مصطفى نصر - لقاءاتي مع الأستاذ نجيب محفوظ

اللقاء الأول فى حديقة سان استفانو

جاءني بعض الزملاء لكى نذهب لمقابلة الأستاذ نجيب محفوظ في كازينو "بترو" بالإسكندرية. ذلك المكان الذى كان يجلس فيه - صيفاً- مع الأساتذة توفيق الحكيم وثروت أباظة والعديد من كتاب مصر المعروفين، لكننى رفضت، لأنني لا أستطيع أن أقدم نفسى لأحد على أنى كاتب قصة دون أن يكون قد قرأ لى من قبل. ودعتني الظروف بعد عدة سنوات إلى مقابلته فى حديقة فندق سان استفانو حيث انتقل إليه بعد هدم بترو. يومها وجدتُه يجلس مع شاعر من أسرة غنية لم أكن قد قرأت له أو حتى سمعت عنه. كان يحكى لنجيب محفوظ عن تجربته فى إنتاج أحد الأفلام العربية من إخراج قريب له. واقتحمت عليهما الجلسة مما ضايق الشاب الثرى فلم يرتح لوجودي. كان نجيب محفوظ ودوداً معى. نظر إلىّ وتحدث معى تاركاً الشاب الآخر والكلمات لم تزل فوق شفتيه. قال نجيب محفوظ لى:
- ماذا تفعلون فى الإسكندرية؟ كيف تنشرون أعمالكم؟
حكيت له عن تجربتنا فى نشر الأعمال على نفقتنا الخاصة. قال:
- الناس لا تقرأ الآن.
- والحل؟
مط شفتيه. قال الشاب الآخر الذى ضاق بتغيير الحديث من السينما إلى الأدب:-
- تجربة الدكتور أنس داود فى رأيي هي الحل الأمثل (وأنس داود شاعر سافر إلى بلد عربية غنية ومكث بها عدة سنوات وعاد ممتلئاً بالنقود. وهو يجالس نجيب محفوظ كثيراً فى القاهرة والإسكندرية).
قلت لنجيب محفوظ:
- الحل فى رأيي أن يفعل الأدباء ما فعلته سيادتك فى أول حياتك. لقد كتبتَ للسينما عندما كانت رائجة فلماذا لا نكتب للتلفزيون بجانب أعمالنا الأدبية ؟!
قال فى هدوء شديد:- لكن تجربتي مع السينما لا أعتبرها من تاريخي الأدبي.
قلت: كيف؟ لقد كتبتَ فيلم "درب المهابيل" وهو فى رأيي من أهم إنجازات السينما المصرية حتى الآن.
تردد قليلاً ثم قال مجاملا:
- عندك حق. هو فيلم يستحق أن أعتز به.
فجأة قال الشاب الثرى:
- تمارس لعبة المصارعة؟
ضحكت قائلاً:
- إننا نتحدث عن السينما والأدب.. فما الذى ذكرك بالمصارعة ؟
قال:
- جسدك يدل على أنك مصارع.
كان نجيب محفوظ يتابع هذا فى صمت. نظر فى ساعته وقال للشاب الثرى:
- ذهبت إلى محطة الرمل وسألت عن مجلة "..." (مجلة يصدرها حزب معارض تتابع الذين يتعاملون مع إسرائيل ثقافياً. وقد اتهمت نجيب محفوظ فى عددها الأخير بأنه قابل مفكراً إسرائيلياً فى قهوة ريش بالقاهرة).
قال الشاب الثرى:
- سيأتي الأصدقاء بعد قليل ومعهم نسخ منها.
عاد نجيب محفوظ إلى الخلف، شد ظهره إلى مسند المقعد، ونظر الشاب الثرى إلىّ فى صمت وضيق، شعرت بأنه يتمنى أن أقوم وأنصرف. إحساسى هذا جعلنى أتشبث بالبقاء. نظرت إليه متحدياً. نظر هو إلى المائدة الخالية فى شرود. ونظرت أنا إلى الباب الحديدى الواسع، فقال نجيب محفوظ مجاملاً: أهلاً بك.
أراد أن يقطع الصمت الذى حط على الجلسة منذ لحظات. وليرحب بي بصفتي أول مرة أقابله. وأحسست بأننى فى حاجة لأن أثبت لهما أننى كاتب ولست دخيلاً عليهما. فذكرت زميليّ فى ميدان الكتابة محمد الجمل وسعيد سالم لعلمي أنهما يشاركان نجيب محفوظ جلسته دائماً. قال الشاب:
- تعرفهما؟
- نعم.
قال: " آه ".
قالها وكأنه أدرك شيئاً خافياً عليه. انتظرت أن يكمل. لكنه اكتفى بهذه (الآه) وعاد إلى صمته. قال نجيب محفوظ:
- أتيتم فى وقت غير مناسب. فى الماضى لم يكن هناك تلفزيون وكانت المجلات والجرائد تنشر القصائد والقصص فى الصفحات الأولى.
شعرت بالأسى. لقد قضيت عمرى كله أحلم بأن أكون أديباً معروفاً. ضحيت من أجل هذا بالكثير. تخيل عندما تحس بعد ذلك أنك ضحيت من أجل لا شيء، من أجل سراب. تذكرت قصة كتبتها عن صانع طرابيش علمه أبوه الصنعة أيام كانت منتشرة ورائجة، ومات الأب دون أن يعلمه صنعة سواها، وفجأة ألغت الدولة الطرابيش. وأغلق أصحابها دكاكينهم. انتهت الصنعة قبل أن يبدأ هو عمله.
كان نجيب محفوظ متأثراً بمقاطعة البلاد العربية لكتبه بعدما نشر عن تأييده لمبادرة كامب دافيد.
ثم حضرت باقى الشلة. بعضهم يعرفني أو قرأ لى من قبل. كان الشاب الثرى صامتاً مهموماً طوال الوقت (وعلمت أنه فى الجلسات السابقة كان يضحك ويسخر ويقلد الشخصيات العامة)
قال أحدهم للشاب الثرى:
- اليوم أنت مش مبسوط!
أومأ برأسه وعاد ثانية لحزنه وشروده.
تحدثوا عن مقالات نشرت ضد الذين يتعاملون مع إسرائيل ثقافياً. قلت:
- إنها المجلة الحكومية الوحيدة التى تستطيع نشر مثل هذه المقالات.
قال أحد أفراد الشلة للشاب الثرى:
- نفس رأيك الذى قلته من قبل.
فقال فى حدة:
- اليسار يسيطر عليها وسوف تطرد هيئة تحريرها فى القريب (وتغيرت بالفعل هيئة تحرير هذه المجلة بعد أشهر قليلة. وتولت إدارتها مجموعة أخرى جعلتها مثل سائر المجلات الحكومية).
كنت أفكر فى المأزق الذى وقعت فيه. أحاديث نجيب محفوظ المقتضبة ومجاملاته التى تثير الدهشة (يحكون أن أديباً شاباً غير معروف وغير جيد أعطاه مجموعته القصصية المطبوعة بالماستر ليقرأها، فتصفحها فى الجلسة ثم قال مجاملاً:
- جيدة.
فطلب منه الأديب الشاب أن يكتب عنها. بحثوا عن ورقة ليكتب فيها فلم يجدوا. ففتح الشاب علبة سجائره بعد أن وضع ما فيها من سجائر فى جيبه. وكتب نجيب محفوظ كلمة قصيرة عن المجموعة، نشرها الشاب على ظهر مجموعته القصصية الثانية!!).
نظر نجيب محفوظ فى ساعته وقال للشاب الثرى:
- التاسعة، أليس كذلك؟
أجابه بنعم.
وقف؛ فوقفنا جميعاً، صافحنا وسار خارجاً من باب الحديقة. ووقف الشاب الثرى شارداً، صافحنى الجميع سواه، ساروا أمامى خارجين من الباب، تابعتهم حتى خرجوا ثم سرت، أحسست بالضيق وكأننى خسرت صفقة عمرى.
سرت فى الطريق، وجدت نفسى أمام محطة " جليم ". وقفت أنتظر الأتوبيس. المحطة خالية، ليس بها سواى. شعرت أن الوقت قد طال والأتوبيسات لن تأتى. أردت أن أجلس. كان جسدى غير قادر على الوقوف. وشعور يغمرنى بأننى ابتعدت عن بيتى مسافات شاسعة، كأننى ضللت الطريق وسرت فى صحراء واسعة بعيدة.
اللقاء الثانى بجوار مبنى مؤسسة الأهرام:
كنت أسير بجوار مبنى مؤسسة الأهرام ومعى الصديق محمود قاسم. وقد تسلمت ما يخصنى من رواية " الهماميل " بعد طبعها فى روايات الهلال. ورأينا نجيب محفوظ يسير وحيداً ذاهباً إلى الطريق العمومى لينتظر تاكسى، صافحناه، قلت لمحمود قاسم:
- أعطه نسخة من الرواية؟
قال: اعطه.
تذكرت وأنا أخرج النسخة من الحقيبة، وأنا أكتب الإهداء، أن صديقي سعيد بكر أرسل إليه روايته فاعتذر له برسالة عن عدم تمكنه من قراءتها، فهو منذ أصيب بالسكر لا يقرأ إلا الأعمال التى يحتاجها فى كتابة أعماله. وقلت هذا للأديب جمال الغيطانى عندما فكر فى تخصيص صفحة الأدب التى يشرف عليها لى، واقترح أن يعمل لقاء بينى وبين نجيب محفوظ. قلت له هذا. فقال الأستاذ جمال الغيطانى:
- بالعكس، نجيب محفوظ يقرأ معظم الأعمال التى تصدر.
المهم أعطيته نسخة من رواية الهماميل، وعندما قرأ اسمى قال لى:
- أنت مصطفى نصر ؟
وكنت أعلم أن اسمى ذكر أمامه فى جلساته فى الإسكندرية.
ظننته لن يقرأ الرواية. وبعدها بقليل حصل على جائزة نوبل، واهتم العالم كله به، واهتمت أجهزة الدولة به وإن حاول أن يكون عادياً وألا يغير عاداته التى يرتاح إليها.
وفوجئت به يتحدث عن روايتى الهماميل فى برنامج إذاعى اسمه "سمار الليالى". أبدى إعجابه بالرواية وبالطريقة التى كتبت بها. واتصل بى أكثر من صديق ليخبرنى بذلك.
اللقاء الثالث: حديقة سان استفانو مرة أخرى:
ذهبت إليه فى سان استفانو فإذا بالجو قد تغير عن لقائى الأول معه. عدد الزوار أكثر من المرة السابقة. أردت أن أحدثه عن روايتى الهماميل فظن أنى أريد أن أهديه رواية جديدة ليقرأها. قال:
- بعد نوبل، هذا صعب.
وعندما أحس بارتباكى وعدم قدرتى على توصيل الكلمات إلى أذنيه قال:
- لن يفلح هذا.
وأشار إلى صديق له قائلاً:
- قل له وهو ينقل إلىّ ما تريد.
وعندما وقفت مودعاً دق على يدى مداعباً ومبتسما .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى