نقية نقاء الطبيعة ، وجميلة جمال الأرض .. باهية ! ومعطاة كالأشجار، وأريد هنا أن أتوقف عند مقتل بدري ، كان هناك حدس بمقتله ، لقد شعرت وأنا أقرأ قبيل مقتله ، بأن الأحداث في الرواية تجري وتتسارع أو ربما تتدحرج بسرعة كبيرة نحو هاوية سحيقة ، ثمة شيء في الحياة يتزعزع ، يتخلخل من مكانه في ذلك الأربعاء الكامد (شرق المتوسط ) ، كان الوقت قبيل الغروب ، الحياة تبدو وكأنها فقدت قدرتها على التوازن . . رصاصة كانت تتهيأ كي تطفئ الشمس . . وشعور باقتراب النهاية والظلام ، أركان الحياة تتداعى ، كل شيء كثف وضغط كي يحاصرنا ويفجعنا بمقتل بدري ، أنفاسنا كانت تتسارع ، ومعها نبضات قلوبنا ، هل يمكن أن يقتل بدري؟ ولماذا بهذه القسوة ؟ كان الموت يقترب ، بينما يذهب بدري بعيدا في الفرح ! ، كان بدري يغرق في الحلم ، بينما الموت يتربص به ، كان كل شيء يتفجر بالفرح والسعادة ، وكل شيء أيضا ينذر بالفاجعة المرة التي يزدحم بها فضاء كركوك ، رياح عفنة تهب . . رياح الموت ، ومعها تنطلق رصاصة غادرة تقتل بدري! ، بدري الذي حاصرته السلطة بريبتها وخستها فتحايل عليها بسذاجته وحسن نواياه ، بدري الضحية . كم هي معدومة خيارات السلطه التي تتيحها للنجاة ، إنها لا تقبل إلا " إما معي أو علي " ، هذا القانون كان مقدرا عليه ان يتواصل منذ ذلك الزمن البعيد إلى التاريخ العراقي الحديث والمعاصر بل التاريخ العربي بأجمعه ، مقتل بدري أحد أهم الفصول التي لا يمكن أن يمر عليها القارىء دون أن تخلف في نفسه مرارة قاسية . هنالك شخصيات دخلنا منازلها ، وتعرفنا على أسئلتها وهمومها- سيفو، ذنون ، نادر أفندي . .- الذاتية الملحة ، وهنالك شخصيات تحتاج منا الى الخيال كي نتبعها الى منازلها ، ونتعرف علي جوانب حياتها الاخري، ونكتشفها بعمق أكثر، وربما نفعل مثلما كان "غوغول" يفعل عندما يشاهد الناس في الشوارع ويتابعهم بخياله الى منازلهم . .! وأعتقد أن هذا العمل الروائي الضخم " أرض السواد" لا يمكن فهمه حق الفهم دون طاقة متخيلة تبذل من قبل القارئ ، من أجل اعادة رسم بعض المشاهد والأحداث ، وملء بعض الفراغات التي تتركها العملية السردية للقارئ ، لان أي رواية لا يمكن أن تقول كل شيء- ردا على من سيقولون ان الرواية لم تتحدث عن كل شيء- لأن هنالك جهدا تخيليا ينبغي ان يبذل من قبل القارئ، ودور الرواية ربما هو ان تتيح هذه الانسيابية للذهن والخيال في بناء صورة متكاملة للعمل الفني .

كما ان الرواية تقودنا كي نتعرف على الطبيعة السخية والمتنوعة للعراق ، والتي تم رسمها بحرفية فنية عالية وجمالية دقيقة ان جاز التعبير- بدءا من النهر، والأرض ، والغبار الذي تثيره الخيول في رحلاتها ، وأيضا نتعرف على الصحراء، والشمس ، والأثار، والجبال ، ورائحة الأمطار، والنباتات واختلافها من منطقة الى أخرى، وأثر الطبيعة في تكوين الشخصيات ، وذلك عبر رحلات طويلة ننتقل عبرها بفنية سردية مدهشة الى عدد من المناطق في العراق ، كذلك نتعرف على نظرة الأخر الغربي وسياسته الاستعمارية بدءا من نهب الأثار والثروات ، وتدخله السافر في السلطه ، ورغبته الدائمة في خلق حكام موالين ، مجرد دمى يحركها كيفما يشاء ويوجهها كي تخدم مصالحه، ثم نظرته الدونية الينا كشعب ، والتي وان كانت تفسر أحيانا إلا أنها تنمط كي تبرر الاستغلال ، هذه النظرة أو المبدأ يطل قائما كمبرر للنصب والسيطرة والحصار والتجويع . إلا أن هناك أملا في الرواية يتبدى كضوء في أخر النفق من خلال تلك الانتفاضة الشعبية البدائية ضد الأجنبي، ومعها فرحة الفن (ذنون ) وهو يرى ذلك التأخي بين ما يحدث، في الواقع وبين أسئلة الفن وسعيه الباحث عن واقع أفصل ، حيث يتلق حلم الفنان وواقع الحرية والكرامة في النهاية السعيدة للرواية ، إلا أن القادم والمعروف مسبقا من قبل القارئ، يخيم بثقله الدامي على النهاية المفتوحة التي تركتها الرواية ، تاركا سؤال الفن والكرامة موجودا وقائما، في مواجهة واقع موحش وقاس لا يستحقه العراق ، الناس والأرض .

الأن وأنا أنهي الرواية أشعر الى أي مدى تبدو تلك المرحلة التاريخية من حياتنا بعيدة وغائبة ، وأشعر انه كم نحن في حاجة الى استعادتها أكثر، وقراءتها بعمق كي نكتشف ذواتنا الحقيقية ، ونزيح هذه عشاب الطفيلية التي نمت حولنا وتراكمت فينا حتى شوهت نظرتنا الأولى، وحسنا البديهي بالأشياء، وكم نحن بحاجة الى اكتشاف في ذواتنا والعودة الى تلك الجذور، كي نتحرف علي أي أرض نقف الأن ، وإلى أي مدى انجرفنا بيدا عن المنابع الأولى.

أستاذ عبدالرحمن :

هذه ة دعيات واسترحالات انطباعة جاءت وعفو الخاطر ومن الذاكرة ودون محاولة للرجوع الى الرواية - التي استعارها أحد الأصدقاء- أي أنها تحتمل إغفال عدد من الأشياء الهامة ، وأيضا ربما تبتعد كثيرا من التحليل العميق والهادئ للرواية ، ولكن ذلك سيكون ويتضح في المستقبل وعبر قراءة ثانية أكثر تأنيا، وتحليلات سيبلورها غمر الزمن ، لتصبح أكثر عمقا وفهما، فلكل رواية مستويات من القراءة .

يبقى أن أقول : ان هذه الرواية منذ البداية ومن الجملة الأولى "لما حضرت سليمان الكبير الوفاة ..." تتضح ملامحها العربية التي لا يمكن أن يخطئها من يقرأها أبدا "أشعر وكأنك قلت هذه العبارة ولكن لا أدري أن ". وكأنها بهذه العبارة خارجة من نسيج السرد العربي وساعية عبر تصاعد أحداث الرواية الى تشكيل هوية عربية روائية تنجلي واضحة تماما عبر تقنيات السرد وتوالد الحكايات من بعضها البعض (خلال قراءتي لرواية دون كيخوته هذا العمل العظيم لاحظت . أو هكذا بدا لي أن هنالك تأثرا بأسلوب ألف ليلة وليلة وخاصة في أسلوب توليد الحكايات داخل نسيج السرد الرئيسي للرواية ). إن هذه الرواية عوضا عن روعتها تسعي كما قلت إلى- تأسيس هذه الهوية العربية عبر اتكاء على تراث فني غني وزاخر لم يجر اكتشافه من قبل المبهورين بالغرب . إن أرض السواد هذه الرواية الملحمية هي قراءة للعراق في بدايات التشكل والتكون وربما في مرحلة الطفولة في محاولة لاكتشاف تلك المرحلة والاقتراب لفهم أناس ذلك العهد ومن ثم التساؤل يحجم ما حدث من تلك الفترة حتى الآن ولماذا حدث ؟ ألم يكن بالامكان تجنبه؟

إن هذه العودة الى التاريخ تملك امكانيات ثورية هائلة على الحاضر، بل هي منتهى الثورية ، وهذا ما لا ينتبه اليه الكثيرون ، يقول «المسيو حوحو» أحد شخصيات أرض السواد، بعد أن قرر هجر الوظيفة والانصراف إلى قراءة التاريخ ، : "لأن العالم لا يمكن أن يتخير دون أن يملك ذاكرة ، والتاريخ هو الذاكرة ، وأول شرط يجب أن يتوافر فيمن يريد تغيير العالم أن يعرف تاريخ هذا العالم " ان هذه العبارة أحد أهم المداخل لفهم دوافع كتابة هذا العمل الروائي إن لم تكن المفتاح الرئيسي لرواية ،لأن الثورة تنطلق دائما من القراءة ومعرفة التاريخ ، ومأساة الثوريين تتلخص في أنهم يرثون أكثر قليلا من غيرهم ، كما أن الحركة الثورية المثلى تبدأ بالحنين ، بالعودة إلى نص منسي ومثال أعلى ضائع وفقا لما يذهب اليه ريجيس دورية ، لذا فان الرواية التاريخية هي منتهى الثورة على الحاضر ولكن على نحو عميق وجذري، وهي في هذا على عكس الثورات السياسية السطحية ، التي تستعجل جني الثمار قبل أوانها، ولا تؤمن سوى بالنتائج السريعة والملموسة والحاسمة ، أما أبيض أو أسود.

لقد أطلت عليك كثيرا- صحيح - أعرف ذلك ولكن يمكن أن تعتر هذه الاطالة ردا على عقاب الحجم الكبير للرواية والذي تلقيناه كما تلقاه الفنان مروان قصاب باشا في «مدن الملح ».

أستاذ عبدالرحمن : لقد أكدت من خلال سلسلة رواياتك العظيمة والتي أحببناها انك واحد من أعظم الروائيين العالميين في القرن العشرين، ونحن لا ننتظر أبدا نوبل غير المتفق تماما على نزاهتها كي تؤكد لنا مكانتك في الرواية العالمية ، وأنت من خلال هذا العمل الجديد «أرض السواد» برهنت على أنك الروائي والفنان القادر على منافسة نفسه دوما، وعلى تقديم الجديد، والفريد، والجريء والعظيم والمتجاوز، والمتجدد أبدا، لان فيه ذك السحر الفاتن والخالد الذي زفرته الروح الباحثة عن جمال تلوذ به في مواجهة قبح العالم .

- لفت انتباهي غياب النخل العراقي عن أرض السواد!...

- وأخيرا احب أن أختتم بعبارة قالها ادوارد سعيد في كتابه : "الثقافة والامبريالية ": ويشهد علي وجود مشكلات حقيقية في الديمقراطية والتنمية والمصير، التعذيب الذي تمارسه الدولة ضد المثقفين الذين يعتنقون أفكارهم ويقومون بممارساتها علنا وبشجاعة - أمثال - إقبال أحمد وفايز أحمد في الباكستان ، ونغوغي وأثيونغو في كينيا، وعبدالرحمن منيف في العالم العربي (هم مفكرون وفنانون بارزون لم تلن عذاباتهم صلابة فكرهم ، أو تكبح ضراوة عقوباتهم ، لم يكن منيف أو نغوغي أو فايز، كما لم يكن أي من نظرائهم ، يعرف الهوادة في مقته للاستعمار المزروع أو للامبريالية التي منحته القدرة على الاستمرار) . ص 88، تقبل تمنياتي الصادقة لك بالخير وشكرنا على ما قدمت ومعذرة علي الإطالة .

ناصر بن صالح الغيلاني (كاتب من سلطنة عمان)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى