أربع رسائل من الأديب المهجري نبيه سلامة إلى الشاعر مفيد نبزو

[HEADING=1]أربع رسائل بين مفيد نبزو ومحفوض جروج ونبيه سلامة [/HEADING]



لحضرة المربي الأول الشاعر الأديب نبيه سلامة الموقر
تحية عربية صادقة ، وأشواق حارة نبثها إلى شخصك الغالي الكريم من عطر القلب ، وأريج الروح ، وبوح المشاعر . من عاطفة الحب والتقدير والإجلال . من هنا من هذه المدينة التي أحببتها وأحبتك . قدرتها وقدرتك . كبرت فيها وكبرت فيك . هذه التي أفرعت أغصانها من ينبوعك الثري ، فأعطت ثمرا ً ، ونعم ما أعطت ، وأشرقت الشمس فيها من ضياء نورك ، فكانت مدينة السحر والنور .. مدينة الحب والجمال .. طوبى لك أيها المربي الأول ، ولا نقول سواها لما تحمله هذه العبارة من معزة في قلبك ، لأنها تتردد في ذاكرتك ، فتورق في فكرك الخصيب ، وتزهر في مشاعرك النبيلة السامية .
من المدينة التي قلت فيها :
سبحان من جمع الجمال ونضده ورمى به عقدا ً بجيد محرده
بلد يعيش مع العصور ولم يزل في سلك فاتنة البلاد زمرده
لو كان لي يومان أقضي واحدا ً في حمص والثاني بكنف محرده .
هاهي اليوم تقول :
هذي محردة ُ يا نبيه سلامه تهديكَ كلَّ محبةٍ وسلامه
يا من أتيتَ إلى محردة َ مشعلا ً نورا ً تفيضُ وثورة ً وكرامه
مَعْ كلِّ طيرٍ ألفُ ألفُ تحيَّةٍ مَعْ كلِّ عصفورٍ وكلِّ حمامه
تدعو إليك بصحَّةٍ وسعادةٍ لتظلَّ في هذي البلادِ دعامه
فرشتْ إليكَ القلبَ دربا ً أخضرا يا من يعزُّ على القلوب مقامه
هذي محردة ُ يا نبيه سلامه تدعو إليك بصحَّةٍ وسلامه .


*****


الرد بتاريخ – 19 - 3 - آذار 1985 م من ساو باولو – البرازيل .

عزيزيَّ مفيد نبزو ومحفوض جروج الأكرمين
تحية بشوق وإخلاص
تسلمت رسالتكما المسجلة ، وفيها فيض من العاطفة والثناء ، وقصيدة لطيفة . من أنتما ؟ لا أدري ، أسمعتما حديثا ً عني من الأبوين أو الجدين ؟ قد يكون ذلك ، ولكن المهم أني تجاه شابين أديبين يحملان عاطفة فياضة نحو البلد الذي أنبتهما ، ويحرصان على صداقة من نشر فيه الحرف .
دخلت محردة عام 1927 م ، وكانت أول خطوة في حياتي للعمل ، وحملني إلى هناك مطران حماة اغناطيوس الحريكة ، ومطران حمص أبيفانيوس زائد ، والعلامة عيسى أسعد ، ومحرر جريدة حمص محرز سلامة ، ونزلنا في بيت المغفور له عبود بيطار ، وكنت يومئذ دون السنة الثامنة عشرة من العمر ، ولكن شهرتي كانت أكثر مني لكثرة ما نشرت من مقالات وقصائد في جرائد ذلك العصر ، وكان دخولي محردة معلما ً رسميا ً من وزارة المعارف السورية ، وكنت أول معلم رسمي يدخل البلدة ، وكان الأولاد يدرسون بصفة بدائية على يد المعلم أسعد هزيم ، وباشرت بتنظيم الدراسة ، وبعد مدة أرسلت الوزارة محمد الشققي من حماة ، ومن ثم يوسف الخوري من البيضا ، ومن بعده جورج غشاش من دمشق ، ومن ثم الآنسة عازار من حماة لتعليم البنات ، وبعد تنظيم الصفوف أخذت الصف الرابع إلى حماة وقدموا الامتحان لشهادة سرتفيكا ، فكان نصيبهم كبيرا ً في النجاح ، وبينهم بطرس سلوم الذي أقنعت والده لإرساله إلى حمص لإتمام الدراسة ، ومنها أخذته إلى دار المعلمين في دمشق ، وعندما زرت الوطن عام 1971 م ذهب إلى حمص لاستقبالي ، وأخبرني أنه معلم في تجهيز حماة ، وسألته عن الكثيرين وبينهم حبيب هزيم وكان تلميذا ً ذكيا ً ، فأخبرني أنه مطران اللاذقية ، ووضع سيارته تحت تصرفي لزيارته ، وفي العام الفائت حظينا بمقابلة غبطة البطريرك ورحبت به ، وكانت في كل اجتماع كلمة معلمي لا تفارق شفتيه .
أحببت محردة وأحفظ لها أجمل الذكريات ، وعندما زرت الوطن عام 1971 م قمت بزيارتها فرأيتها بلدة عصرية بالبنايات والشوارع والماء والكهرباء والهاتف ، وأقول بحق إني لم أعرفها للخطوات السريعة التي قامت بها ، والتف حولي فريق كبير من الذين أعرفهم ولا أعرفهم ، وتحدثنا عن الماضي وكيف كنا ، وكيف صرنا ، فانتصب شاب لا أعرفه ، وقال : الفضل لك أنت المربي الأول ، فأعجبني هذا اللقب ، ونشرت في جريدة حمص التي منذ عشرين سنة وأنا أراسلها أسبوعيا ً من البرازيل ناقلا ً أنباء المغتربين ، وتأسفت لأن زيارتي لمحردة لم تدم أكثر من ساعتين ، وكان لابد من العودة إلى حمص لحفلة أعدوها لي هناك ، ولكني سألت عن السيدة خشوف صاحبة البيت الذي سكنته ، وكانت تعطف عليَّ عطف الأمهات ، فأخبروني أنها مريضة ، ولكنني ألححت بالطلب فنقلني ابنها إلى المنزل ، وكانت بحالة نزاع لا تعي على شيء ، فأسفت لذلك ، وقد تكون توفيت بذات اليوم أو في اليوم الثاني ، وكان بودي أن أنقل لها أخبار وتحيات أولاد زوجها عبدالله وابراهيم ، وكانا يترددان على ساو باولو ، وابراهيم كان تلميذا ً عندي ، ويؤلمني أن أقول : إن كليهما غادر هذه الحياة في إبان الشباب ، وفي ذلك اليوم قدَّم لي سليمان الحلاق إلفية عرق من إنتاجه ، فنقلتها إلى حمص ، ومن تلاميذي الذين أفاخر بهم يوسف الخال ابن قسيس الكنيسة الإنجيلية في محردة ، وهو اليوم من الشعراء المشهورين في لبنان .
وقابلت مرة وصدفة في البرازيل أسعد البيطار ابن عبود البيطار وشقيق حبيب وفتوح وموسى وسمعان ، وكان ذلك يوم عيد عندي لأنه يسكن في جمهورية الأورغواي وهي جارة البرازيل ، ولم أعرف عنه شيئا ً بعد ذلك اليوم .
صفوة القول : محردة مالكة خيالي وشعوري وإحساسي وأطرب لسماع اسمها أو أي خبر عنها ، وصدق الشاعر حين قال :
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينهُ أبدا ً لأول منزل ِ.
فشكرا ً لكما لأنكما بعثتما في نفسي ذكريات يطيب لي التحدث عنها .
لقد أثبتت الخبرة والبرهان بأني لا أصلح للتجارة ، فهي بعيدة عني لذلك من عهد بعيد ، وعملي في تحرير الصحف والمجلات العربية .
يوم 4 آذار الجاري أتممت عامي السابع والسبعين ، وإذا ساعدت الأمور وساعدت الصحة فبودي زيارة الوطن في الصيف القادم وطبعا ً ستكون محردة في طليعة الأماكن التي أزورها ، ونفسي أن تتحقق الأحلام .
سلامي لمحردة بشيبها وشبابها .. بعجائزها وحسانها .. بترابها وعاصيها ،
ولكما في الختام تحية عطرة وكلمة شكر على ما بعثتماه من ذكريات حبيبة .
ملاحظة : جريدة حمص : تأسست عام 1909 م وقد تبرع بمطبعتها آنذاك السيد بشارة عيسى محرداوي المولود في اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار سنة 1876 م في حمص .
وكذلك تبرع ببناء جناح للميتم السوري في سان باولو- البرازيل كلف (25) كونتاً عملة برزيلية، وبمائة ليرة انكليزية إلى جمعيات حمص الخيرية لتوزع على الفقراء دون تفريق في المذاهب والأديان ، ونظم له الشاعر القروي قصيدة ثناء وشكرعلى إحسانه موجودة في ديوانه لتخلد ذكراه .








*****

الشاعر المهجري والمربي الأول الأستاذ نبيه سلامة المحترم
تحية صادقة وسلام حار من أعمق الأعماق .. تحية حب من الروح .. تحية احترام وتقدير من محردتك .. من أهلك وبعد ،
إننا إذ استلمنا رسالتكم المؤرجة بعطر المحبة فرحنا كثيرا ً جدا ً ، وفيها تنشقنا رائحة روحك الشذية ، وقلبك المفعم بالخضرة والحياة . استلمنا رسالتك التي لا نستطيع إلا أن نقول إنها من نسغ مشاعرك النبيلة السامية ، وعواطفك الفياضة ، فوجدنا فيها أمنيتنا المثلى ، وآمالنا العظيمة ، أمنيتنا المرجوة وأملنا المنشود ، ولأنك تطرب لسماع كلمة محردة ، فنحن نطرب لسماع اسمك يتردد على الشفاه ويشعشع في القلوب ، فألف تحية وسلام من محردة الزاهرة ، محردة العامرة إلى أول من فجَّر ينبوع الكلمة فيها . ماذا نقول بعد أن جمعتنا الحروف على روحانيتها ؟. ماذا نقول بعد أن نوَّرت أمامنا ذكريات مضيئة ستبقى مخلدة في الذاكرة عبر الأجيال ؟ . هل نقول :
أنتَ المعِّلمُ يا نبيهُ ولم تزلْ في بلدتي أنتَ المربِّي الأولُ .
أجل هكذا كنت ، وهكذا تبقى ، وليتنا نستطيع أن نؤدي ولو القليل القليل من الواجب تجاهك . قالوا : أنت المربي الأول ، وصدق من قال ، ونفتخر نحن إذا قلنا : أنت النجم الأول في سماء محردة ، وأنت النبع الأول الذي أنعش تربتها . أنت الأساس الأول في بناء شموخها ، فألف تحية حب ، وألف قبلة شوق ، وطلبنا منه أن يوافينا بمعلومات عن محردة في ذلك الوقت ، وأرفقنا الرسالة بصورة لصبايا حسناوات بالزي المحرداوي التقليدي ، فجاءنا الرد في – 1 - أيار – 5 - 1989 م :
عزيزيَّ مفيد نبزو ومحفوض جروج المكرمين
تحية إكرام وقبلة شوق للأديبين اللامعين اللذين طبعت رسمهما في خاطري ، وحبهما في قلبي .
هذه رسالتكما اللطيفة الساحرة أمامي ، ومعها ذلك الرسم رسم فتيات محردة في ثياب العيد أثار هذا الرسم الكثير من ذكريات محردة ، وكيف تمازجت مع البلد كل التمازج ، إذ تخلصت من الطربوش وارتديت الحطاطة والعقال ، وأهملت البنطلون ، وشاركت الشباب في ألعابهم وأفراحهم ، وأصبح بيتي ناديا ً للشباب ، فكل ليلة نلعب الورق وطاولة الزهر والضاما ، وكله لبو جعل وليس بو تعليك ، والربح نشتري به فورا ً قضامي وبزر وملبس ، ويأكل الجميع برغبة وشهية مع الأناشيد المعروفة للخاسرين ، وكانت عدة كتاتيب في البلدة ، وكل معلم يدرِّس كما يشاء القراءة والخط ، وكان أحد الكتاتيب لأسعد هزيم والد البطريرك الحالي ، وكنت قد ألحيت على أسعد هزيم لإرسال حبيب إلى دمشق ليتم دروسه ، فكان جوابه : أحتاجه لرعاية الطليان ، ولم أفهم هذه الكلمة بمعناها المحرداوي ، فسألته : وهل في محردة طليان ؟، فأجاب : موجود بكثرة .
هكذا دبت حياة التعليم في محردة ، وعندما جاء موعد امتحان الشهادة الابتدائية أخذت فريقا ً إلى حماة وفاز عدد كبير منهم ، وكان بين الفائزين حبيب الأسعد ، وكانت هذه العادة في محردة بنسبة الشخص إلى اسم أبيه بدون ذكر العيلة ، ويكتفون بإضافة أل التعريف على اسم الوالد ، ومنذ عامين جاء البطريرك هزيم إلى البرازيل زائرا ً ، وأقيمت له حفلات تكريمية عديدة ، وفي إحداها ألقى خطبة قوبلت فيها كلماته بالتصفيق وبعد أن انتهت خطبته صفقوا له طويلا ً ، وبعد ذلك نهض عريف الحفلة وقدمني ، فلما سمع غبطته باسمي وقف معتذرا ً وصاح بصوت جهوري : هذا معلمي ثم اعتذر بتلك الوداعة كيف تقدَّم على معلِّمهِ في اجتماعٍ عام .
لقد كنت وحيدا ً في محردة ، وعندما طلبت زيادة المعلمين جاءني من حماة الأستاذ محمد الشققي ، واتفقنا أن نعيش معا ً ، وأن نستأجر غرفة واحدة ، كما اتفقنا أن نأكل بعض النواشف إلى أن نقبض الراتب الأول لأن الجيبة كانت فارغة ، وهكذا تم الاتفاق ، والغرفة عند يوسف العبدالله زوج خشوف على أن تجلب لنا الماء ، وكانت الآبار بعيدة عن البلدة ، وحولها الأعشاب والحواجز خوفا ً أن توسخها الأقدام ، أما الطبخ فتعهد الزميل بإنجازه ، وعندي بعض الخبرة فيه ، وفي اليوم الأول جاءتنا خشوف بالطعام ، وفي اليوم الثاني سألتنا عما يروق لنا فقلنا كذا ، وفي الأيام التي تتالت كانت خشوف تطبخ وتغسل وتكوي بكل إتقان وغيرة ورضى ، فحرت أنا ومحمد الشققي بأمر هذه السيدة ، وكان علينا أن نضيف على أجرة البيت أجرة الخدمة ، ودفعتنا الجرأة فقلنا لها : إن ما تقومين به من الخدمة لم يكن شرطا ً مع أجرة الغرفة ، ولم يكن هذا في مساق حياتنا ، فأجابت تلك المرأة الأمية : أنا أعرف هذا ، ولن أطلب منكم أجرة على عملي ، ولكن لي أخ في البلدان الأمريكية وهو وحده كما أنتما ، وأنا أقوم بعملي لعل الله يرسل له امرأة تساعده على الحياة كما أفعل هنا معكما ، فاغرورقت عيناي بالدموع عندما لمست عاطفة هذه السيدة الحنون ، وعندما زرت محردة عند عودتي للوطن كان أول سؤال عن خشوف فدلوني على بيتها ، وذهبت وسألت عن غرفتها ، وحدثتها فلم تجب ، وذكرت لها اسمي مرارا ً ، وأمسكت بيدها فما سمعت لها إلا أنينا ً ، وكل شيء يدل على أنها كانت في ساعاتها الأخيرة ، وعندما اجتمعت بابنها ابراهيم رحبت به بكل محبة ولباقة ليس لأنه كان تلميذا ً عندي ، ولكن كرمى لتلك الوالدة الحنون التي عاشت بالحب والحنان وعمل الحسنات ، فهل شفاها الله بأعجوبة لا أدري ، وكل ما عرفته عنها أنها كانت المثل الأعلى في العاطفة الإنسانية .
وابن خشوف يعيش في شمال البرازيل ، وهو بعيد جدا ًعن ساو باولو ، وزار مرة ساو باولو فرحبت به كل الترحيب لأني مدين لوالدته لعلي أفيها بعض الشيء ، وأخبرني أنه تزوج وعنده أولاد ، وسينقل إقامته إلى ريودي جانيرو ، وبعد تلك الزيارة انقطعت أخباره عني ولا أعرف شيئا ً عن مصيره .
هذه الصورة التي بعثتماها لي أثارت بي كل ذكريات الماضي ، وتلك الأحداث التي مرت بي ولا تزال عالقة بذهني .
تحياتي لكما ولمن يلوذ بكما ، ولكل من لا يزال يذكر نبيه عندكم ، ولكما في الختام تحية شيخ في الثانية والثمانين من العمر ، ولكنه لا يزال مَرِحا ً مُحبَّا ً لا يعترف بالشيخوخة ، ولا يبالي بعدِّ السنين .

*****


1-أيار-1989

عزيزيَّ مفيد نبزو ومحفوض جروج المكرمين تحية إكرام وقبلة شوق للأديبين اللامعين اللذين طبعت رسمهما في خاطري، وحبهما في قلبي، هذه رسالتكما اللطيفة الساحرة أمامي بدون تاريخ ومعها ذلك الرسم، رسم فتيات محردة في ثياب العيد. أثار هذا الرسم الكثير من ذكريات محردة، وكيف تمازجتُ مع البلد كل التمازج إذ تخلصت من الطربوش، وارتديت الحطاطة والعقال، وأهملت البنطلون واستعملت العقال، وشاركت الشباب ألعابهم وأفراحهم، وأصبح بيتي نادياً للشباب، فكل ليلة لعب ورق وطاولة الزهر والضاما، وكله «لبو جعل» ولبس «بو ----»، والربح نشتري به فوراً قضامي وبزر وملبس، ويأكل الجميع برغبة وشهية مع الأناشيد المعروفة للخاسرين. وكانت عدة كتاتيب في البلدة، وكل معلم يدرس كما يشاء القراءة والخط فقط، وكان أحد هذه الكتاتيب لأسعد هزيم. وكنت قد ألحيت على أسعد هزيم لإرسال حبيب إلى دمشق ليتم دروسه، فكان جوابه: أحتاجه لرعاية الطليان، ولم أفهم هذه الكلمة بمعناها المحرداوي، فسألته وهل في محردة طليان، فأجاب: موجود بكثرة هكذا دبت حياة التعليم في محردة، وبعد ثلاث سنوات، جاء موعد امتحان الشهادة الابتدائية، فأخذت فريقاً إلى حماة، وفاز عدد منهم من أبناء المدينة، وكان بين الفائزين حبيب الأسعد، وكانت هذه العادة في محردة بنسبة الشخص إلى اسم أبيه بدون ذكر العيلة، ويكتفون بإضافة "ال" التعريف على اسم الوالد، ومنذ عامين جاء البطريرك إلى البرازيل زائراً وأقيمت له حفلات تكريمية، وفي إحداها ألقى خطبة قوبلت كلماته بالتصفيق، وبعد أن انتهت خطبته، وصفقوا له طويلاً وقفت بدوري وطلبت الكلمة، فقدمني عريف الحفلة، فلما سمع غبطته باسمي، وقف معتذراً وصاح بصوت جهوري: هذا معلمي ثم اعتذر بتلك الوداعة كيق تقدم على معلمه في اجتماع عام. لقد كنت وحيداً في محردة، وعندما طلبت زيادة المعلمين جاءني من حماة الاستاذ محمد الشققي، واتفقنا أن نعيش معاً وأن نستأجر غرفة واحدة ونأكل بعض النواشف إلى أن نقبض الراتب الأول، لأن الجيبة كانت فارغة، وهكذا تم الاتفاق. واستأجرنا الغرفة عند يوسف العبدالله زوج خشوف على أن تجلب لنا الماء، وكانت الآبار بعيدة عن المدينة وحولها الأعشاب والحواجز خوفاً من أن توسخها الأقدام، أما الطبخ فتعهد الزميل بإنجازه، وعندي بعض الخبرة فيه. ولكن في اليوم الأول جاءتنا خشوف بالطعام، وفي اليوم الثاني سألتنا عما يروق لنا فقلنا كذا، وكنا نعتقد أنه جزئ من أدب الضيافة، وفي الأيام التي تتالت كانت خشوف تطبخ وتغسل وتكوي بكل اتقان وغيرة ورضى، فحرت أنا ومحمد الشققي بأمر هذه السيدة، وعلينا أن نضيف على أجرة البيت أجرة الخدمة، ودفعتنا الحاجة إلى الجرأة فقلنا لها: إن ماتقوم به من الخدمة لم يكن شرطاً مع أجرة الغرفة، ولم يكن هذا من مشاق حياتنا، فأجابت تلك المرأة الأمية: أنا أعرف هذا، ولا أطلب منكم أجرة على عملي، ولكن لي أخ في البلدان الأميركية وهو وحده كما أنتما، وأنا أقوم بعملي لعل الله يرسل له امرأة تساعده على الحياة كما أفعل هنا معكما. فاغرورقت عيناي بالدموع عندما لمست عاطفة هذه السيدة الحنون، وعندما زرت محردة عند عودتي للوطن كان أول سؤال لي عن خشوف، فدلوني على بيتها، فذهبت وسألت عن غرفتها، وحدثتها فلم تجب وذكرت لها اسمي مراراً، وأمسكت بيدها فما سمعت لها إلا أنيناً، وكل شيء يدل على أنها كانت تعاني ساعاتها، وعندما اجتمعت بابنها ابراهيم رحبت به بكل محبة ولباقة وليس لأنه كان تلميذاً عندي، ولكن كرمى لتلك الوالدة الحنون التي عاشت بالحب والحنان وعمل الحسنات، فها شفاها الله بإعجوبة، لا أدري، وكل ماعرفته عنها أنها كانت المثل الأعلى في العاطفة الإنسانية. وابن خشوف يعيش في شمال البرازيل وهو بعيد جداً عن سان باولو، وزار مرة سان باولو فرحبت به كل الترحيب لأني مَدين لوالدته لعلي أفيها بعض الشيء، وأخبرني أنه تزوج وعنده أولاد، وسينقل إقامته إلى إلى ريودي جانيرو، وبعد تلك الزيارة انقطعت أخباره عني، ولا أعرف شيئاً عن مصيره. هذه الصورة التي بعثتماها لي أثارت بي كل ذكريات الماضي وتلك الأحداث التي مرت بي ولا تزال عالقة بذهني. تحياتي لكما ولمن يلوذ بكما ولكل من لايزال يذكر نبيه عندكم، ولكما في الختام تحية شيخ في الثانية والثمانين من العمر، ولكنه لايزال مرحاً، محباً لايعترف بالشيخوخة، ولا يبالي بعدد السنين.









***











*****
– 27 – 8 - 1985 م

تحية وسلاما سائلا ً لكما ولمن يحيط بكما كل طيبات الحياة .
أكتب لكما من حمص التي وصلتها منذ عشرة أيام ، وقابلت فيها من تركت من أنسباء وأصدقاء ، وعليَّ الآن أن أقوم بزيارة خاطفة إلى البلد الثاني الذي أحببته محردة ، وقريبا ً أكون بينكم وأعود كما عاد الابن الضال لمشاهدتكم ، فتقبلا مني أطيب التحيات ، وانقلاها إلى الأعزاء الذين أذكر منهم : جميل – فهد – كريم – تامر بيطار ، موسى بشارة ، سليمان حلاق ، عبدو جليل ، فهد موسى الخوري ، ابراهيم سلوم ، شحادة شيحان ، ولكما في الختام تحية المخلص ، وإلى لقاء قريب .


1677930874469.png 1677931125555.png 1677931186745.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى