أ. د. أبو الحسن سلاّم - الإخراج الحداثى ودراماتورجيا (مارا – صاد) -ميتاتياتر ثورة في الحمام-

لا بد من فض الالتباس حول مفهوم الدراماتورجية
إذا كان المسرح التسجيلى كما صرح المخرج المسرحى الألمانى "بيسكاتور" هو ذلك المسرح الذي قال إنه كافح من أجله أكثر من ثلاثين عاماً عندما قدم مسرحية (النائب) للكاتب المسرحى الألمانى (هو خهوت) – في الوقت نفسه الذي برزت فيه آراء تؤكد أنها ليست بدراما على الإطلاق – وهي المسرحية التي أخرجها بيسكاتور ، وأحداثها – التي استخدم فيها مؤلفها أسلوب القطع الفجائي بما لا يخرج عن تقنية التغريب – عبر خمسة فصول يكشف فيها عن جرائم النازى التاريخية دون تشويق أو إثارة اعتماداً على وقائع متجاورة تجاورا غير هرمى قاصداً عرض الظاهرة السلوكية التاريخية للإنسان .. وقد اقتضاه ذلك المنحى الاستعانة بإمكانات المسرح الملحمى وبشرائح طبيعية تنتزع من التاريخ والوقائع أحداثا وصورا يعيد عرضها على المسرح ، حسبما أكد د. يسرى خميس في مقدمة ترجمته لمسرحية (مارا – صاد) وفق العنوان الذي وضعه لها د. يسرى في ترجمته لها .
ولم تبتعد مسرحية (مارا – صاد) التي هى مسرحية (اضطهاد واغتيال جان بول مارا كما قدمته فرقة تمثيل مصحة شارنتون) لم تبتعد في تقنيات كتابتها عن تقنيات كتابة مسرحية (النائب) – المشار إليها – ولا شك أن تغيير الدكتور يسرى خميس لعنوان المسرحية الأصلى كان ضرورة تطلبتها ثقافة جمهور مسرحنا . كما أن ضرورة إنتاجها إنتاجاً مسرحياً لها ضروراتها الموضوعية أيضا في الحل ، وقد اعتمد أبو دومة في عرضه على خمسة ممثلين من إحدى وعشرين شخصية تضمنها النص الأصلى فكان لابد من إعادة الكتابة دراماتورجيا .
لا شك أن لعنوان العرض دلالته التى تشف عن المغزى والمضمون بإيجاز حيث يكون لعنوان المسرحية أهمية من حيث قصره وجاذبيته ورنين كلماته وتلغرافيته فى تفعيل أفق توقعات المطالع له عبر وسائل الإعلام ووسائل الإعلان على تنوع مصادرها وأساليبها .
وإذا كانت تلك ضرورة إنتاجية تراعى الشرط الموضوعى للمجتمع الذى ستنتج فيه تلك المسرحية ؛ فإن تلك الضرورة لا شك محتملة الظهور تبعا لتغير الشرط الموضوعى لمجتمع تلقى عرضها مسرحيا . وربما كان هذا ما دعا د. محمود أبو دومة إلى التصرف في العنوان الذى وضعه – مختارا – الدكتور يسرى خميس لنص بيترفايس نفسه ، فيختار له عنوانا فرعيا حيث وضع لعرضه الذى أخرجه تتويجا تشخيصيا لإعادة كتابته وفق مفهوم (الدراماتورجية) عنوان (مارا – صاد – ثورة فى الحمام) ليقدمه لجمهور الإسكندرية بمسرح الجراج بمركز الجزويت الثقافى (ليلتى 21 – 22 مايو 2008) .
لقد تعمدت التمهيد بتلك المقدمة مرجئا الدخول مباشرة إلى قراءة العرض نفسه ، رغبة منى فى فض التباس حول مفهوم الدراماتورجية بعد أن حضرت مناقشة حامية بعد انتهاء العرض بين الدكتور يسرى خميس مترجم نص بيتر فايس نفسه والدكتور محمود أبو دومة حول عبارة (كتابة وإخراج محمود أبو دومة) لم أشا أن أقف هكذا متفرجا بين المخرج الدراماترجى لعرض مسرحية بيترفايس ومترجمها ، فأدليت بكلمة مختصرة حول دور الدراماتورجى بوصفه وسيطا بين النص المسرحى وعرضه رغبة منى فى فض الاشتباك البيزنطى .
وقبل الوقوف على دور الوساطة بين المؤلف ومخرج نصه ، وهو الدور المنوط بالدراماترجى، أتوقف للإشارة إلى أن هناك من الإخراج المسرحى ما هو خاضع خضوعا تاما للنص المسرحى ؛ وهو ما يعرف بالإخراج الاستعارى – وفق ليمان – وهناك الإخراج المسرحى ذو الاستقلالية المطلقة والذى يمتلك لغته المسرحية الخاصة ؛ وهو ما يعرفه "ليمان" بالإخراج السينوغرافى ، وهناك الإخراج المسرحى المستند إلى نصوص دون أن يكون فى خدمتها ؛ وهو ما يعرفه "ليمان" – حسبما جاء فى باتريس بافيس (تحليل العروض المسرحية) – بالإخراج الحدثى .
ومن رأيى عرض (مارا – صاد : ثورة فى الحمام) قد اعتمد على اللون الأخير من الإخراج المسرحى ؛ وهو (الإخراج الحدثى) ذلك أن د. أبو دومة قد استند إلى نص بيتر فايس – ولا أدرى إذا كان قد اتعمد على ترجمة د. يسرى خميس للنص الأصلى أم اعتمد على ترجمة النص الألمانى فى اللغة الإنحليزية – حسبما سمعت من الدكتور أبو دومة نفسه أو اشتبه علىّ سماع ذلك منه ، وفى كلا الحالين فإن ما عرض لم يكن بحال عرضا استعاريا للنص الذى أتحفنا بترجمته فى العربية د. يسرى خميس ، ذلك أنه نص وسيط بين النص الأصلى وفق ترجمته العربية تلك ونص الإخراج المسرحى الحامل لرؤية المخرج محمود أبو دومة .
ويتبقى لنا حول تلك القضية الملتبسة وقفة حول فكرة إعادة الكتابة أو فكرة الدراماتورجية .. ولربما فكرة أعانت عبارة باتريس بافيس على فهم دور المخرج المسرحى الحداثى حيث يقول : "لقد حل مخرج العرض شيئا فشيئا محل المؤلف بوصفه السلطة المهيمنة على إنتاج المعنى والمدلول الثابت للنص .
وبدوره فإن المخرج المسرحى سوف يصبح موضع شك ويتهم بأنه يغلق المعنى . وبأنه فاعل متسلط"
(تحليل العروض المسرحية .. مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى (18) – 2007 ص 350)
لم تعد خشبة المسرح كما لم يعد النص المسرحى مجرد ممارسات دالة مفتوحة بمعنى أننا نستطيع أن نجعلهما يقولان كل ما نرغب فيه وأن النظرية لم تعد سوى لعبة ، وحسب بافيس : فإن الاختيار لم يعد كما كان فى الماضى بين نص له مدلول عليه أن يوصله بأمانة ، ونص يمكننا استخدامه وكأنه أداة بناء .
ولأن الإخراج المسرحى على ذلك النحو هو طريقة تفاعل إبداعى بين النص والعرض بحيث يؤثر كل منهما فى الآخر على نحو مستمر يولد دلالات ؛ منها ما يعمق بعضه بعضا ، لذلك يصبح من الخطأ القول بتوحد العرض مع النص ، لأن ذلك ناف للإبداع أى لابتكار صور متفردة تتعدد فيها دلالات النص المسرحى .. ولربما قال قائل إن قيام مخرج عرض مسرحى بدور الوسيط بين نص يتعرض له بالإخراج وبين عرضه له فيه شئ من التوحد بين إعادة إنتاجه للنص المسرحى كتابة وإعادة إنتاجه لما كتب إخراجيا . وفى ذلك كثير من الحق ، وفى ظنى أن المخرج محمود أبو دومة قد توحد مع الكتابة الاستعادية لنص بيتر فايس الأصلى – سواء أكان اعتماده على ترجمة د. يسرى خميس أم كان اعتمادا على النص فى ترجمة إنجليزية – وسواء أكانت كتابته لنص العرض فى لغة حوار فصحى أم خليطاً بين الفصحى والعامية على نحو ما رأينا وسمعنا فى تباين أداء الممثلين ما بين حالة ما قبل التشخيص تمثيلا داخل التمثيل فى إطار ما يعرف اصطلاحيا بالميتاتياتر – الدراما الشارحة – على اعتبار أن مشاهد إعادة تصوير الحدث متقطعا أو مجزءًا وفق أسلوب القطع والوصل فى بنية شبه متشظية لا تخرج عن أساليب المينيماليزم : اللا اكتمال الفنى الذى هو عند بريخت أسلوب للتغريب فالتشخيص : مشاهد شارحة للحدث المسترجع من تاريخ الثورة الفرنسية تركيزا على أحد أهم قادتها (مارا) وهذا الاسترجاع هو نوع من بقايا ذكريات وصور باهتة لا يزال بعضها عالقا فى ذاكرة المركيز دى صاد ، أراد بيتر فايس عن طريق كتابتها إعادة تصوير ظاهرة تاريخية هى ظاهرة الثورة الفرنسية وما سال تحت مقاصلها من دماء للكثير من الفقراء الذين تدّعى الثورات أنها ما قامت إلاّ من أجلهم ؛ وهو ادعاء متكرر مع كل ثورة ، وهو ادعاء باطل حيث لا تحظى البلاد التى زعم الثائرون على ترديها وتفشى المظالم والمفاسد فيها إنما جاءوا لخلاص فقرائها ، لم تحظ تلك البلاد سوى بحمامات الدم . وفى ظنى أن ذلك ما أراد أبو دومة بإعادة إنتاجه للنص كتابة وعرضا أن يؤكده ، لذلك أضاف إلى العنوان الذى غاير أصل عنوان بيتر فايس لمسرحيته فوضع عنوان (ثورة فى الحمام) فى ترجمته الرائدة (مارا – صاد) وهنا موطن ثبات المخرج أبو دومة على رأية المختلف مع ما طرحه د. يسرى خميس فى حواريتهما الخلافية بعد انتهاء العرض الذى أنتجه معهد جوته بالإسكندرية ودعا إلى حضور عرض ليلة الافتتاح
د. يسرى خميس . هنا يتبادر إلى ذهنى أن الحقوق المادية للترجمة – حالة التأكد من أن النص المعاد أنتاجه دراماتورجيا اعتمد على ترجمة د. يسرى محفوظ فى عهدة المنتج لا فى عهدة المخرج . وقبل أن أغادر تلك الإشكالية أريد التأكيد على نقظتين :
الأولى : ميل الإخراج المسرحى المعاصر إلى إنكار كل علاقة أو رابطة فيما بين النصوص والممارسات الفنية – غالبا – ابتعد أبو دومة فى إخراجه لعرض (ثورة مارا فى الحمام) فاختلطت عنده الأساليب فالمنظر جسد النزعة الطبيعية .
والتمثيل تطابق إلى حد بعيد معطيات واقع فرقة من المرضى النفسانين فى مصح نفسانى يمضون أوقات يقظتهم فى إعادة تمثيل نتف درامية لحدث تاريخى عبر محاورات تشخيصية متشظية .
وهو ما اقتضى من الممثلين التنقل عبر مسار الاستاليزية والتعبير التجسيدى المتركز على الصفات الداخلية – خاصة فى أداء الفنانة د. عواطف إبراهيم فى دور "شارلوت كوردييه" وفى أداء محمد عبد القادر فى دور "مارا" وفى لحظات قليلة فى أداء الفتاة (سيمون) التى ترعى (مارا) المحموم فى الرقدة الأخيرة له فى البانيو . وذلك فى مقابل الأداء التشخيصى المؤكد لطبيعة إنتاج المشهد التاريخى عبر (الأداء الميتاتياتر) الذى قام به شريف الدسوقى فى دور المركيز دى صاد وخالد فى دور الأب مدير المصح (جاك رو) ، ومع أن فضاء المنظر المسرحى كان ممتدا حيث حوائط الحمام من كراتين بيض والمراحيض للتبول ، تلك التى يستعملها المركيز والقس مدير المصح بين وقت وآخر أمام الجمهور ، وكذلك دورة المياه فى العمق ، والتى يستخدمها المركيز دى صد أمامنا وأحواض الغسيل والصنابير والمواسير الظاهرة والحقيقية ، مع أنها لم توظف على نحو ملاحظة الفنان الناقد فتوح الطويل برغم وجود الصابون والمناشف . وإن كل تلك التفاصيل الدقيقة للمكان (البيئة) هى عمود النزعة الطبيعية . وهو أمر يتعارض أو يتناقض مع المسرح التسجيلى الذى استند فكريا على المادية التاريخية التى اعتنقها بيترفايس نفسه ، والتى هدفت كتاباته المسرحية والسينمائية قبلها إلى تبنيها . وهنا تحضرنى مقالة إنجلز : حيث يتعارض مع "نظريات المذهب الطبيعى ويتعرض لها بالنقض اللاذع ولمبدعها باعتبارها مضيعة للوقت وعاملا من عوامل التباعد مع اجتماعيات الفنون أو ارتباط الفن بالمجتمع (نقلا عن د. كمال عيد ، إعلام ومصطلحات المسرح الأوروبى 2006).
هذا فضلا عن أن تقنية التمثيل داخل التمثيل تعتمد على إعادة تصوير موقف أو صورة سابقة مستعادة استعادة نقدية أو تأويلية يغلفها الممثل بتعبير صوتى وحركى حاملاً لوجهة نظره هو ؛ فضلا عن وجهة نظر المخرج نفسه ، وهو أمر ينتج دلالات متعددة للموقف أو للصورة المعاد إنتاجها بأسلوب التمثيل داخل التمثيل ، فالممثل تبعا لذلك يقدم التفسير على التعبير ، بمعنى تفعيل طاقة البيان على حساب طاقة الوجدان استنهاضا لإدراك المتلقى بديلا لاستغراق المتلقى .
وأعود فى النهاية للتأكيد على أن إعادة إنتاج النص الأصلى بكتابة دراماتورجية كانت ضرورة تفرضها علاقات إنتاج جديدة للعرض ، حيث إيقاع العصر والإيقاع الفكرى والمتوافق مع إيقاع جمهور التلقى وغالبيته من الشباب فضلا عن طول زمن عرض النص الأصلى إلى جانب عدم تضمن خطة إنتاجه للغناء وللعدد الكبير من المرضى ومن شخصية المنادى لوفاء خمسة ممثلين بحمل خطاب العرض وفق تأويله دراماتورجيا ، ومن البلاغة الدرامية والإنتاجية إدراك الضرورة ، فما يمكن توصيله أو تحقيقه بخمسة ممثلين لا حاجة إلى تحقيقه بعشرين ممثلا .


أ. د. أبو الحسن سلاّم



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى