عزيزى طه
أنست كثيراً بجوابك وسرنى، وقد وددت لو أكون قريباً منك، لأحاول أن أدفع عنك ذلك السأم الذى تلقى، فإنى لأكره لك أن تسأم، وإن كنت أسأم أحياناً، ولعله قد آن الوقت الذى كنت تقدر فيه، أن تحضر إلى باريس، وإذن سنتقابل إن شاء الله، ونتحدث فى تنظيم خطة لنا تكون ناجحة مثمرة، وربما اشترك معنا أخونا مصطفى، ولا تنس أن الدكتور هيكل فى أوروبا أيضاً
أنا فى باريس منذ شهر ونصف وقد سافرت إلى مرسيليا، فاستقبلت أخانا مصطفى، وقضيت معه أياماً بين مارسيليا وليون، وذهبت معه إلى أكس لى بان، ثم تركته هناك على أمل أن نتقابل بعد ثلاثة أسابيع فى مكان لم نتفق عليه، والراجح أنه باريس، وكان هيكل مع مصطفى على السفينة، لكنه تركنا فى مرسيليا إلى باريس، وفى عزمه أن يقيم أياماً فى لندن، ولا أدرى أين هو الآن، إذا كان فى عزمك الحضور إلى باريس، فاكتب لى من الآن، لعل ذلك يؤثر فى «بروجرامى» أنا ومصطفى
صحتى جيدة وحياتى هنا فى الجملة رضيّة، لولا أننى لم أتقدم فى دراسة الفرنساوى مطلقاً، ولا أكاد أشتغل فيه، ولا أشتغل فى شىء غيره، ولا أتفسح ولا ألعب، فأنا المشغول الخلىّ، مشغول حتى لا أستطيع أن أكتب جواباً، خلىٌّ لا أعمل شيئاً، حتى لا أفكر، أشبه شىء بحياة العاشقين، ولكنى لست عاشقاً، وما أنا ممن ينزل العشق قلبه
لست أفكر فى شىء، ولا أريد أن أفكر فى شىء، فدعنى يا صاح لهذه الحياة الخلية المشغولة، وما أبالى كيف تسميها أو تصفها، وما أبالى رضيتها لى، أم كنت لها من الكارهين
تريدنى أن أفكر وأمعن التفكير، وحرام عليك أن تذكرنى وأنا فى باريس، وأنت تعرف ما هى باريس، بمشايخ الأزهر، وهناتهم فتشوه بهم ما يعمر الذهن من صور الجمال، وتقطع بهم أنغام تلك الحياة شجية منسجمة، وتكدر بذكراهم لعنهم الله كأساً هنية صافية
وأقسم أنك لو أخذت من زريبة الأزهريين الشيخ بخيت، والشيخ شاكر فقط، وربطتهما فى حبل واحد، ودليتهما من فوق تور إيفل، لأظلمت بهما باريس، من مشرقيها ومغربيها، وخيم النحس بشراشره عليها، فكيف تريد لذهنى وليس فيه من النور ولا من السعادة ما فى باريس، أن يحل عليه ذلك النحس المشئوم
بلى، ولست أحب لك يا صاحبى أن تشغل نفسك الآن بالتفكير، ولا أن تسلط عليها ذلك السأم، إن أمامنا تفكيرا يستحق الإمعان وإن أمامنا لشغلاً ثقيلاً، وإن علينا كما تقول واجبات كتب الله أن نؤديها، ولسوف نفكر ولسوف نشتغل، ولسوف ننهض بحمل تلك الواجبات، ولكنى أرجوك أن ترتوى من الراحة قبل التعب، وأن تأخذ من جمال الحياة فى أوروبا لقبح الحياة فى مصر
أخلع نعليك، إنك بالوادى المقدس، وارتع فى رياض النعيم حولك، واشرب من كئوس اللذات دهاقاً
وادخل للحان خليلى ومل = نحو الخمار أبى السرج
واشرب وأطرب لا تخش سوى = إياك تمل عن ذا النهج
إنك لن تكون صالحاً للتفكير ولا للشغل ولا للنهوض بما كتب الله عليك، إلا إذا ما تضلعت من سلسبيل اللذة، كما يتضلع الحاج من ماء زمزم، وإذا ما ذقت نشوتها صبوحاً وغبوقاً وقياماً وقعودا ونهلاً بعد إعلال، وإذا ما امتزجت كما يقول السنوسى «بلحمك ودمك، فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب، مالا يدخل تحت حصر» فإذا ما سكرت بعد ذلك سكراً يذهلك عن نفسك، وعن «هذه الحملة السخيفة التى حملها الشيوخ على كتاب «الشعر الجاهلى»، وعن السياسة وأصحاب السياسة، وعن الزعماء الذين يتحكمون فينا ونحبهم ونقدرهم، إذا ما سكرت فنسيت كل شىء، وصرت مشغولاً خليا أو خليا مشغولاً، فاعلم أيدك الله، أنك قد وصلت إلى مقام الفناء، الذى يصل إليه الصديقون المجاهدون، وأنك قد صرت صالحاً للصحو بعد المحو، وللفكرة بعد السكرة، فاجمع رحالك بعد ذلك، وتعال إلى باريس نفكر والله المعين
نصحتك علما بالهوى والذى أرى = مخالفتى فاختر لنفسك ما يحلو
تحيتى واحترامى وشوقى لك، ولمدام طه ولأنجالك الكرام، وللأخ توفيق أفندى
***
-2
من رسالة للشيخ على عبدالرازق
عزيزى طه
أحييك وأحييى زوجتك العزيزة وأنجالك وأبلغكم جميعا تحية عائلتى وأرجو أن تجدوا فى مصيفكم من الراحة والمتاع ما يزيدكم عافية وصحة وسعادة.
لقد سرنى كثيرا أننى خطرت ببالك، وسرنى أكثر أنك كتبت إلىّ وأعجبنى هزلك وجدك، ونصحك ولومك، وخطؤك وصوابك، على أن شكرى إياك وإعجابى بك، وسرورى من أنك تفضلت فذكرتنى، لا تمنعنى من مخالفتك على بعض ما قلت خطابك، لا أبالى ضاق صدرك بهذا الخلاف أم اتسع، فقد أخذ الله علينا نحن الزعماء ألا نقر الناس إلا على الحق. ونحن نعلم أنكم يا رجال النبوغ العبقرى أحرج الناس صدرا بمن يخالفكم أو ينقدكم، وألينهم أذنا لسماع المديح والتمليق، ولكن الذى بنى على هذه الصفة نفوسكم، بنى نفوسنا على حب الخلاف والجدل واستكراه الملق والمديح، فأقام بذلك أسباب التفاوت كبيرا بين الزعامة ولولا أن الله خرق لك القاعدة وجعلك بين رجال العبقرية شاذا فجمع فيك بين النبوغ والزعامة، لما كان للتعارف بيننا من سبيل، ولكن الزعامة دوحة تضمنا معا، ثم يميزك بعد ذلك النبوغ المعبقر، فإذا نحن مختلفان».
على عبدالرازق
أنست كثيراً بجوابك وسرنى، وقد وددت لو أكون قريباً منك، لأحاول أن أدفع عنك ذلك السأم الذى تلقى، فإنى لأكره لك أن تسأم، وإن كنت أسأم أحياناً، ولعله قد آن الوقت الذى كنت تقدر فيه، أن تحضر إلى باريس، وإذن سنتقابل إن شاء الله، ونتحدث فى تنظيم خطة لنا تكون ناجحة مثمرة، وربما اشترك معنا أخونا مصطفى، ولا تنس أن الدكتور هيكل فى أوروبا أيضاً
أنا فى باريس منذ شهر ونصف وقد سافرت إلى مرسيليا، فاستقبلت أخانا مصطفى، وقضيت معه أياماً بين مارسيليا وليون، وذهبت معه إلى أكس لى بان، ثم تركته هناك على أمل أن نتقابل بعد ثلاثة أسابيع فى مكان لم نتفق عليه، والراجح أنه باريس، وكان هيكل مع مصطفى على السفينة، لكنه تركنا فى مرسيليا إلى باريس، وفى عزمه أن يقيم أياماً فى لندن، ولا أدرى أين هو الآن، إذا كان فى عزمك الحضور إلى باريس، فاكتب لى من الآن، لعل ذلك يؤثر فى «بروجرامى» أنا ومصطفى
صحتى جيدة وحياتى هنا فى الجملة رضيّة، لولا أننى لم أتقدم فى دراسة الفرنساوى مطلقاً، ولا أكاد أشتغل فيه، ولا أشتغل فى شىء غيره، ولا أتفسح ولا ألعب، فأنا المشغول الخلىّ، مشغول حتى لا أستطيع أن أكتب جواباً، خلىٌّ لا أعمل شيئاً، حتى لا أفكر، أشبه شىء بحياة العاشقين، ولكنى لست عاشقاً، وما أنا ممن ينزل العشق قلبه
لست أفكر فى شىء، ولا أريد أن أفكر فى شىء، فدعنى يا صاح لهذه الحياة الخلية المشغولة، وما أبالى كيف تسميها أو تصفها، وما أبالى رضيتها لى، أم كنت لها من الكارهين
تريدنى أن أفكر وأمعن التفكير، وحرام عليك أن تذكرنى وأنا فى باريس، وأنت تعرف ما هى باريس، بمشايخ الأزهر، وهناتهم فتشوه بهم ما يعمر الذهن من صور الجمال، وتقطع بهم أنغام تلك الحياة شجية منسجمة، وتكدر بذكراهم لعنهم الله كأساً هنية صافية
وأقسم أنك لو أخذت من زريبة الأزهريين الشيخ بخيت، والشيخ شاكر فقط، وربطتهما فى حبل واحد، ودليتهما من فوق تور إيفل، لأظلمت بهما باريس، من مشرقيها ومغربيها، وخيم النحس بشراشره عليها، فكيف تريد لذهنى وليس فيه من النور ولا من السعادة ما فى باريس، أن يحل عليه ذلك النحس المشئوم
بلى، ولست أحب لك يا صاحبى أن تشغل نفسك الآن بالتفكير، ولا أن تسلط عليها ذلك السأم، إن أمامنا تفكيرا يستحق الإمعان وإن أمامنا لشغلاً ثقيلاً، وإن علينا كما تقول واجبات كتب الله أن نؤديها، ولسوف نفكر ولسوف نشتغل، ولسوف ننهض بحمل تلك الواجبات، ولكنى أرجوك أن ترتوى من الراحة قبل التعب، وأن تأخذ من جمال الحياة فى أوروبا لقبح الحياة فى مصر
أخلع نعليك، إنك بالوادى المقدس، وارتع فى رياض النعيم حولك، واشرب من كئوس اللذات دهاقاً
وادخل للحان خليلى ومل = نحو الخمار أبى السرج
واشرب وأطرب لا تخش سوى = إياك تمل عن ذا النهج
إنك لن تكون صالحاً للتفكير ولا للشغل ولا للنهوض بما كتب الله عليك، إلا إذا ما تضلعت من سلسبيل اللذة، كما يتضلع الحاج من ماء زمزم، وإذا ما ذقت نشوتها صبوحاً وغبوقاً وقياماً وقعودا ونهلاً بعد إعلال، وإذا ما امتزجت كما يقول السنوسى «بلحمك ودمك، فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب، مالا يدخل تحت حصر» فإذا ما سكرت بعد ذلك سكراً يذهلك عن نفسك، وعن «هذه الحملة السخيفة التى حملها الشيوخ على كتاب «الشعر الجاهلى»، وعن السياسة وأصحاب السياسة، وعن الزعماء الذين يتحكمون فينا ونحبهم ونقدرهم، إذا ما سكرت فنسيت كل شىء، وصرت مشغولاً خليا أو خليا مشغولاً، فاعلم أيدك الله، أنك قد وصلت إلى مقام الفناء، الذى يصل إليه الصديقون المجاهدون، وأنك قد صرت صالحاً للصحو بعد المحو، وللفكرة بعد السكرة، فاجمع رحالك بعد ذلك، وتعال إلى باريس نفكر والله المعين
نصحتك علما بالهوى والذى أرى = مخالفتى فاختر لنفسك ما يحلو
تحيتى واحترامى وشوقى لك، ولمدام طه ولأنجالك الكرام، وللأخ توفيق أفندى
***
-2
من رسالة للشيخ على عبدالرازق
عزيزى طه
أحييك وأحييى زوجتك العزيزة وأنجالك وأبلغكم جميعا تحية عائلتى وأرجو أن تجدوا فى مصيفكم من الراحة والمتاع ما يزيدكم عافية وصحة وسعادة.
لقد سرنى كثيرا أننى خطرت ببالك، وسرنى أكثر أنك كتبت إلىّ وأعجبنى هزلك وجدك، ونصحك ولومك، وخطؤك وصوابك، على أن شكرى إياك وإعجابى بك، وسرورى من أنك تفضلت فذكرتنى، لا تمنعنى من مخالفتك على بعض ما قلت خطابك، لا أبالى ضاق صدرك بهذا الخلاف أم اتسع، فقد أخذ الله علينا نحن الزعماء ألا نقر الناس إلا على الحق. ونحن نعلم أنكم يا رجال النبوغ العبقرى أحرج الناس صدرا بمن يخالفكم أو ينقدكم، وألينهم أذنا لسماع المديح والتمليق، ولكن الذى بنى على هذه الصفة نفوسكم، بنى نفوسنا على حب الخلاف والجدل واستكراه الملق والمديح، فأقام بذلك أسباب التفاوت كبيرا بين الزعامة ولولا أن الله خرق لك القاعدة وجعلك بين رجال العبقرية شاذا فجمع فيك بين النبوغ والزعامة، لما كان للتعارف بيننا من سبيل، ولكن الزعامة دوحة تضمنا معا، ثم يميزك بعد ذلك النبوغ المعبقر، فإذا نحن مختلفان».
على عبدالرازق