أخي أبا محمد
محبّـة وبعد ،
قرأت جوابك على رسالة الأخ خالد الشريف إليك وما تلا ذلك من تعليقات ، فمثلت أمامي بعض الملاحظات والأسئلة :
نقف اليوم – نحن الفلسطينيين الباقين على أرضنا – أمام هجمة نوعية جديدة ترى في مجرد وجودنا خطرا استراتيجيا . ويصرّح المسؤولون أنهم لن يعبأوا بحدود "الدمقراطية" لتحقيق هذا الهجوم .
وأنت أعلم بتصريحات دِسْكِن وما تواتر بعدها وإصرار السلطة على تنسيق الأدوار فيما بينها : النيابة و"الشَّباك" ورئاسة الحكومة ..الخ
قعقع السلاح عندما ارتفع الصوت في وثائق ثلاث ، من مصادر مختلفة ، مؤكدا أننا لن نرضى بديلا عن الحقوق الكاملة والمساواة التامة – فرديّا وجماعيّا ولن نسكت عن تهميشنا "القانوني" .
يريدوننا أن نقبل وجود ثوبين مختلفَي القياس لشخصين متكافئين في الأنسانية والحجم : ثوب مريح جميل لأحدهما وثوب ضيق دون المقاس مُـعَـدّ لنا يضيق بنا ونضيق به فتضطرب حركتنا المقيّدة وإذا سعينا إلى مزيد من الحركة فلا بدّ لهذا الثوب أن يتمزّق .
طالما صحنا مطالبين بالمساواة فاحتملوا إلا أن المطلب اليوم عينيّ يتقدّم بمشروع دستور ، في سلطة لم تشأ أن تتقيد بدستور، ويقارع المقولة الأساس التي تفرض كيانا يضعنا في الساحة الخلفية . والخطر كل الخطر على راسمي السياسة العنصرية أن تتوحد صفوف المضطهَدين وتتكاتف الجهود التي تتصدّى للقمع وتتمرّد على الدّونيّـة .
استبشرنا خيرا حينما تحقق لقاء القوى الوطنية المختلفة في المظاهرة الشعبية الكبيرة في الناصرة احتجاجا على ملاحقة الدكتور عزمي بشارة الذي تـلفَّق له تهمة أمنية تخنع لها الدّمقراطية المقنَّنة .
في ذلك اليوم اجتمع على منصّة واحدة رئيس لجنة المتابعة الأخ شوقي خطيب وسكرتير الجبهة المحامي أيمن عوده والشيخ رائد صلاح والأخوة طلب الصانع وهاشم محاميد وحسن كنعان ورجا اغبارية ونواب التجمّع. كلّهم أدانوا الملاحقة وأكدوا على التكاتف في التصدي للحملة الظالمة الهوجاء .
إن قوس القزح الذي جمع هذه الأطياف مصدر فرح مؤشّر إلى عهد جديد تجتمع فيه الأغصان في حزمة قوية . أما السعي الدؤوب لأعداء حريتنا فهو لتمزيقنا وعرقلة هذا الوعي .
على خلفية هذا الائتلاف الوجودي قرأت رسالتك .
أنت المطّلع وتعلم أن أكثر من ثمانين شخصية يهودية أكاديمية أصدرت بيانا تؤكد فيه أنها تصدّق عزمي بشاره ولا تصدّق "الشَّباك ". ولا بدّ أنّك قرأت مقال الأِعلامي المعروف أمنون ليفي , صاحب برنامج التحقيقات المشهور في القناة العاشرة . استهلّ مقاله بكل أسئلة الاستفهام التي يسألها الباحث المحقّق حتى وصل إلى النتيجة أنه يصّدق عزمي بشاره ولا يصّدق "الشَّباك" ويرى أن التّهمة سياسية والحوار معها سياسي فيقول " .. وبدل مواجهته من على منصّة الكنيست أعادت الجهات الأمنية النقاش إلى غرفة التحقيق ، وهكذا عدنا إلى المهمة التقليدية للعربي الأسرائيلي : ليس طرفا للحوار بل مجرّد عدوّ ، ليس شريكا بل خائن ، ليس إنسانا لنقنعه بل عربي يجب سَجنه ".
أولئك لا يصدّقون فهل نكون نحن المصدّقين ، نتبنّى التهمة وذيولها التي تقذف بالوحل في وجوهنا ؟
ونسأل بعد هذا : كيف تعامل الثوريون ، الذين نجِـلّ رؤيتهم ، حينما جابهوا خطر الوقوع في أيدي مضطهديهم :
- نستهلّ بالرسول العربي الكريم وأمرِ هجرته إلى يثرب حين تآمرت عليه قريش . التفاصيل أشهر من أن نمكث عندها فهل نتصوّر أحدا يعزّ عليه الرسول وتعزّ عليه دعوته يندّد بهذه الهجرة ويدعوه أن يسلّم نفسه لقريش ليثبت براءته ؟
- ولنقترب في الزمن إلى القرن التاسع عشر إلى كارل ماركس (1818 – 1883 ) الذي كتب المقالات الجريئة المندّدة بالسلطة في صحيفة " رينِش جازِت " فأغلقت السلطة الصحيفة في أيار 1843 . يقول المصدر "..حينما أُنذِر أنّه قد يعتقل تزوّج ماركس بسرعة من صديقته جِني وستفالن وانتقل إلى باريس .." ومن هناك امتدّت رحلته إلى مختلف أنحاء أوروبا .
- أما فلاديمير لنين ( 1870 – 1924 ) فبعد أن سُجن سنة 1895 ونفي إلى سيبيريا وأمعنت السلطات في ملاحقته اضطر سنة 1907 إلى الارتحال إلى فنلندا ومنها تنقل في أنحاء أوروبا كاتبا باحثا ومشاركا في المؤتمرات الثورية المختلفةثم عاد إلى روسيابعد ثورة شباط 1917 ليقود ثورة أكتوبر . وقد جاء عليه حينٌ اتهمه فيه النمسويون أنه جاسوس روسي ثم اتهمه الروس أنه جاسوس ألماني . التّهم الأمنية إيّاها !
وهناك صورة له وقد تخفّى فلبس شعراً مستعارا وحلق لحيته الصغيرة المميّزة .
هل قال له أحد : لماذا تربأ بنفسك أن تسجن فهناك مئات الثوريين الذين يملؤون السجون القيصرية ؟
- أما الشاعر الثوري التركي ناظم حكمت ( 1902- 1963 ) فتاريخه حافل بالنضال . درس في جامعة موسكو وعاد إلى تركيا بعد ثورة أتاتورك سنة 1924 ولكنه سرعان ما اعتقل لنشاطه السياسي . ثم أفلح في الهرب إلى موسكو سنة 1925 ( هناك تصادق معه نجاتي صدقي أول شيوعي فلسطيني درس في موسكو في تلك السنة ) . عاد إلى تركيا سنة 1928 حينما صدر عفو عام . لكنه اعتُقِل سنة 1938 بتهمة تحريض الجيش على التمرد وحكم عليه بالسجن 28 عاما. بعد أكثر من 12 عاما قضاها سجينا ( وقد روى فيما بعد للشاعر بابلو نيرودا عن العذاب الرهيب الذي عاناه وعن مرض القلب ومرض الكبد اللذين هدّدا حياته بالموت ) ، أُطلق سراحه نتيجة لحملة عالمية ولكن السلطات ظلت تكيد له ففرضت عليه وهو في الخمسين أن يكمّل خدمته العسكرية الألزامية . ذهب للفحص . همس له الطبيب : " وقوف ساعة في الشمس ينهي حياتك ". إلا أن التقرير الطبي الرسمي قرّر أنه صالح للخدمة ! طلب فرصة أسبوع ليقوم بالترتيبات الضرورية ... وبعد ثلاثة أيام أذاع راديو بخارست أن ناظم حكمت وصل إلى رومانيا .
رتّب أمر هربه في زورق بخاري صغير قاده قريب له اسمه رفيق أردوران , اجتاز البسفور إلى البحر الأسود في ليلة عاصفة . كان يقصد بلغاريا إلا أنه لقي في الطريق سفينة شحن رومانية ترددت في أخذه إلى أن راجعت الحكومة مما استغرق زمنا حتى جاءت الموافقة .
وأذكر أننا هنا احتفلنا بنجاة ناظم حكمت ووصوله إلى برّ الأمان .
أودّ أن أعود إلى تجربتنا في الحزب الشيوعي هنا حيال الاعتقال والنفي :
كان التوجيه ،كلما لاح خطر اعتقال ، أن لا يبيت الرفيق في بيته . أذكر إحدى الليالي ( سنة 1953 ) وقد بلغنا أننا مطاردون فذهبت قبل منتصف الليل ( الموعد المألوف لمثل تلك الحملات ) إلى بيت والد طيب الذكر توفيق زيّاد في الحارة الشرقية في الناصرة لأحذّر توفيق وذهبنا معا نبحث عن ملاذ .
وقبل أول أيار 1958 امتلأت الصحف العبرية بحملة عنيفة على الحزب ، بما في ذلك تهمة السعي للقيام بثورة كالجزائر . كان ذلك في أعقاب المؤتمر الثالث عشر للحزب (29/5 – 1/6/1957 ) الذي تحدّث فيما تحدث عن " النضال البطولي الذي شنّه حزبنا ضد سياسة الاضطهاد القومي الواقعة على السكان العرب ومن أجل مساواتهم في الحقوق ومن أجل حق تقرير المصير حتى الأنفصال للشعب العربي الفلسطيني بما في ذلك القسم الكائن في اسرائيل " ( كراس المؤتمر ص 47 ) . رأت السلطة في هذا القرار أمرا خطيرا يهدد بفصل أقسام عن الدولة . وكان الِأعداد لمظاهرة أول أيار (1958) فكان التوجيه أن لا يبيت الرفاق المسؤولون في بيوتهم . لذلك لم يجدوا طيّب الذكر الرفيق فؤاد خوري في بيته واستطاع أن يتلافى الاعتقال حتى انقشعت الغيمة إلى حين ، بعد اكثر من ثلاثة شهور . أما نحن الذين لم نبت في بيوتنا تلك الليلة وحسبنا أن الأمر انتهى بذلك وعدنا وكأن أمرا لم يكن فقد اصطادونا واحدًا واحدًا وتنقّلنا من سجن إلى آخر ، من الناصرة إلى الجلمة ثم يافا والرملة والدامون .
كان المبدأ كما يقول المثل العامي ( في سياق آخر ) " إن قدِرْت تْـمَغْيِب مَغْيِب .. "
ونسأل عن مدى إيماننا بعدالة المحكمة الأسرائيلية خاصة إذا كانت التهمة المهـيّأة " أمنـيّة " وقد راينا إدانة من ثبتت براءته بعد سنوات قضاها في السجن . ثمّ .. هل تحولت القضية من خطر الهجوم الوجودي على كياننا إلى دعوة الرجل إلى تسليم نفسه للاعتقال ؟
***
ختاما ، لنذكر كيف اجتمعت وتجتمع الأحزاب الصهيونية في إطار واحد رغم اختلافاتها المنهجية : لقد وحّدها الهدف المشترك فهو القاسم المشترك الأعظم . ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى التكاتف وتوحيد الصفّ .
إن الاختلاف في الاجتهاد أمر طبيعي بل إنه يثري مواقع الرؤية ، أما الخلاف ففيه المهلكة . وأمنيتي أن أرى القوى الوطنية جميعا وقد تعاضدت - مع احتفاظ كل منها بخصوصيتها – لتفشل المؤامرات التي تحاك لها وتفلح في نضالها العادل .
لماذا لا يحتضن بعضنا بعضا بمحبة ورحابة صدر ؟
في هذه المحبة قوّتنا وهي الدّرع . وكلّنا راعٍ وكلّنا مسؤول ...
حنّـا أبو حنّـا
محبّـة وبعد ،
قرأت جوابك على رسالة الأخ خالد الشريف إليك وما تلا ذلك من تعليقات ، فمثلت أمامي بعض الملاحظات والأسئلة :
نقف اليوم – نحن الفلسطينيين الباقين على أرضنا – أمام هجمة نوعية جديدة ترى في مجرد وجودنا خطرا استراتيجيا . ويصرّح المسؤولون أنهم لن يعبأوا بحدود "الدمقراطية" لتحقيق هذا الهجوم .
وأنت أعلم بتصريحات دِسْكِن وما تواتر بعدها وإصرار السلطة على تنسيق الأدوار فيما بينها : النيابة و"الشَّباك" ورئاسة الحكومة ..الخ
قعقع السلاح عندما ارتفع الصوت في وثائق ثلاث ، من مصادر مختلفة ، مؤكدا أننا لن نرضى بديلا عن الحقوق الكاملة والمساواة التامة – فرديّا وجماعيّا ولن نسكت عن تهميشنا "القانوني" .
يريدوننا أن نقبل وجود ثوبين مختلفَي القياس لشخصين متكافئين في الأنسانية والحجم : ثوب مريح جميل لأحدهما وثوب ضيق دون المقاس مُـعَـدّ لنا يضيق بنا ونضيق به فتضطرب حركتنا المقيّدة وإذا سعينا إلى مزيد من الحركة فلا بدّ لهذا الثوب أن يتمزّق .
طالما صحنا مطالبين بالمساواة فاحتملوا إلا أن المطلب اليوم عينيّ يتقدّم بمشروع دستور ، في سلطة لم تشأ أن تتقيد بدستور، ويقارع المقولة الأساس التي تفرض كيانا يضعنا في الساحة الخلفية . والخطر كل الخطر على راسمي السياسة العنصرية أن تتوحد صفوف المضطهَدين وتتكاتف الجهود التي تتصدّى للقمع وتتمرّد على الدّونيّـة .
استبشرنا خيرا حينما تحقق لقاء القوى الوطنية المختلفة في المظاهرة الشعبية الكبيرة في الناصرة احتجاجا على ملاحقة الدكتور عزمي بشارة الذي تـلفَّق له تهمة أمنية تخنع لها الدّمقراطية المقنَّنة .
في ذلك اليوم اجتمع على منصّة واحدة رئيس لجنة المتابعة الأخ شوقي خطيب وسكرتير الجبهة المحامي أيمن عوده والشيخ رائد صلاح والأخوة طلب الصانع وهاشم محاميد وحسن كنعان ورجا اغبارية ونواب التجمّع. كلّهم أدانوا الملاحقة وأكدوا على التكاتف في التصدي للحملة الظالمة الهوجاء .
إن قوس القزح الذي جمع هذه الأطياف مصدر فرح مؤشّر إلى عهد جديد تجتمع فيه الأغصان في حزمة قوية . أما السعي الدؤوب لأعداء حريتنا فهو لتمزيقنا وعرقلة هذا الوعي .
على خلفية هذا الائتلاف الوجودي قرأت رسالتك .
أنت المطّلع وتعلم أن أكثر من ثمانين شخصية يهودية أكاديمية أصدرت بيانا تؤكد فيه أنها تصدّق عزمي بشاره ولا تصدّق "الشَّباك ". ولا بدّ أنّك قرأت مقال الأِعلامي المعروف أمنون ليفي , صاحب برنامج التحقيقات المشهور في القناة العاشرة . استهلّ مقاله بكل أسئلة الاستفهام التي يسألها الباحث المحقّق حتى وصل إلى النتيجة أنه يصّدق عزمي بشاره ولا يصّدق "الشَّباك" ويرى أن التّهمة سياسية والحوار معها سياسي فيقول " .. وبدل مواجهته من على منصّة الكنيست أعادت الجهات الأمنية النقاش إلى غرفة التحقيق ، وهكذا عدنا إلى المهمة التقليدية للعربي الأسرائيلي : ليس طرفا للحوار بل مجرّد عدوّ ، ليس شريكا بل خائن ، ليس إنسانا لنقنعه بل عربي يجب سَجنه ".
أولئك لا يصدّقون فهل نكون نحن المصدّقين ، نتبنّى التهمة وذيولها التي تقذف بالوحل في وجوهنا ؟
ونسأل بعد هذا : كيف تعامل الثوريون ، الذين نجِـلّ رؤيتهم ، حينما جابهوا خطر الوقوع في أيدي مضطهديهم :
- نستهلّ بالرسول العربي الكريم وأمرِ هجرته إلى يثرب حين تآمرت عليه قريش . التفاصيل أشهر من أن نمكث عندها فهل نتصوّر أحدا يعزّ عليه الرسول وتعزّ عليه دعوته يندّد بهذه الهجرة ويدعوه أن يسلّم نفسه لقريش ليثبت براءته ؟
- ولنقترب في الزمن إلى القرن التاسع عشر إلى كارل ماركس (1818 – 1883 ) الذي كتب المقالات الجريئة المندّدة بالسلطة في صحيفة " رينِش جازِت " فأغلقت السلطة الصحيفة في أيار 1843 . يقول المصدر "..حينما أُنذِر أنّه قد يعتقل تزوّج ماركس بسرعة من صديقته جِني وستفالن وانتقل إلى باريس .." ومن هناك امتدّت رحلته إلى مختلف أنحاء أوروبا .
- أما فلاديمير لنين ( 1870 – 1924 ) فبعد أن سُجن سنة 1895 ونفي إلى سيبيريا وأمعنت السلطات في ملاحقته اضطر سنة 1907 إلى الارتحال إلى فنلندا ومنها تنقل في أنحاء أوروبا كاتبا باحثا ومشاركا في المؤتمرات الثورية المختلفةثم عاد إلى روسيابعد ثورة شباط 1917 ليقود ثورة أكتوبر . وقد جاء عليه حينٌ اتهمه فيه النمسويون أنه جاسوس روسي ثم اتهمه الروس أنه جاسوس ألماني . التّهم الأمنية إيّاها !
وهناك صورة له وقد تخفّى فلبس شعراً مستعارا وحلق لحيته الصغيرة المميّزة .
هل قال له أحد : لماذا تربأ بنفسك أن تسجن فهناك مئات الثوريين الذين يملؤون السجون القيصرية ؟
- أما الشاعر الثوري التركي ناظم حكمت ( 1902- 1963 ) فتاريخه حافل بالنضال . درس في جامعة موسكو وعاد إلى تركيا بعد ثورة أتاتورك سنة 1924 ولكنه سرعان ما اعتقل لنشاطه السياسي . ثم أفلح في الهرب إلى موسكو سنة 1925 ( هناك تصادق معه نجاتي صدقي أول شيوعي فلسطيني درس في موسكو في تلك السنة ) . عاد إلى تركيا سنة 1928 حينما صدر عفو عام . لكنه اعتُقِل سنة 1938 بتهمة تحريض الجيش على التمرد وحكم عليه بالسجن 28 عاما. بعد أكثر من 12 عاما قضاها سجينا ( وقد روى فيما بعد للشاعر بابلو نيرودا عن العذاب الرهيب الذي عاناه وعن مرض القلب ومرض الكبد اللذين هدّدا حياته بالموت ) ، أُطلق سراحه نتيجة لحملة عالمية ولكن السلطات ظلت تكيد له ففرضت عليه وهو في الخمسين أن يكمّل خدمته العسكرية الألزامية . ذهب للفحص . همس له الطبيب : " وقوف ساعة في الشمس ينهي حياتك ". إلا أن التقرير الطبي الرسمي قرّر أنه صالح للخدمة ! طلب فرصة أسبوع ليقوم بالترتيبات الضرورية ... وبعد ثلاثة أيام أذاع راديو بخارست أن ناظم حكمت وصل إلى رومانيا .
رتّب أمر هربه في زورق بخاري صغير قاده قريب له اسمه رفيق أردوران , اجتاز البسفور إلى البحر الأسود في ليلة عاصفة . كان يقصد بلغاريا إلا أنه لقي في الطريق سفينة شحن رومانية ترددت في أخذه إلى أن راجعت الحكومة مما استغرق زمنا حتى جاءت الموافقة .
وأذكر أننا هنا احتفلنا بنجاة ناظم حكمت ووصوله إلى برّ الأمان .
أودّ أن أعود إلى تجربتنا في الحزب الشيوعي هنا حيال الاعتقال والنفي :
كان التوجيه ،كلما لاح خطر اعتقال ، أن لا يبيت الرفيق في بيته . أذكر إحدى الليالي ( سنة 1953 ) وقد بلغنا أننا مطاردون فذهبت قبل منتصف الليل ( الموعد المألوف لمثل تلك الحملات ) إلى بيت والد طيب الذكر توفيق زيّاد في الحارة الشرقية في الناصرة لأحذّر توفيق وذهبنا معا نبحث عن ملاذ .
وقبل أول أيار 1958 امتلأت الصحف العبرية بحملة عنيفة على الحزب ، بما في ذلك تهمة السعي للقيام بثورة كالجزائر . كان ذلك في أعقاب المؤتمر الثالث عشر للحزب (29/5 – 1/6/1957 ) الذي تحدّث فيما تحدث عن " النضال البطولي الذي شنّه حزبنا ضد سياسة الاضطهاد القومي الواقعة على السكان العرب ومن أجل مساواتهم في الحقوق ومن أجل حق تقرير المصير حتى الأنفصال للشعب العربي الفلسطيني بما في ذلك القسم الكائن في اسرائيل " ( كراس المؤتمر ص 47 ) . رأت السلطة في هذا القرار أمرا خطيرا يهدد بفصل أقسام عن الدولة . وكان الِأعداد لمظاهرة أول أيار (1958) فكان التوجيه أن لا يبيت الرفاق المسؤولون في بيوتهم . لذلك لم يجدوا طيّب الذكر الرفيق فؤاد خوري في بيته واستطاع أن يتلافى الاعتقال حتى انقشعت الغيمة إلى حين ، بعد اكثر من ثلاثة شهور . أما نحن الذين لم نبت في بيوتنا تلك الليلة وحسبنا أن الأمر انتهى بذلك وعدنا وكأن أمرا لم يكن فقد اصطادونا واحدًا واحدًا وتنقّلنا من سجن إلى آخر ، من الناصرة إلى الجلمة ثم يافا والرملة والدامون .
كان المبدأ كما يقول المثل العامي ( في سياق آخر ) " إن قدِرْت تْـمَغْيِب مَغْيِب .. "
ونسأل عن مدى إيماننا بعدالة المحكمة الأسرائيلية خاصة إذا كانت التهمة المهـيّأة " أمنـيّة " وقد راينا إدانة من ثبتت براءته بعد سنوات قضاها في السجن . ثمّ .. هل تحولت القضية من خطر الهجوم الوجودي على كياننا إلى دعوة الرجل إلى تسليم نفسه للاعتقال ؟
***
ختاما ، لنذكر كيف اجتمعت وتجتمع الأحزاب الصهيونية في إطار واحد رغم اختلافاتها المنهجية : لقد وحّدها الهدف المشترك فهو القاسم المشترك الأعظم . ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى التكاتف وتوحيد الصفّ .
إن الاختلاف في الاجتهاد أمر طبيعي بل إنه يثري مواقع الرؤية ، أما الخلاف ففيه المهلكة . وأمنيتي أن أرى القوى الوطنية جميعا وقد تعاضدت - مع احتفاظ كل منها بخصوصيتها – لتفشل المؤامرات التي تحاك لها وتفلح في نضالها العادل .
لماذا لا يحتضن بعضنا بعضا بمحبة ورحابة صدر ؟
في هذه المحبة قوّتنا وهي الدّرع . وكلّنا راعٍ وكلّنا مسؤول ...
حنّـا أبو حنّـا