(الجزء التاسع عشر)
1
يغيبُ بعضُ الشُّعراء وتصِلُ رسائلهم ليس إلى التابوت في صندوق البريد ولكن لتستقرَّ في القلب المشدود بحبل الوريد، ومنها هذه الرسالة التي ربما بِعُمر ابنتي "روان" وها قد تجاوز عمرها العقد بسنتين حول جِيد الزمن، وصلتْني من الشاعر العزيز إدريس عيسى، وكنتُ افتقدْتُهُ بعد أنْ غيَّبتْه "امرأة من أقصى الريح"، ولا أعرف في أي عاصفة أو عاطفة كان يقف منتظرا أن يَلُوح الأفق ببارقة أمل، يقول في رسالته التي ما زالت تبعث نفسها كل يوم من الأنقاض:
(أخي محمد، بلغني من الصديق عسيلة بوعيشة أنك سألتَ عنِّي، ما مِنْ أحدٍ يسأل عنِّي منذ زمن، أنا في الغيابة، أجاري الليل وأجهد في فهم ما أرى، أكتب وأكدِّس البيادر وليس يُهمُّني من بعد أن تترمد، أو تتعفن أوراق الكراريس، أو أفقدها كما فقدت من قبل مجموعة كاملة، لم أعد، من شدتها وتواترها، أقدر أن أحصي الأمراض التي ألمَّت بي منذ عودتي من جيبوتي؛ أرض اللعنة والخسوف، يصلك بريدي الضوئي هذا، فليت عروق الجن التي أوصلته تبقى مشدودة غير منكوثة. لا أومن بهذه العوالم المقذوفة إلينا عبر الأسلاك على الشاشات. لا أسخر الإنترنيت إلا لماما. عيناي تعبتان. بوركت المولودة وبورك اسمها الأمزيغي (أهو روال؟) ستعصف بروحك ولسانك ويدك التي تكتب، لا ريب. أتمنى لها العافية والمقام السعيد أبدا بيننا على هذا الكوكب. حبا).
أخوك إدريس عيسى
2
بعض المناصب الحسَّاسة في الدولة، يثير كثرة تناولها في الأطباق الإعلامية الحساسِيَّة حتى على مستوى البشْرة، ولمَ لا وفي كل مرة نُفاجَأ أنه اختير لبعض هذه المناصب شخصٌ غير مناسب نزل بقرار سياسي من فوق مع خيوط العناكب، لذلك فقدْنا الكفاءة وصنعنا أكثر من مَباءة !
3
أول شيء صنعه الانسان كي يتعرَّف على نفسه في أعين الآخرين هي المرآة !
4
الظهور يحتاج أيضا لموهبة وخزانة من الكتب في الرأس، وليس فقط لحُبِّ الظهور الذي يجعل البعض جارياً بغرور مع كل قنوات الصرف متناثرا أيضاً مع الأوراق، وإلا ماذا يُجْديك أن تظهر بوجهك المليح على سطح القمر وأنت تفتقد للأعماق !
5
لا أحبُّ أن يُشاركني أحدٌ في نظرتي لِمنْ أحِبُّ، فلا شيء أشقّ على العين منْ شَعْرةٍ ليست مِنْ هُدْبها !
6
بينما تعمل قِلةٌ بالسِّياسة تعمل الأغلبية بالنِّيات، الأمر أشبه بِدسِّ ذئبٍ في قطيع من الحِمْلانْ !
7
وأنا في المقهى، لا أسقط قبل المواسم الناضجة مع باقي التُّفاح في جاذبية الفرجة، بلْ أفكر في المتفرجين حولي وهذا الحشد الهائل الذي يجعلني مُغَيَّباً، أفكر كيف تغادر الروح الجسد بذات السُّرعة البَرْقية التي تلج فيها كرة القدم للشِّباك، لقد فشلتْ كل الثقافات بل حتى بعض الديانات، في أن تُؤلِّف بين أفئدة الناس، إلا الكرة بحجمها الضئيل، استطاعت أن تستنْسِخ على هيئتها الدائرية الرؤوس !
8
أفظع المثقفين تجدهم في كل سَلَطَة مع الشوكة والسِّكين، أولئك الذين يُلمِّعون حذاء السُّلطة، فهذا فولتير مثلا كتب عام 1767 رسالة مديح إلى «دالمبير» الذي انتُخِب أمينا دائماً للأكاديمية الفرنسية: إن الرَّأي هو الذي يحكُم العالم ولك أنْ تحْكُمَ الرأي..!
9
لا شيء يتغيَّر في مشهدنا الثقافي الآسِن، سوى أنَّ الأيام تدور في عَوْدِها البدئي، ليتطوَّر ضفْدعٌ إذا سَمَح داروين إلى تمساح!
10
حرِيٌّ بمن يُكْثرون الشكوى دون أن يمُدُّوا أياديهم أبعد من اللسان، أنْ يبحثوا لهذه الشكوى في البحر بعد أن أصبح البر بدون أمان، عن تلحينٍ مُناسب تسْتسيغه الآذان، وأؤكِّد أنها ستبُزُّ أكثر الأغاني مبيعاً، وتُدِرُّ مع الأموال البكاء دون بصل !
11
لا أعرف في أي باب مفتوح أو مُغْلَق يمكن أن نصنِّف بعض الرسائل، وهل هي للكفران أو الغفران، وتحضرني هنا رسالة قال عن هوسها «فريديك طاشو» وهو أستاذ علم الجمال ومُخْرج، إنَّ الجنس قد ولج إلى الحداثة من خلال رسالة كتبها الشاعر الفرنسي «بول إيلوار» إلى زوجته «غالا» عام 1926، يهتف في سطورها: السينما فاحشة، يا للروعة! إنها مثيرة. اكتشاف. الحياة الخلَّابة للعلاقات الجنسية الواسعة والرائعة على الشاشة، وحياة الجسد العاشقة، كل التَّشوُّهات تثير الإعجاب، إنها ذات شبقية مجنونة (...) لقد هيَّجتْني السينما بطريقة غاضبة..!
12
لأنه مثقفٌ تعوَّد أن يمتلىء عن آخره من المحيط إلى الخليج، أصبح يقرأ أي شيء قابل للأكل، ما دامت العُلبة تحمل اسم المنتوج؛ سواءً كان شِعراً أو تَمْر عجوة، أو حتى برسيماً، المهم أن هذا المنتوج ينتهي بكلمة: حلال!
..........................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس فاتح يوليوز 2021.
1
يغيبُ بعضُ الشُّعراء وتصِلُ رسائلهم ليس إلى التابوت في صندوق البريد ولكن لتستقرَّ في القلب المشدود بحبل الوريد، ومنها هذه الرسالة التي ربما بِعُمر ابنتي "روان" وها قد تجاوز عمرها العقد بسنتين حول جِيد الزمن، وصلتْني من الشاعر العزيز إدريس عيسى، وكنتُ افتقدْتُهُ بعد أنْ غيَّبتْه "امرأة من أقصى الريح"، ولا أعرف في أي عاصفة أو عاطفة كان يقف منتظرا أن يَلُوح الأفق ببارقة أمل، يقول في رسالته التي ما زالت تبعث نفسها كل يوم من الأنقاض:
(أخي محمد، بلغني من الصديق عسيلة بوعيشة أنك سألتَ عنِّي، ما مِنْ أحدٍ يسأل عنِّي منذ زمن، أنا في الغيابة، أجاري الليل وأجهد في فهم ما أرى، أكتب وأكدِّس البيادر وليس يُهمُّني من بعد أن تترمد، أو تتعفن أوراق الكراريس، أو أفقدها كما فقدت من قبل مجموعة كاملة، لم أعد، من شدتها وتواترها، أقدر أن أحصي الأمراض التي ألمَّت بي منذ عودتي من جيبوتي؛ أرض اللعنة والخسوف، يصلك بريدي الضوئي هذا، فليت عروق الجن التي أوصلته تبقى مشدودة غير منكوثة. لا أومن بهذه العوالم المقذوفة إلينا عبر الأسلاك على الشاشات. لا أسخر الإنترنيت إلا لماما. عيناي تعبتان. بوركت المولودة وبورك اسمها الأمزيغي (أهو روال؟) ستعصف بروحك ولسانك ويدك التي تكتب، لا ريب. أتمنى لها العافية والمقام السعيد أبدا بيننا على هذا الكوكب. حبا).
أخوك إدريس عيسى
2
بعض المناصب الحسَّاسة في الدولة، يثير كثرة تناولها في الأطباق الإعلامية الحساسِيَّة حتى على مستوى البشْرة، ولمَ لا وفي كل مرة نُفاجَأ أنه اختير لبعض هذه المناصب شخصٌ غير مناسب نزل بقرار سياسي من فوق مع خيوط العناكب، لذلك فقدْنا الكفاءة وصنعنا أكثر من مَباءة !
3
أول شيء صنعه الانسان كي يتعرَّف على نفسه في أعين الآخرين هي المرآة !
4
الظهور يحتاج أيضا لموهبة وخزانة من الكتب في الرأس، وليس فقط لحُبِّ الظهور الذي يجعل البعض جارياً بغرور مع كل قنوات الصرف متناثرا أيضاً مع الأوراق، وإلا ماذا يُجْديك أن تظهر بوجهك المليح على سطح القمر وأنت تفتقد للأعماق !
5
لا أحبُّ أن يُشاركني أحدٌ في نظرتي لِمنْ أحِبُّ، فلا شيء أشقّ على العين منْ شَعْرةٍ ليست مِنْ هُدْبها !
6
بينما تعمل قِلةٌ بالسِّياسة تعمل الأغلبية بالنِّيات، الأمر أشبه بِدسِّ ذئبٍ في قطيع من الحِمْلانْ !
7
وأنا في المقهى، لا أسقط قبل المواسم الناضجة مع باقي التُّفاح في جاذبية الفرجة، بلْ أفكر في المتفرجين حولي وهذا الحشد الهائل الذي يجعلني مُغَيَّباً، أفكر كيف تغادر الروح الجسد بذات السُّرعة البَرْقية التي تلج فيها كرة القدم للشِّباك، لقد فشلتْ كل الثقافات بل حتى بعض الديانات، في أن تُؤلِّف بين أفئدة الناس، إلا الكرة بحجمها الضئيل، استطاعت أن تستنْسِخ على هيئتها الدائرية الرؤوس !
8
أفظع المثقفين تجدهم في كل سَلَطَة مع الشوكة والسِّكين، أولئك الذين يُلمِّعون حذاء السُّلطة، فهذا فولتير مثلا كتب عام 1767 رسالة مديح إلى «دالمبير» الذي انتُخِب أمينا دائماً للأكاديمية الفرنسية: إن الرَّأي هو الذي يحكُم العالم ولك أنْ تحْكُمَ الرأي..!
9
لا شيء يتغيَّر في مشهدنا الثقافي الآسِن، سوى أنَّ الأيام تدور في عَوْدِها البدئي، ليتطوَّر ضفْدعٌ إذا سَمَح داروين إلى تمساح!
10
حرِيٌّ بمن يُكْثرون الشكوى دون أن يمُدُّوا أياديهم أبعد من اللسان، أنْ يبحثوا لهذه الشكوى في البحر بعد أن أصبح البر بدون أمان، عن تلحينٍ مُناسب تسْتسيغه الآذان، وأؤكِّد أنها ستبُزُّ أكثر الأغاني مبيعاً، وتُدِرُّ مع الأموال البكاء دون بصل !
11
لا أعرف في أي باب مفتوح أو مُغْلَق يمكن أن نصنِّف بعض الرسائل، وهل هي للكفران أو الغفران، وتحضرني هنا رسالة قال عن هوسها «فريديك طاشو» وهو أستاذ علم الجمال ومُخْرج، إنَّ الجنس قد ولج إلى الحداثة من خلال رسالة كتبها الشاعر الفرنسي «بول إيلوار» إلى زوجته «غالا» عام 1926، يهتف في سطورها: السينما فاحشة، يا للروعة! إنها مثيرة. اكتشاف. الحياة الخلَّابة للعلاقات الجنسية الواسعة والرائعة على الشاشة، وحياة الجسد العاشقة، كل التَّشوُّهات تثير الإعجاب، إنها ذات شبقية مجنونة (...) لقد هيَّجتْني السينما بطريقة غاضبة..!
12
لأنه مثقفٌ تعوَّد أن يمتلىء عن آخره من المحيط إلى الخليج، أصبح يقرأ أي شيء قابل للأكل، ما دامت العُلبة تحمل اسم المنتوج؛ سواءً كان شِعراً أو تَمْر عجوة، أو حتى برسيماً، المهم أن هذا المنتوج ينتهي بكلمة: حلال!
..........................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس فاتح يوليوز 2021.
Mohamed Bachkar
Mohamed Bachkar is on Facebook. Join Facebook to connect with Mohamed Bachkar and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com