جميلة شحادة - ورود أمير

مَن منّا لا يحب الورود؟!
معظمنا يعشقها؛ يعشق أريجها، ويعشق شكلها وألوانها، ويبتهج لرؤيتها. حتى أن البعض منّا قد ينسى همومه إذا ما وقع نظره على وردة اغتسلت بقطرات الندى في الصباح الباكر، أو على أخرى قد غفت آمنة في حضن أمها، أو إذا نظر الى باقة أبدع ماهر في تنسيقها؛ فكيف إذا كانت هذه الورود، ورود أمير؟!
ها هي الشمس تلملم خيوطها الذهبية لترحل الى مخبئها الى ما وراء البحار، أو الى ما وراء التلال القابعة غرب شرفة بيتي. لا أعرف مخبأها بالضبط، بل أشكُّ بوجود مخبأ لها ترحل اليه بانقضاء كل نهار. قد نكون نحن مَن يرحل عنها ويغادر موقعها، لكن رواياتنا الأدبية لا تعترف بذلك، كتّابها يفضلون أن يكون الرحيل من نصيب الشمس، لتفيض القلوب بالشجن، وتبتهل النفوس لأن تعود الشمس إليهم بعد رحيلها لتغمر أرواحهم بالنور والأمل. على أي حال، لا يهمني الى أين ترحل الشمس، ما يعنيني بل ويثير في نفسي الشجن، هو غروبها.
وأعود لذاتي وأسألها: لماذا أفكر الآن في رحيل الشمس؟ لماذا يحزنني هذا الرحيل؟ ألأن عاما قد انقضى من عمري في هذا اليوم؟ فليكن؛ فكم من مرة قلتُ للمهتمين بحساب العمر، إني لا أكترثُ لحسابات الكلدانيين او السومريين. لا يهمُني كم مرة سرتُ حول الشمس، او سار حوليَ القمر، ما يهمني هو ذاك اليوم العاصف، القارس البرودة، الحالك اللون، حيث بكت فيه السماء فسالت دموعها مدرارا، وعصفت الريح مزمجرة، فاقتلعت الأمنيات من مخادعها. وأما دموع السماء، فما كانت تأثرا بصرختي يوم مولدي، بل تعاطفا مع سوء الطالعِ. وأما زمجرة الريح؛ فما كانت قرعا لطبول الفرح استقبالا لصرختي؛ وإنما غضبا، إذ خبِرتْ ما سيكون لاحقا من مدى قدرة التحدي لها عندي.
ويرّن هاتفي، أتجاهل صراخه، أتابع رحيل الشمس، وأتأمل غروبها عبر زجاج نافذتي. لكن الرنين أبى التوقف، فأرغمني على أن ألبي نداءه.
- ألو، مرحبا.
- مرحبا، مُرسَل لكِ باقة ورد، هل تتواجدين في البيت؟
- عفوا، مع مَن أتحدث؟
- أنا من شركة التوصيل في الناصرة. ما هو عنوان بيتكِ بالضبط لو سمحتِ؟
- عفوا، مَن المُرسِل؟
- عذراً لا أعرف بالضبط، ولكن هناك بطاقة مرفقة بباقة الورد باسم المُرسِل.
بعد أقل من نصف ساعة، رنّ جرس بيتي. فتحت الباب، رأيت موظف شركة خدمات التوصيل واقفا ويحمل بيديه باقة من الزهور. ما أجملها من إرسالية! قلت في نفسي. لا شكّ أن منسِّقها تفنّن وأبدع بتنسيقها. لقد وفّق باختيار أنواعها وألوانها فبدت أكثر جمالا. ابتهجت نفسي لرؤية أزهار الأوركيد البيضاء بالذات، الأزهار التي أحب، وأسرعت لأقرأ اسم المرسل في البطاقة المرفقة لباقة الورد. "أهديكِ أجمل باقة ورد، وأقول لكِ: أنتِ تحتلين مساحة من فكري". المُرسل، أمير، الناصرة.
- مَن يكون أمير هذا؟ قلتُ لنفسي.
- متى عرفني؟
- وكيف؟ وأين؟ و...
تزاحمتْ الأسئلة في رأسي، واحتلت الظنون مساحة من فكري، وشغلتني لأكثر من يوم، لكن دون جدوى؛ فقد بقي أمير هذا، مرسِل الورود، مجهولا لي.
تكرر الحدث بعد سنة، بذات التاريخ، وذات الساعة. لكني هذه المرة رفضتُ أن أتسلم الورد من الأمير المجهول، وأصررتُ على رفض تسلمه، ما لم أعرف هوية أمير هذا؟
- لا بد أن بحوزتك رقم هاتف المرسِل، أعني أمير. قلت لموظف شركة التوصيل، وتابعت قائلة له:
- أخبره أني أرفض تسلم الورود.
وأمام إصراري هذا، استجاب الموظف لطلبي وهاتف أمير، مرسِل الورود. سمعت صوتاً أنثويا ناعما يفيض رقة قد تسلل عبر الهاتف يرد على مكالمة الموظف، فعرفت صاحبته. إنها مها، صديقتي التي فرّق بيني وبينها، قبل ثلاثة أعوام خِلاف أقل ما يقال عنه، تافه، ولا شأن للشيطان به، كما ادعى الأصدقاء واتهموه زورا وبهتانا. لقد قالوا لنا: دخل بينكما الشيطان. إذن هي صديقتي مها، وأما أمير؛ فهو من جعلها تفيض بمشاعر الأمومة، وهو مَن لوّن حياتها وحياة زوجها باسل بكل ألوان الفرح منذ ثلاث سنين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى