د. رسول محمد رسول - مؤدّى الفيلسوف.. الفلسفة وطن العقل والعقل التنويري خليل الفيلسوف والعالَم

لقد كان التوسُّع المؤسساتي بافتتاح أقسام للفلسفة جامعية في بغداد، ومن ثم في غير محافظة عراقية مؤشراً إيجابياً على الصعيد المؤسساتي التعليمي العراقي، لا سيما مرحلة تسعينيات القرن العشرين، لكن غالب مخرجاته البحثية لم تكن سوى تراكم كمي لإنتاج كتابات فلسفية أكاديمية محدودة الأثر لا تنم إلاّ عن وجود عمّال أو شغيلة معرفة فلسفية لا فاعلية لها في المجتمع.
وما زاد الطين بِلَّة، هو ذلك الانفتاح الكمي في كتابة أطروحات جامعية لا رباط لها بين شرق وغرب، ومن دون توفر إشراف أكاديمي متخصِّص على نحو دقيق، ولا رحلات علمية، ولا لغة عربية وطيدة البلاغة؛ بل ولا حتى لغة فلسفية عربية منضبطة، فانداحت، أغلب تلك الكتابات، صوب تراكم معرفي كمي يفتقد إلى قدرات تداولية تجاه أي فعل معرفي - تنويري خارج السور الجامعي، فكيف يُراد لتلك الكتابات أن تمارس فعلاً تنويرياً يمشي على قدمين معرفيين بين الناس؟ ومن ثم كيف يُراد لأهل الفلسفة أو الفيلسوف أو المتفلسف أو صاحب المعرفة الفلسفية أو مؤثِر الحكمة أنْ يمشي بقدمين معرفيين متوثبتين بين الناس وهو لا يعير مقاماً لهم بعزوفه عن اليومي غير الاستهلاكي الحادث والاستثنائي المتوثب في حياتهم معاً أو التعالي حتى على الصُحبة العمومية خاصتهم؟
الفتح المعرفي
كل هذا وغيره، جعل المعرفة الفلسفية في العراق الراهن وصاحب هذه المعرفة، أسيران قصورِهما عن أيّة ممارسة معرفية تنويرية تداولية خلاقة في مجتمع يُدمّره الحدث الظلامي في كل ساعة؛ مجتمع يغزوه النزوع الجِّهوي الدَّموي الرعاعي في كل مكان بمتعة لاهوتية متوحشة؛ مجتمع يعيش اغترابه عن حقّه الأصيل في الحياة الآمنة المسالمة.
إن كل ذلك، يتطلَّب اليوم اللجوء إلى فتح جديد الحضور للمعرفة الفلسفية، وحراك نابض الحيوية لصاحب هذه المعرفة معاً وفي تناغم خطابي فلسفي مؤثث بروح الانفتاح الأصيل مزدوج الفاعلية؛ الانفتاح على الذات؛ ذات المعرفة وذات الفيلسوف معاً، والانفتاح على الآخر، على العالم من حولنا؛ عالمنا المحلي والكوني الذي لنا ولغيرنا في الآن ذاته وفق رؤية أنطولوجية لا تتغافل عن الأساس المشترك بين الذات البشرية والعالم الموضوعي، ذلك هو الأساس الأنطولوجي الوجودي الإنساني الذي يضمهما معاً في بوتقة الوجود.
كان الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر قد تحدَّث عن الفتح Erschließung) = (Opening)) الذي يلعبه مُمكن الوجود بذاته أو Dasein، قبل أن تكون له ماهيّة معلومة، والذي سيكتسب وجوده الماهوي عبر حدوث ما، فقال: "ينطوي حدثان أو حدوث الدازين في ماهيته على الفتح والتفسير، وانطلاقاً من هذا الضرب من كينونة الكائن، الذي يوجد على نحو تاريخاني، تنبثق الإمكانية الوجودانية للشرح والإدراك الصريح للتاريخ"، ذلك أن "ماهيّة الكائن تكمن في أن عليه - أن - يكون"، ما يعني أن "ماهيّة ممكن الوجود بذاته Dasein تكمن في وجوده"، لا في وجود غيره.
التنوير الأصيل
إن ما يحتاجه صاحب المعرفة الفلسفية، إنّما هو ذلك الوعي الأصيل بهذا الفتح في كينونته وكائنيته معاً، فهو الكفيل بجعل هذا الكائن الإنساني المعرفي "الفيلسوف" يترجَّل من كينونته/ كونه المعرفي المعزول وغير التاريخاني، صوب الانخراط في موجودية الوجود ليمارس وجوده ودوره التاريخاني، ويجعل من معرفته الفلسفية تمارس (تاريخانيتـ/ ها) في عالم منظور؛ تمارس فعلها المعرفي الحقيقي الأصيل بوصفها أحد ضروب الحدوث والوقوع في لحظة زمانية تنتج ذاتها عبر تأويل وتقويض فاعل للتحديات الذاتية والموضوعية التي تخصُّه، هو دون غيره، كموجود معرفي وكأنطولوجيا بشرية؛ كوسيط جامعي بين المعرفة الفلسفية وتلميذها الجامعي، وكوسيط بين المعرفة الفلسفية والمجتمع خارج أسوار الجامعة، كمُستحضِر لإرادة الرغبة الأصيلة بالتنوير، والتخلُّص من الشُّعور الحاد بالغربة السَّلبية، وتفادي التعالي على أنموذج فيلسوف يمكن أن يكون هادياً لمشروع تنويري ما، وتبديد مخادعة الحدوث التاريخاني لفعل التفكير الفلسفي الذي يبديه هذا الطرف أو ذاك، والنَّظر إلى ما يجري كاستثناء وحدث برؤية تواصلية مؤسَّسة على علاقة الموجود بالوجود.
لا يمكن لأي دور معرفي أصيل أن يضطلع به الفيلسوف أو صاحب المعرفة الفلسفية من دون التوافر على إرادة حقيقية أصيلة بالتنوير، وهي إرادة تعود بداية إلى الذات - ذاتها في كل مرَّة - لفتح إمكاناتها على الوجود والحضور الأصيل، بمعنى الانفتاح على الغير أو الآخر المحلي في أقل تقدير، فمن دون الإيمان بقدرة الذات على ممارسة ما هو تنويري لا يمكن الانطلاق نحو الوجود والحضور الفاعل فيهما معا.
يتخذ التنوير الأصيل هنا طابع تجربة أنطولوجية مزدوجة؛ تنوير معرفي وتنوير مجتمعي، وكلاهما يتظافر لخلق مقروء فلسفي عن الوجود منفتح على اللحظة التاريخية (الزمان) حتى يكتسب ويتحصَّل على تاريخانية حدوث اللحظة وانبثاقها ووقوعها في ضرب من الوجود الأنطولوجي معًا.
وهذا يعني أن التنوير الأصيل ليس فقط التخلُّص من قصور العقل، ومن ثمَّ الفهم، عن أداء دوره كما هو الحال مع المشروع التنويري الكانطي - نسبة إلى إيمانويل كانط - إنما قصور الذات البشرية عن ذلك وهي تعيش إحباطها الغريب، وقصور إرادة الإنسان باللجوء إلى فعل تاريخاني ينبثق من صميم إرادة الذات البشرية، فعل يخلق ماهيته عبر حدوثه الموضوعي ومن خلال انخراطه هنا أو هناك، حتى يبدو لي أن التنوير الأصيل هو فتح المعرفة على العيش معاً في العالم من حولنا، عدا ذلك لا تمثل معرفة الفيلسوف الجامعي إلا كينونة معزولة تتغنّى بذاتها لإرضاء رغباتها المعرفية بلذة مغتربة عمّا يحدث؛ معرفة محنطة في برج عاتم الأنوار.
ولما كانت الفلسفة هي وطن العقل، والعقل هو خليل الفيلسوف، فإن فعل الفيلسوف التنويري الأصيل يتخذ من العقل الإنساني النَّقدي دُربة ودرباً له. وإذا كان "عصر التنوير الأوروبي كان قد عدَّ التراث المكتوب للنَّص المقدَّس موضوعاً للنقد" - بحسب غادامير - فإنَّ الفيلسوف التنويري العربي المأمول لا بدَّ له من اتخاذ الواقع المتحرِّك موضوعاً للتفلسُف والنَّقد كمَهمة فلسفية وكتجربة ذاتية وجودية مرتبطة بوجوده كمؤثِر للحكمة، وكموجود إنساني يُفلسف اللحظة بأفق مزدوج المسار؛ أفق ذاته مع الواقع، وأفق الواقع مع ذاته عبر اعتماد فاهمة العقل بما لها من أحكام صادقة لا تأخذ البشر إلى دروب غارقة في خيالات التجريد المطلق - المنغلق على ذاته - وكذلك لا تأخذهم إلى نهاية دموية فادحة، وهو ما يتطلَّب وثبة نقدية عقلية تأويلية استثنائية ترعى مسؤولية الانخراط الأصيل في الحياة والوجود.


د. رسول محمد رسول



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى