د. رسول محمد رسول - المجتمع وإرادة التنوير..

لا بد للفعل المعرفي الفلسفي التاريخاني الأصيل، وفي ظل العصر الدَّموي الذي يحاصر وجودنا البشري من كل جهة، أن يضطلع، وعبر صاحب المعرفة الفلسفية أو الفيلسوف أو المتفلسف أو مؤثِر الحكمة، بتركيز النَّظر في الاستثناء وفي الحدث أو وبحسب آلان باديو، "أن تلقي الفلسفة ضوء على قيمة الاستثناء؛ قيمة الحدث، قيمة الانقطاع، وأن تفعل هذا بمواجهة استمرارية الحياة، وبمواجهة التحفُّظ الاجتماعي"، وفق رؤية أنطولوجية متكاملة.
لقد بات الراهن الموضوعي يُنْتج استثناءاته الكبيرة، يُنتج أحداثه المروَّعة والمروِّعة في آن واحد؛ ففي الأمس البعيد كانت كل صور الموت والدمار والخراب تجري في أمكنة ما ولا يدريها أحدنا إلاّ بعد حين، أما الآن فكل الذي يجري هناك تراه هنا والآن، وما يجري هنا والآن يراه غيرك الذي يعيش هناك، ولعل جريمة سبايكر، وجريمة حرق الطيار الأردني، وبغض النظر عن صدقهما أو كذبهما، وكذلك جريمة ذبح الأقباط المصريين؛ بل وما جرى في العراق بُعيد الاحتلال الأمريكي البشع من ذبح وقتل وإعادة تفخيخ للجثث مقطوعة الرأس، خير أمثلة على ذلك، فكلها "أحداث" وقد جرت، وكلها "استثناءات" مدوّية صارخة الحدوث تستدعي صاحب المعرفة الفلسفية إلى التفكُّر فيها بعمق وعلى نحو تاريخاني؛ فلا يجب أن نزيحها إلى النسيان لكي لا نخرج أصلاً من التاريخ، ونكون بذلك أصحاب معرفة خارجة عن التاريخ في وقت ينتج الرَّهط التدميري الرعاعي الطاغي الذي يقتلنا ذبحاً وحرقاً ويشوينا على نار هادئة حتى يحيلنا عدماً في كل آن؛ ينتج لحظته التاريخانية البشعة؛ فلقد رأينا كيف يُدمِّر الدواعش تراثنا الشاخص العريق على نحو مُستباح، ورأينا كيف أقبل الطغاة الجُدد وقتلة العصر على استخدام السيوف والفؤوس في تهشيم اللقى الأثرية المحفوظة في (مُتحف الموصل) نهاية شهر شباط/ فبراير 2015، وكذلك تفخيخ وتفجير (مسجد الخضر) التراثي بمدينة الموصل نفسها، وهو المسجد الأيقونة الذي يعود إلى القرن التاسع الهجري، وبالتالي محاولات تدمير (مدينة نمرود) التراثية مطلع شهر شباط/ فبراير 2015، ناهيك عن أحداث أخرى في غير مكان بالعالم العربي والإسلامي وغيره.
الذبح والفساد
إنها سيوف الذبح والفساد وفؤوس التهشيم التي استخدموها في قتل العراقيين والعرب وغيرهم من بشر المعمورة الكونية في غير مكان عبر إرهابها المُسَّلط عنوة على الناس، ذلك الإرهاب الذي صار "يسطو على الثورات العربية، ويريد تحويل الشعوب إلى رعاع، والدولة العربية إلى خلافة، والمرأة إلى جارية، والمدن إلى حطام، والبشر إلى جثث ورؤوس متناثرة هنا وهناك، إرهاب يريد شعوباً تأكل أبنائها، وأبناء يدمّرون مدن آبائهم، وعصابات ما بعد حديثة لا إنسانية للتجارة بشعوبها، هذا هو الإرهاب الجديد الذي حوّل الله وعباده إلى مُكنة للتجارة بالسلاح والأرواح". وهو إرهاب صار أصحابه أيضاً "يتجوَّلون في قلوب العواصم العربية وضواحيها على ظهور الدبّابات في شكل من الغزو البربري، والوقاحة اللاهوتية، والعراء التشكيلي، والصفاقة الكلبية؛ فتراهم يقتّلون ويذبِّحون قُرى بأكملها وعائلات وعشائر، وينثرون الرُّعب والخراب حيثما حلّوا؛ كلّما دخلوا مدينة إلاّ وصارت ركاماً" .
لقد راق لي استحضار وصية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الرابعة، من بين وصايا أخرى، وهو يفكِّر حال الفلسفة خلال ملتقى عُقد بـ (جامعة باريس العاشرة) في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 1984 تحت عنوان لقاءات بين المدرسة والفلسفة قائلاً:
"إنَّ الفلسفة تتجاوز مؤسساتها، ويجب عليها تحليل تأريخ وواقع مؤسَّساتها الخاصَّة، ويجب عليها أيضاً أن تظل حرة في كل لحظة، وألاّ تقنت إلا لصوت الحقيقة، وقوة السؤال أو الفكر، ومن حق الفلسفة أن تقطع الصلة مع كل رباط مؤسساتي؛ فما هو خارج المؤسَّسة يجب أن يتوافر على مؤسَّساته دون الانتماء إليها" .
في هذا النَّص، ومن منظور قرائي تأويلي، لا ينبغي اعتبار تجاوز الفلسفة لمؤسَّساتها تعال غير أخلاقي، فلقد كان الفيلسوف الكندي ابناً لمؤسسة (بيت الحكمة)، ولم يتعالى عليها إنما تعالى، عبر العمل، على تقويض العجز والنكوص صوب الاشتغال المعرفي الفلسفي الخلاق، ولم يحد هذا البيت المؤسَّساتي من تطلُّعات الكندي الفكرية والفلسفية وهو يكتب رسالته في (الفلسفة الأولى)، ولم يحدُّه أيضاً من كتابة (رسالة الأحزان)، ففي العمل الأول كان الكندي نظرياً تأمُّلياً، وفي الثانية كان عملياً مجتمعي الاتجاه.
أما مسألة الانتماء إلى المؤسَّسة من عدمه، فهذا ما سأختلف فيه مع جاك دريدا، ذلك أن المؤسَّسات، والمؤسَّسة الجامعية منها، هي في نهاية المطاف حاضنة معرفية مفتوحة، فالجامعة ليست مشروعاً فلسفياً، وإن كان للتعليم فيها فلسفة وخطاب؛ بل هي الكيان التعليمي المفتوح على معارف وعلوم يتم تداولها على نحو محض خال من أيّة حمولات ومتضمِّنات أيديولوجية، وتلك هي طريق النجاة، هذه النجاة التي لم يجربها العراق بعد 2003.
إرادة التنوير
إن أنموذج الفيلسوف المأمول راهناً، لا بدَّ له أن يستحضر إرادة الرغبة العقلية الحقيقية المقتدرة بالتنوير بعيداً عن أيَّة ميول جهويَّة أو أسطورية أو خرافية متعالية كما كان حال التنوير الأوروبي، في بعض أشكاله التي سكنت باحات هذه الميول حتى سقطت في فخاخها مهزومة، يستحضر الفيلسوف إرادة التخلُّص من الشُّعور الحاد بالغربة السَّلبية عبر تفكيك - هذا الشعور - ودحره صوب الانفتاح التفاعلي الخلاق بين الفيلسوف والمعرفة والواقع المعاش. وكذلك تفادي التعالي على أنموذج فيلسوف يمكن أن يكون هادياً لمشروع تنويري ما، وتبديد مخادعة الحدوث التاريخاني لفعل التفكير الفلسفي التي يبديها هذا الطرف أو ذاك من دُعاة اليأس الذاتي الذين عجزوا عن وصل معرفتهم الفلسفية وملامستها لحراك الواقع المجتمعي خارج الإطار المؤسَّساتي، والنَّظر إلى ما يجري في الواقع كاستثناء وحدث وانقطاع وليس مجرَّد صيرورة غُفل تأتي وتمر وتذهب بحيث تهيئ - هذه الثلاثية المفهومية - لبنية المعرفة الفلسفية طابعها في أن تكون الاستثناء المعرفي، والحدث المعرفي، والانقطاع المعرفي، وتهيئ تجربتها التاريخانية أيضاً لولادة فيلسوف الاستثناء المعرفي، فيلسوف الحدث المعرفي، فيلسوف القطيعة/ الانقطاع المعرفي الفلسفي الأصيل.
بهذا يمكن أن تصبح المعرفة الفلسفية التنويرية الإنسانية العقلانية النّقدية أكثر من كونها مجرَّد تخصُّص معرفي أكاديمي خبيء أسوار الجامعات أو سجينها الراجف، الباحث عن مرتب مالي وترقيات علمية يسابق بها بؤس واقعه المجتمعي مطحون الأزمات.
وبذلك، وبذلك فقط، يمكن للفيلسوف أن يوقظ الحوار مع ما يجري في العالم، يوقظ التنافذ التواصلي مع مصير العالم عبر التفكُّر الأصيل الذي هو مصيره الوجودي والأنطولوجي كإنسان وهبته طبيعته البشرية القدرة على التفكير الخلاق في - ما – يجري، وفي ما - يكون، وفي ما سيكون أو ممكن - أنْ - يكون .
إن هكذا حوار، لا يجري إلاّ بإيقاظ الفلسفة التنويرية من سباتها العميق لتصحو على حراك اليومي الاستهلاكي بتخليصه من سذاجته ولا معقوله، وذلك لا يتم إلاّ عبْر استيقاظ الفيلسوف ذاته من سباته ليصحو على اليومي غير الاستهلاكي لتلبية نداء العلاقة التنويرية المتوثبة بين الفكر والواقع، بين الحكمة ومؤثر الحكمة، بين الفلسفة والفيلسوف، وأخيراً بين الموجود والوجود.
ومن هنا تبدأ إرادة الاقتدار التنويري الإنساني العقلاني النَّقدي، ومن ههنا أيضاً يبدأ التنوير الحقيقي الأصيل رحلته ليؤسِّس العلاقة المفكَّر فيها بين الوجود والزمان، وكما قال هيراقليطس: "لا ينبغي على الإنسان أن يعمل أو يتكلَّم كما لو أنه نائم".


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى